كما نعرف أن الإنسان المعاصر يتمتع بدوائر انتماء متعددة منها الانتماء الطائفي والوطني والقومي والسياسي والإقليمي والمهني والجيلي وغيرها من الانتماءات, والشعور بالانتماء لهذه هو دينامي وسياقي, دينامي لأنه يتحرك ويتغير في فضاء الزمان والمكان, وسياقي لأنه يتعلق بالسياق الذي يوجد فيه الفرد, ففي سياق ما مثل أثناء نقاش سياسي مع مجموعة كردية أو عربية يكون الشعور بالانتماء القومي هو الأبرز, بينما يكون الانتماء المهني هو الأبرز أثناء جدال مهني. ومن غير المنصف والأخلاقي أن يطلب من الفرد أن يحصر شعوره بالانتماء إلى دائرة واحدة كالدائرة الوطنية أو القومية أو الأممية أو الطائفية, وان يتخلى عن دوائر الانتماء الأخرى, إذ أن لكل دائرة انتماء دورها النفسي والسلوكي والاجتماعي في حياة الناس, وعليه من غير المنصف وغير المجدي أيضا التعامل مع الانتماء الطائفي باعتباره مرض عضال أو آفة يجب مكافحتها. نحن هنا نكافح التعصب الطائفي الذي يقوم بقتل الإنسان من خلال حصره في دائرة انتمائية ضيقة, كالانتماء الطائفي ـ الديني الضيق, واعتبار الفرد الضحية ممثلا حقيقيا لدائرة الصراع الطائفي ـ الطائفي, متناسيين بغباء انتماءات الإنسان الأخرى الوطنية والقومية والسياسية.فكم من عشرات الألوف من الضحايا في العراق قتل ظلما وبهتانا, وعشرات ألوف أخرى ينتظرها القتل بدوافع الانتماء الطائفي قد تنفذ بأيدي قاتل أو مجرم متعصب ـ طائفي, يرى في انتماء هؤلاء الطائفي ذريعة لجرائمه, وهم أبرياء حقا لا يمتلكون من التعصب ـ الطائفي شيئا يذكر, سوا لأنهم انتموا بالأسماء أو الطوائف لهذه الطائفة أو تلك, أو لأنهم ورثوا هذا الدين أو هذه الطائفة عن أبائهم وأجدادهم, وقد لا يحمل الضحايا أي مساحة تذكر في شخصياتهم من التعصب الطائفي, وقد ينتمون إلى دوائر أخرى أوسع بكثير من الطائفية الفطرية ” الموروثة ” !!!!. أن بالإمكان للانتماء الطائفي أن يسخر للمصلحة الوطنية, وان التناقض بين الانتماء الطائفي وبين الوطني هو ليس أمرا حتميا, وان تاريخ العراق السياسي يشهد كثيرا من التوظيف المثمر للانتماءات الطائفية في الدفاع عن الوطن وسيادته ضد المحتل الأجنبي, ومن اجل ترسيخ السيادة الوطنية, وخاصة ما حصل في بداية تشكيل الدولة العراقية وما قبلها حيث لعب زعماء الطوائف السنية والشيعية وغيرها دورا مشرفا في مقارعة الاستعمار وردع طموحاته اللامشروعة والحفاظ على الوطن” , وبالإمكان من جانب آخر استغلال الانتماءات الطائفية والمذهبية لأهداف فئوية أو سياسية ضيقة أو لمعاداة القوى الوطنية, كما حصل ذلك في بعض المحطات المؤسفة والمؤذية لبعض فصائل الإسلام السياسي في تحالفها مع انقلابي 8 شباط عام 1963 والعمل بفتوى ” الشيوعية كفر والحاد ” والذي راح ضحيته عشرات الآلاف من المناضلين الوطنين والضحايا الأبرياء, وعلى العموم يجب عدم معاداة الانتماءات الطائفية, بل يجب تفهم دورها النفسي والاجتماعي في حياة الناس, وفي نفس الوقت التحذير من التعصب الطائفي الذي يقصي أو يعادي الآخرين, أذن هناك فرق بين أن تنتمي إلى طائفة ما وبين أن تتعصب لها !!!!. ويبقى الحديث عن مشروعية الانتماء إلى طائفة ما أو قومية ما أو هوية سياسية ما ناقصا بالتأكيد إذا لم يقترن بالحديث عن التعددية والديمقراطية كمنهج وكقيمة اجتماعية, والتعددية تعني قبول الآخرين المختلفين قوميا أو طائفيا أو سياسيا واحترام رأيهم وحقوقهم وطريقة حياتهم طالما أن ذلك لا يمس بحقوق بقية الفئات, ففي الوقت الذي ندعو به إلى حق الناس في ممارسة انتمائهم الطائفي يجب الدعوة بقوة إلى انتهاج التعددية والديمقراطية السياسية لكي يأخذ كل مكون اجتماعي أو ديني حجمه الطبيعي وألا يبقى خطر تحول الانتماء الطائفي إلى تعصب طائفي, كما تشهد على ذلك المظاهر العلنية والخفية للصراع في الساحة السياسية العراقية والمتلبس بثوب الطائفية والذي قام على خلفية نهج الاحتلال في التأسيس لنظام المحاصصة وزرع بذور الفتنة بين المكونات الدينية والمذهبية والطائفية والاثنية العراقية, والمتمثلة بالعديد من الإجراءات الانتحارية : مثل قانون إدارة الدولة, واجتثاث البعث, وحل القوات المسلحة العراقية, وشكل المنظومة السياسية, والدستور, وقانون مكافحة الإرهاب, ودمج المليشيات في القوات المسلحة وغيرها في العديد من الإجراءات التي تدفع صوب الاحتقان السياسي والطائفي, والذي اتضحت أثارها منذ الأيام الأولى بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003, والتي تجسدت في الحرب الأهلية السياسية ـ الطائفية, والتي سمحت لتنظيم القاعدة الإرهابي وفلول النظام المنهار أن تتصدر معارك ” الشرف والبطولة ” لإبادة شعبنا, والتي كادت تطبق على مكونات شعبنا وسحرها الجميل إلا أن نباهة شعبنا وتقاليده في التسامح الاجتماعي واللاعصبية ساهمت في تضيق نار الفتنة في محاولة لإخمادها.
اليوم يمر شعبنا ووطنا باختبار جديد هو الأخطر من نوعه منذ سقوط الدكتاتورية, وأن كان يجسد نفس رموز التحالف القديم بين أجنحة قاعدية وفلول البعث المنهار والتحالفات السيئة لدول الجوار, إلا انه وجد في الدعم اللوجستي للعشائر المرتدة وتسهيلات القيادات الإدارية والسياسية للمناطق التي دخلوها, إلى جانب انهيارات قيادات الجيش المؤقتة ضالته للاستقواء والانفراد, حتى وصل الأمر أخيرا بهم إلى إعلان ” دولة الخلافة الإسلامية في العراق ” بقيادة تنظم داعش الإرهابي, مراهنا هذا التنظيم على تصدع الجبهة الداخلية وخلق بؤر للتوتر الطائفي في داخل الطائفة الواحدة ” كم تجسده أحداث الصراعات بين مرجعية محمود الصرخي ومرجعية السيستاني ومظاهر الاشتباك مع القوى الأمنية لجرها إلى تصدعات وصراعات داخلية لكي تسهل اختراقها وتصعيد مظاهر ذلك في الوسط والجنوب الشيعي مستندين إلى الكثير من الخلايا النائمة لتنظيمات البعث, أو التي بدأت تنشط في الاوانة الأخيرة والتي تتضح في حملات الاعتقالات للكثير من القيادات البعثية في العديد من المحافظات العراقية الجنوبية وغيرها!!!!.
وإذ تتضح الآن ملامح بداية فرط العقد بين داعش والبعث وبعض من رموز العشائر المتواطئة بسبب الاختلاف ألتناحري والمصلحي في الأهداف الكبرى لهؤلاء, إلى جانب الأضرار الجسيمة والمهلكة التي سببتها داعش في المنظومة والروابط الاجتماعية والقيمية في المناطق التي احتلتها, إضافة إلى المجازر الدموية والقتل الجماعي التي ارتكبتها بحق الأبرياء والإساءة إلى الثقافة والتراث العراقي بمختلف تنوعاته ونسيجه ألاثني والقومي والديني والمذهبي والتاريخي, تأتي هنا في مقدمة الأولويات تعزيز ثقافة الانتماء الايجابي والمرن لمفهوم الانتماءات الطائفية والاثنية والثقافية والمهنية والمجتمعية بصورة عامة بما يعزز ثقافة الانفتاح على الآخر المختلف سلميا ضمن تطلعات كبرى هدفها الحفاظ على الوطن وترابه وثقافته. ويبقى القضاء على داعش وحلفائها من ابرز محكات الولاء للوطن في ابرز محنته الآن وصراعه مع قوى الظلام والتخلف والردة الثقافية والحفاظ على العراق من العودة إلى ثقافة القرواسطوية الرجعية المتخلفة !!!.