تشكل تجربة ترامب في البقاء في السلطة وممارسة الخداع السيكوسياسي من التجارب النادرة في الأنتخابات الأمريكية على مر التجربة الديمقراطية الأمريكية في اكثر من 250 عاما, حيث سلوكيات الرفض وعدم الأعتراف بالآخر المنافس مهما كانت النتائج, بل والتلويح بفوضى عارمة في حالة عدم فوزه, او عبر التشكيك بالتصويت البريدي بسبب كورونا والتلويح بعدم تسليم السلطة سلميا للفائز القادم والمماطلة في في متابعة فرز الأصوات عبر الدعوة الى ايقاف الفرز في بعض الولايات والذهاب الى القضاء وكذلك الأستعانة بتحريض انصاره لخلق حالة من الفوضى لعرقلة مسار الأنتخابات.
هذا يذكرنا في المتناقضات أنه عندما يتحدث أغلب سكان العالم عن الديمقراطية فإن النسخة الأمريكية من الديمقراطية تكون هي المسيطرة على خيالهم في أغلب الأحيان. النموذج الأمريكي هو الأبرز بين باقي النماذج الديمقراطية رغم أنه ليس النموذج الأمثل ولكنَّه ربما يكونُ الأقدر على الترويج والرواج مستغلًا في ذلك سطوة الولايات المتحدة على جميع الأصعدة تقريبًا. فلا يمكن لأحد أن يتجاهل أن الديمقراطية الأمريكية أو النموذج الديمقراطي للولايات المتحدة الأمريكية هو النموذج السياسي الأشهر والأقوى منذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم في اطار الممكنات المتاحة الى الآن.
“الأمة الأمريكية” التي يبلغ عمرها قرابة الأربعة قرون استطاعت أن تصنع نموذجًا ديمقراطيًا ناجحًا ” حسب الكثير ” متفوقة في ذلك على أمم كثيرة أعرق منها حتى في الديمقراطيات الأخرى. لكن الأمر لم يكن يسيرًا ولا كان الطريق ممهدًا أو مرسومًا بوضوح بل كانت هناك العديد من العقبات التي كادت تودي في أحيانٍ كثيرة باتحاد الدولة الوليدة. مفارقة ترامب تضع سلوكياته الفردية بالضد من الديمقراطية المستقرة, وبالتالي يثير في الشارع الأمريكي رعبا من نوع خاص يتجسد في مغامرة ترامب في العبث في التقاليد الديمقراطية المستقرة في امريكا. وهنا حصرا نتحدث عن قصور في السلوكيات الفردية وليست عن التجربة الديمقراطية بذاتها, وهنا فأن تجربة الحكم لاتسمح بصنع دكتاتور بقدر ان الدكتاتورية هنا صناعة ذاتية بأمتياز وللنشأة الاولى للدكتاتور ملابساتها الخاصة بعيدا عن طبيعة الحكم.
واذا كانت تجربة ترامب في رفض التدوال السلمي للسلطة مؤطرة بالمواصفات الشخصية له وليست بالتجربة الديمقراطية ومكوناتها السياسية فأن العالم العربي وعموم بلدان العالم الثالث الأمر مختلف حيث التداول السلمي للسلطة لاوجود له, بل ومؤطرا بأيديولوجيات وعقائد دينية ووضعية وسياسية ترفض في عمومها فكرة التدوال السلمي للحكم وتعتبر وجودها خارج اطار الزمان والمكان الذي تحكم فيه وان صلاحيتها ابدية وغير قابلة للأنتهاء, وبالتالي المشكلة هنا هي في الأفكار والقناعات السياسية وجوهر التفكير بمشكلة الحكم وفلسفته وماذا يعني. والمشكلة هنا في البيئة الحاضنة لممارسة الديمقراطية, ونموذج العراق والدول العربية الأخرى حاضرة, فحين سقوط الأنظمة الدكتاتورية سواء بهبات ما يسمى بالربيع العربية ام عبر الأحتلال الأمريكي والغربي فأن البيئة السيكواجتماعية والسياسية لم تكن مواتية لأحتضان بذور الديمقراطية الوليدة, فلا نستغرب من تصدر القوى الأسلاموية والشوفينية من تصدر المشهد السياسي وإدعائها الكاذب في ممارسة السلطة وتداولها سلميا, عبر سلوكيات انتهاك ممارسة الديمقراطية من خلال الترغيب والترهيب واستخدام السلاح لأعاقة ممارسة طقوس الديمقراطية الى جانب ارتهانها للأجندة الأقليمية ذات البنية العقلية والسياسية المتخلفة.
ما تمارسه قوى اعاقة التداول السلمي للسلطة هو هوس السلطة والرغبة الشديدة للتمسك بها والاستحواذ على مغانمها، ومحاولة عدم التفريط بها مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك (حروب، فتن، اغتيالات، فقر، فساد بأنواعه، ضياع جزء من الأراضي، وضع البلد في مستقبل مجهول, افلاس الدولة, هدر للمال العام وسرقة مدخرات الشعب)، فالبعض يضحي بوطنه ويضحي بشعبه ويضحي بولده لغرض الاستمرار والبقاء على رأس السلطة. نموذج العراق حاضرا في قتل 700 متظاهر وجرح اكثر من 25000 واعاقة آلاف بأعاقة منتهية هو دليل على ان السلطة مفسدة عند هؤلاء.
لذلك يمكن القول، بأن هوس السلطة في تلك النماذج هو بمثابة مرض نفسي ليست حكرا على شخصا كما في حالة ترامب، لكنه مرضاً عقائديا يلف كل منتسبي تلك الفكرة المريضة لا يمكن علاجه بسهولة البته، كون المصاب به ومجموعته يرفضون التشخيص، إضافة إلى رفضهم الشديد لأخذ العلاج, لهذا السبب نظر أغلب الباحثين والمفكرين إلى السلطة بأنها مفسدة، لذلك سعى كل من يريد تجنب هذه المفسدة إلى تقييدها وتقنينها في إطار المؤسسات القانونية والدستورية, ومع هذا فأن القدرة على اشاعة الخراب وحرف مسار الاستقرار يفوق اضعافا سلوكيات ترامب البسيطة والتي لا تجدي نفعا في المجتمع الامريكي الذي أتقن لعبة الديمقراطية.
ويلعب هنا التلوث السيكوباتي والفساد حيث الشخصية البارانوية والشخصية النرجسية هما أكثر شخصيتين يسعيان نحو السلطة ويتواجدان فيها ويتشبثان بها، والسلطة بالنسبة لهما احتياج شخصي لتدعيم الذات وتضخيمها لذلك نراهما في طريق سعيهما للسلطة ينتهكان الكثير من القيم أو الأعراف أو القوانين تحت زعم “الغاية تبرر الوسيلة” أو تحت وهم أنها ضرورات مرحلية يتم فيها التجاوز عن بعض المحظورات، وحين تصل هذه الشخصيات إلى السلطة وتذوق طعمها وتتوحد معها تتأكد أنه لا وجود لها بدون السلطة لذلك تستمر في محاولات الاستبداد بالسلطة والتشبث بها وهذا يستدعي ممارسة سلوكيات سيكوباتية للتحايل والالتفاف والتلفيق والخداع والكذب، وتصبح هذه الأشياء من ضرورات الاستمرار في اغتصاب السلطة, وتشكل تجربة الأسلام السياسي في العراق وفي الدول العربية الأخرى نموذج للفساد السياسي من خلال التحايل وحرق صناديق الأقتراع والتسلح ضد العزل والترهيب والتخويف من خلال الخطاب المقدس.
وهكذا يحدث التلوث السيكوباتي لشخصية صاحب السلطة وينتشر هذا التلوث في كافة جوانب المجتمع في صورة فساد عام، والفساد هنا ضرورة بقاء حتى يحدث تناغم بين المنظومة السلطوية والمنظومة العامة لأن المنظومة العامة لو بقيت نقية في حالة فساد وتلوث المنظومة السلطوية فإنها سرعان ما تلفظها, وكل هذا يحدث طبقا للمعايير السيكوباتية التي تهتم بالمبالغة في إعلان عكس ذلك فنجد مبالغة في الحديث عن الشفافية والطهارة والمبالغة في الحديث عن المثاليات الأخلاقية والمبالغة في الطقوس والمظاهر الدينية الخالية من روحانيات الدين، في الوقت الذي يستشري فيه الفساد ويتوحش.
ما يجري هو صراع للسلطة المتأرجحة بين ما تعلنه وما تبطنه.. بين الايديولوجيا (وجهها المعلن) ، وبين السيكولوجيا (وجهها الخفي) الذي في غالب الأحيان يخترق جدار الإيديولوجيا لتحقيق الأهداف، وممارسة السلطة لكسب الخضوع والطاعة بالوسائل التي تريدها، ولا تتوانى لحظة عن ابتلاع الدولة فيما إذا اقتضى الأمر ذلك، فتمسي سلطة ودولة في آن، فتستبد بكل شيء، وتعصف بالمعارضة بحجج شتى، الأمر الذي يوسع الهوة بين السلطة والشعب، فتنشب الأزمة وهكذا نسترخص الضحايا والشهداء, وتبقى معرفة قتلة المتظاهرين لغزا صعبا ولكنه وسهلا حين توفر الأرادة السياسية الصادقة.
الخسارة تبدو طبيعية.. فماذا يمكن أن يحصد رجل لا ينظر أبعد من كرسى حكمه فى نظام سياسى يرتكز على الديمقراطية، ولا يمنح أى فرد مهما كانت مصادر قوته ومهما امتلك من أدوات فرصة الاستمرار فى الحكم إلا بإرادة شعبه؟
وصل “ترامب” إلى البيت الأبيض على سفينة “الشعبوية”.تلك “الموضة” التى خلبت عقل المواطن الأمريكى لبعض الوقت، وأحس معها بالانبهار بشخصية «ترامب» الذى يحمل خطاباً جديداً ويؤدى بطريقة شديدة الإثارة، وكأنه شخصية وقعت من أحد أفلام الأكشن.
منذ وصوله إلى البيت الأبيض بدا “ترامب” جريئاً.. فردياً.. لا يعرف الحسابات السياسية ولا يريد أن يفهم شيئاً عنها.. يبيع العقل فى سوق الإثارة.. يضع الأوهام فى علب شديدة الشياكة.. ويبيعها بأغلى الأثمان.. لا يحب المؤسسات لأنه جاء من خارج المؤسسة السياسية.. من يختلف معه فى الرأى يطيح به فى عرض الطريق. سيخسر ترامب مهما بلغ من حنكة في المراوغات وتشويه الحقائق, فالديمقراطية رغم انها لعبة في بعض وجوههها إلا انها تستند الى الذكاء الاجتماعي في الوعي وقراءة المستقبل, وان ترامب لا يمتلك تلك الفطنة في ادارة الصراع مع منافسه بايدن لأنه يستند الى الأنفعلات في كسب الاصوات وقد يخسر الكثير من الاصوات. سيربح بايدن الانتخابات ولكن لا يعني ذلك تغير جوهري في السياسة الامريكية كما يتمناه العرب وغيرهم من الشامتين بخسارة ترامب أو بالعكس, لأن السياسة الامريكية تستند الى ثوابت رغم تغير الوجوه.