23 ديسمبر، 2024 4:18 ص

في سيكولوجيا رمادية الوضع السياسي في العراق

في سيكولوجيا رمادية الوضع السياسي في العراق

أن تحقق هدفا انسانيا مجتمعيا كالخلاص من نظام دكتاتوري يجب ان تكون لك القدرة الذاتية العالية على التنظيم والأعداد والتنفيذ الجماهيري, الى جانب التسلح برؤية مستقبلية للأحداث ما بعد سقوط النظام واستقراء للبدائل الممكنة ذات المضامين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, الى جانب القدرة العالية على اعداد الشعب وطلائعه السياسية لأحتواء احداث ما بعد السقوط.

ما حصل في العراق هو ان هناك أزمة عامة يعاني منها النظام السابق ولم يكن يستطيع الاستمرار في البقاء إلا عبر القمع الواسع وأخلاء الساحة العراقية من أي فرصة للتنظيم المعارض الواسع للنظام, وعمل النظام عبر عقود بقائه على البطش والأقصاء وتهميش المعارضة والتنكيل بها, حتى اصبح النظام تقريبا هو اللاعب الوحيد في الساحة مقابل معارضة سياسية انتشر معظمها في بقاع الارض المختلفة من دول العالم, وبالتالي نقول هنا انطلاقا من مسلمات علم الثورة: لكي تقوم بثورة ما فهناك مقومين, اولهما موضوعي يتجسد في حالة البؤس والفقر والظلم والطغيان والفساد والاضطهاد التي يمارسها ويعج بها النظام السياسي وتهالك مقومات بقائه كنظام صالح للعيش والبقاء, والمقوم الثاني وهو العامل الذاتي والذي يتضح بمستويات وعي الجماهير واستعدادها للبذل والتضحية والتنظيم الذاتي وتوفر الطليعة والنخب الوطنية القادرة على قراءة اللحظة التاريخية وقيادة الجماهير نحو لحظات مفصلية.

هذه العلاقة الجدلية بين ماهو موضوعي وذاتي في إحداث الفعل الثوري كان مفقودا نسبيا في الحالة العراقية, فالازمة الموضوعية للنظام على الارض العراقية يقابلها عوامل ذاتية تمثلها معارضة مشتتة ومتصارعة فيما بينها لدرجة التصادم وما يجمعها فقط هو اسقاط النظام الدكتاتوري, والى جانب تلك المعارضة فهناك فسحة اجتماعية رمادية واسعة تشكلت في المجتمع العراقي ومعظمها من الطبقة الوسطى والتي كيفت نفسها لتتعايش مع النظام وتفهم مزاجه وماذا يريد, كما تمكن النظام السابق من ترويضها عبر مختلف المغريات الشكلية والتي لا تتجاوز تأمين لقمة العيش في بلد انهكته الحروب والحصار, مما افقد المعارضة العراقية دور هذه الفئات واستلاب دورها المميز في عمليات التغير الجذري.

كان طول أمد بقاء النظام السابق وعدم المقدرة على اسقاطه كهدف للمعارضة من اهم العوامل السيكولوجية التي ألقت بظلالها على قوى المعارضة العراقية في خلق حالة من الأحباط النفسي المتراكم, تجسد في بعض مظاهره بردود افعال العدوان ليست ضد مصدر الأحباط ” النظام السابق ” بل سلوك عدواني بين اقطاب المعارضة نفسها, عكسته العديد من الصراعات الميدانية المسلحة والدموية بين بعض من قوى المعارضة, الى جانب اساليب العدوان الاخرى, كالخطاب السياسي المعبأ بالكراهية والتحريض والتشكيك والتخوين.

وأنطلاقا من تلك العلاقة الارتباطية الموجبة بين الاحباط والعدوان, والتي تنطبق على الافراد كما تنطبق على الاحزاب والجماعات فقد كان تراكم الاحباط لدى المعارضة العراقية والمتسبب من محاولات بقاء النظام السابق وخروجه ” سالما ” من حروبه الداخلية والاقليمية, فقد تضاعفت بقدر كبير فرص ” العدوان ” سيكولوجيا والتي تساوي محاولات اسقاط النظام سياسيا, والبحث عن كل البدائل المتاحة والممكنة لتحقيق هذا الهدف بعيدا عن جدل العلاقة المبدأية بين الوسائل النزيهة والنظيفة لتحقيق غايات سامية.

ومن هنا كان القبول بالاحتلال الامريكي للعراق واسقاط النظام والتناغم مع اجندته في بناء نظام حكم مبني على المحاصصة الاثنية والطائفية سلوكا ميكافيليا بأمتياز للغالبية العظمى من المعارضة العراقية, مرفوضا في المعايير الوطنية والقيم الدينية, واضفيت على الاحتلال صفة المحرر والمنقذ, انه سلوك لأحداث نوع من التوازن النفسي عبر تفريغ طاقة ” العدوان ” نحو النظام الدكتاتوري السابق بعيدا عن النتائج الكارثية بعد اسقاطه, وان ما ينطبق هنا على ديناميات الفرد السلوكية ينطبق ايضا على ديناميات الصراع بين الجماعات المختلفة.

اما المطالبات اليوم بخروج القوات الامريكية وقواعدها من العراق” ورغم قدسية الهدف المشروع ” فيجب على من يرفع شعار او ينادي بمطلبا أن يدرس القدرات الذاتية والموضوعية في ظل واقع مزري ونظام سياسي فاسد ومنافق ” بالامس اعتبر أمريكا محررة وفاتحة لعراق جديد واليوم محتلة وعليها الخروج, تلك هي عقدة النقص في السياسة العراقية والزعماء السياسين الذين قبلوا بالاحتلال واجندته ولكنهم أسرى لأجندة الصراع الاقليمي. وبقدر ما احتجت بعض الاحزاب والمليشيات على زيارة الرئيس الامريكي المفاجئة للقواعد الامريكية ” وهو احتجاج مشروع ” بغض النظر عن التوقيت واجندة الصراع التي تقف ورائه, ولكن كان يفترض وبنفس القدر ان تأخذهم الغيرة والحمية في الاستجابة لمطالب اهل البصرة المنكوبة والمحافظات العراقية الاخرى والاستجابة لمطالب النازحين والمهجرين والمنكوبين وضحايا الحروب والاستجابة لمستلزمات بناء دولة المواطنة التي تستطيع مقارعة الاحتلال الامريكي.

ان زيارة ترامب السرية الى العراق والتي اثارت موجة تصريحات معادية من قبل اغلب ساسة العراق والفصائل المسلحة لكن هذه التصريحات تناست اتفاقية الاطار الاستراتيجي الموقعة بين بغداد وواشنطن والتي بموجبها جاء ترامب لتفقد قوات بلاده في قاعدة عين الاسد غربي العراق كون هذه الاتفاقية تسمح للرئيس الامريكي ووزير الدفاع ورئيس هيئة الاركان الامريكية المشتركة تفقد القوات الامريكية المنتشرة خارج ارض الولايات المتحدة وحتى المشاركة ضمن تحالفات عسكرية..

وبعد عقد من الزمن تعود اليوم الاتفاقية الأمنية الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة وتتعالى الأصوات الداعية إلى إلغائها بالتزامن مع الزيارة السرية الخاطفة للرئيس الأميركي ولكن وبحسب الاتفاقية التي تم توقيعها من قبل حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي عام 2008 فإن قوات الولايات المتحدة المقاتلة والمنسحبة من المدن والمحافظات، ستبقى في المنشآت والمساحات المتفق عليها مع الحكومة العراقية. وهناك حديث عن اكثر من عشرة قواعد عسكرية امريكية منتشرة في مناطق مختلفة من العراق واكثر من عشرة آلاف مقاتل امريكي ولكن المعلومات الدقيقة لاتزال قيد الكتمان من قبل الطرفين العراقي والامريكي.

لقد استغلت زيارة ترامب الى العراق كغطاء للاحزاب الحاكمة لممارسة ديماغوجية منقطعة النظير امام الرأي العراقي العام في محاولة لأضفاء رمادية قاتمة على الوضع ومسبباته, فبدأ اقطاب حزب الدعوة بألقاء التهم على بعضهم من باب التساؤل, فجناح المالكي يقول ان العبادي هو من أتى بالامريكان لمحاربة داعش, والعبادي يقول أن من أتى بهم هو المالكي قبل نهاية ولايته وبعد سقوط المدن الغربية بيد داعش وكان ذلك بتاريخ 24 يونيو عام 2014 وان ذلك مثبتا في وثائق الامم المتحدة واستنادا الى اتفاقية الاطار الاستراتيجي بن العراق وامريكا. ان هذا الجدل البيزنطي هو لذر الرماد في عيون العراقيين ومحاولة لتبرئة الاحزاب الحاكمة من قبول الاحتلال الامريكي كعملية لتحرير العراق كما وصفت انذاك, و كما يقال ” فأن دخول الحمام مش زي الخروج منه”.

أن فشل النظام المحصصاتي المليشياوي نظام الدولة العميقة” إن كانت هناك دولة ” خلال عقد ونصف من الزمن والذي أتت به امريكا وباركته ايران, فشل في صياغة علاقة طبيعية للعراق في محيطه الاقليمي والدولي وغير قادر على حسم المسارات الاساسية في سياسة العراق الخارجية وتحديد من هم حلفاء العراق استنادا الى مصلحة الشعب العراقي, كما فشل في مسارات الاصلاح الداخلي على صعيد محاربة الفساد الاداري والمالي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

الامريكان يقولون لا نريد حليف نصفه عدو ونصفه الآخر صديق, والسياسيين العراقيين منقسمون في معظمهم الى نصفين, نصف مع امريكا ونصف آخر مع ايران, وبين النصفين هناك منطقة وسطى يمثلها شعبنا تتجسد في الرغبة في بناء عراق متصالح مع ذاته ومع محيطه الاقليمي والدولي, استنادا الى أولوية المصلحة الوطنية العراقية وبعيدا عن استخدام العراق وارتهانه لتنفيذ أجندة اقليمية ودولية. نقول ختاما لم يستفد العراق من المحتل الامريكي واستنادا الى قرارات مجلس الامن والامم المتحدة بكونه محتل وعليه ألتزامات دولية كتوفير الأمن وبناء الخدمات واعادة بناء الدولة على أسس سليمة, كما لم يستفد من محيطه الاقليمي وخاصة من ايران في بناء علاقة متوازنة تخدم العراق واستقلاليته وعدم التدخل في شؤونه الداخلية.

ومن هنا تأتي مطالبة شعبنا الواضحة في حراكه الشعبي بتوفير مقومات البيئة المواتية للاصلاح الشامل والمتمثلة في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية, وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب والذي يمنع تشكيل الاحزاب على أسس دينية وطائفية وقومية, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن من نزاهته حقا. أن التأسيس لذلك والشروع بالعمل فيه هو الضمانة الاكيدة لمستقبل العراق وحماية مستقبل أبنائه وثرواته ودرء خطر الارهاب. وهي بداية التأسيس لوطن معافى يتعايش فيه الجميع بأختلاف دينه وقوميته وطائفته وجنسه وثقافته, أنها المقدمات الضرورية لبناء دولة المواطنة التي تستطيع الخلاص من الاحتلال الامريكي وآثاره ومن التدخلات الاقليمية.