في القسم السابق من بحوثنا ودراستنا هذه للمجتمعية الكردية العراقية اشرنا الى ظواهر مميزة ثلاث في (تركيبة البنية الدينية للمجتمع الكردي العراقي ) وهي :
اولا : ظاهرة التداخل المعتقدية الدينية التاريخية من الزرادشتية ، الى مابعد الاسلام .
ثانيا: ظاهرة الهرطقة /دخول افكار جديدة او بدع على الدين/داخل المجتمعية الكردية العراقية .
ثالثا : ظاهرة غلبة الطرق والمناهج الصوفية فكريا ، وسلوكياعلى التوجهات الدينية والممارسات الطقسية لهذه المجتمعية الجبلية .
وذكرنا انذاك الاسباب والعوامل الجغرافوية والمجتمعية التي انتجت ورفدت بروز هذه الظواهر وتغذيتها لتستمر داخل تركيبة الاجتماع الكردي العراقي القديم وحتى الحديث ومن اهمها :
اولا : ابتعاد المجتمعية الكردية العراقية لفترات مطاولة تاريخيا او عدم قدرة هذه المجتمعية للتحول ، او التطورللمجتمعات الحضرية المدنية ، التي تتمتع ب (( الضبط المعتقدي الفكري من خلال وجود مؤسسات دينية داخل هذه المجتمعات الحضرية ، وظيفتها ان تهتم بتنقية العقائد ، والمحافظة عليها من الداخل الفكري اوالبدع))بخلاف المجتمعات البدائية البدوية العربية والنصف بدوية الجبلية البعيدة عن هذه الاجواء المدينية المقيدة ، مما يسمح لها وضعها الاجتماعي البدائي باستمرارالافكار التقليدية التاريخية ، واندماجها في الجديد الآني او يسمح بدخول
افكار جديدة الى الداخل العقدي المجتمعي !.
ثانيا : وضعها الجغرافي الطبيعي الجبلي الوعر ، الذي يعتبر مصدٌّ رئيسي وعائق اساسي لقيام وحدة اجتماعية متصلة تخلق نوعا من المدينية المتنوعة هو ايضا عامل اخر ساهم ولم يزل بعزل المجتمعية الكردية العراقية وتركها صيد سهل لدخول الافكار وخروجها العقدية منها والدينية بشكل سلس وبدون عوامل ضبط ومراقبة اجتماعية من مؤسسة او نظام ،وهذا اهم العوامل التي هيئت الارضية الاجتماعية وجغرافية الجبل العراقي لرتوع الهرطقات ومن ثم حمايتها ( توفير الحماية لها ) من ان تنالها يد السلطة السياسية المركزية ، او السلطة الدينية او المجتمعية المدينية !!.
(( 27 ))
يمكن القول في دراسة المجتمع الكردي العراقي القديم ، والحديث ان من اهم ظواهره المجتمعية الدينية التي استمرت لفترات قرون تاريخية متواصلة هي ظاهرة (( غلبة الطابع ، والفكر الصوفي/ اذا فسرنا التصوف على انه التنقية الروحية الفردية )) على كل بناه الفوقية ، والافقية والتحتية من سياسية والى الاجتماعية فنية واقتصادية …الى اسرية والى الفردية !!.
حيث يشعر الفرد الكردي العراقي بصورة خاصة حتى اليوم بانه خلق ليكون درويشا ((الدرويش :مفردة كانت ولم تزل تطلق على المتصوفة الكرد خلال حقبة الحكم العثماني ، الذي دام لاكثر من ستمائة سنة لهذه الجغرافية ، وهذا بعكس متصوفة ايران الصفوية التي اطلق على مريديها عثمانيا بالقزلباش )) او انه (( الفرد الكردي )) قدره حتم عليه ان يكون مريدا لهذا الشيخ الصوفي وتابعا لهذه الطريقة او تلك !!.
يمكننا كذالك رصد (( اذا استثنينا الزرادشتية تاريخيا باعتبارها ايضا حركة تصوف روحية ، حاولت تنقية الروح للوصول )) ان اكابر علماء ومفكري و(مخترعي) الطرق الصوفية ، فيما بعد ولادة الاسلام او الذين اداموا حركة التصوف داخل العالم الاسلامي ونظرّوا لها و .. حتى اليوم كثيرهم اما كرد بالاصل وامامنحدرين من اصول جبال الكرد في منطقة كردستان فمعروف على هذاالصعيد ان امثال(الصوفي المشهورالجنيد ابو القاسم/ 297/ هجرية / من مدينة نهاوند الكردية ، وكذا : شيخ الاشراق السهروردي المقتول على يدصلاح الدين الايوبي 586 هج/من مواليد مدينة سهرورد الكردية
ويتبع في احد الروايتين عبد القادر الجيلاني البغدادي 561 هج كذالك باعتبار انه من مواليدجيلان القزوينية في شمال ايران الكردية و..الخ) فكل هؤلاء المنظرين للتصوف داخل الاطار الاسلامي هم كانوا ، اما كردا مباشرة ، او من اصول كردية مما يعطي ، او يؤشر لاي باحث اجتماعي انطباعا قويا ببحث العلاقة الاجتماعية والروحية والتربوية والفكرية والجغرافية ، بين الكرد والتصوف !!.
طبعا في المناهج العلمية لمدرسة علم الاجتماع الحديثة تقيّم الافكار وتبعيتها والمعتقدات وانتمائها للمجتمعات وليس العكس ، اي انه حتى لو لم يكن هناك اي عالم من علماء التصوف داخل الاطار الاسلامي او في تاريخه ينحدر او يتصل بالاصول الكردية كما ذكرنا اعلاه ، فهذا ايضا لايعني انه ليس هناك صلة اجتماعية قوية بين الكردوالتصوف ففي هذاالاطاريكون الميل والانتماء الاجتماعي هو الحاكم ، والدليل على علاقة هذا المجتمع او ذاك مع التصوف او باقي الظواهر الدينية وليس وجود علماءومفكرين من هذاالمجتمع او ذااك هو الدليل والقرينه !!.
ومن هذا المنطلق يكفي دراسة ( توجهات ) الاجتماع الكردي العراقي الدينية بصورة خاصة تاريخيا ، وحتى اليوم ومن ثم نرصد توجهاته الفكرية وميلها لهذا النوع من الظاهرة الدينية او تلك ، سواء كانت توجهات فلسفية عقلية او فقهية سلوكية شرعية ، او صوفية روحية او ….الخ ، لندرك ماهية توجهات هذا المجتمع الدينية ،فالتوجه والانتماء لايحدده كثرة المفكرين والعلماء داخل اي مجتمع ، بل يحدده الميل والتوجه الاجتماعي العام كما هو موجود بالفعل في حالة الاجتماع الكردي بصورة عامة في المنطقة الجغرافية الكردستانية ، او حالة الاجتماع الكردي العراقي بصورة
خاصة ،والتي اثبت تاريخها بانها مجتمعية تميل وتتوجه الى الطابع الصوفي في المعتقدية القداسيةالدينية وليس الى الطابع الفلسفي العقلي ، او الفقهي الشرعي ، او العلمي التجريبي المادي او … !!.
(( 28 ))
من خلال البحث التاريخي والدراسة المجتمعية لكرد العراق تصادفنا ظاهرة متجددة داخل او في تركيبة الاجتماع الديني الكردي العراقي وهي ( ظاهرة التصوف بمفهومه الانساني العام وليس التصوف بمفهومه الاسلامي الخاص ) ، وهذه الظاهرة التي حكمت الذهنية الفكرية ، والسلوكية الكردية العراقية تاريخيا منذ الزرادشتية (وربما ما قبل ذالك) وحتى مابعد الاسلام هي ظاهرة بارزة لعيان البحث الاجتماعي وفارضة لنفسها عليه بنفس الوقت !!.
اي وبمعنى اخر اكثر التصاقا بمناهج البحث الاجتماعي العلمي الحديث : هو ان المجتمع الكردي العراقي وعلى ابعاد متواليته التاريخية كان هو دائما من يفرض نمطيته الفكرية والسلوكية الاجتماعية على جميع الاديان التي تفد الى منطقته الجبلية الوعرةوحتى وان كانت هذه الاديان تمتازبالميل المادي وليس العكس !!.
فمثلا: ليس الفكرالزرادشتي باعتباره امتدادا للعقيدة المزدية / 573 ق م / في حقيقته التاريخية كان متصوفا الا ان التصوف((كظاهرة تخلقها البيئة الجبلية الجغرافية والاجتماعية الكردية ، وتشكل الافكارحسب ضوابطها )) هو ميزة جبلية بامتياز ، ولذالك طيعت الزرادشتية جبليا في جوانب من فكرها الديني العقدي ، لتكون مصنعا لانتاج تصوف روحي فردي ينسجم مع البيئة الجبلية التي تفرض (الوحدة والتوحد في عظيم حياة الفرد والجماعة الجبلية الكردية) باعتباره ( تصوف التوحد مع الجبل) اهم مفردة من مفردات التصوف الديني الزرادشتي !!.
في اليهودية باعتبار انها الديانه التي استوطنت جبال الكرد لقرون متوالية بل واثرت فيه فكريا ، وعقديا بشكل لم تزل تاثيراته ، حتى اليوم قائمة ، ومع ان اليهودية كثقافة دينية وفكرعقدي عُرف عنه الميل المادي والدعوة له في كل افكارها ، حتى الغير مادية كتجسيد الله بصورة انسان مادي مع ذالك فان في دراستناللمجتمعيةالكردية اليهوديةالتي استوطنت الجبل لقرون طويلة نكتشف من خلال الدراسة التي نضدها (اريك بروار ورافائيل باتاي/ يهود كردستان / دارئاس للطباعة ، والنشر/ ط الاولى/ اربيل 2002م / جزئان ) بان يهود كردستان كانوا ولم يزالوا من متصوفة اليهود
الذين اخترعوا لانفسهم طريقة صوفية يهودية (متقشفة) تميل الى تنقية الروح والجسد للوصول الى الكمال الديني اليهودي !!.
مسيحيي الكرد ، او المسيحيون ، الذين سكنوا المناطق الجبلية قبل ان تصبح الغلبة فيها للكرد لم يخرجوا عن القاعدة ايضا ، حيث يطلّع الدارس للمسيحية الكردية الجبلية وخاصة العراقية انها(مسيحية صوفية) تعيش الزهد والتقشف في حياتها الاسرية والاجتماعية وتبتكرمن المناهج والافكاروالعقائد الروحية ما يساهم في تنمية الفرد ، ويساعد الجماعة على تنقية الجسد والروح معا من دنس وشوائب المادة وقذاراتها الدنيوية !!.
الايزيدية ساكنة الجبل العراقي الحديث (البعد التصوفي ) ظاهر للعيان بشكل بارز وفي التنقية الاجتماعية اكثر وضوحا ، فمما لاريب فيه ان الايزيدية او اليزيدية بدأت مشروعها الصوفي على يدمتصوفها الاكبر (عدي بن مسافر) الذي شطح بتصوراته الدينية الصوفية الى اقصى اليمين الصوفي ، ليخترع لمريديه صوفية تنعكس على افكار مريديها بثورة على الموروث الاسلامي العام في موضوعة(ابليس او الشيطان)بشكل جديدومبتكر ليصبح المغضوب عليه طاووس الملائكة كمميز للصوفية الايزيدية !!.
اما ما يتعلق بالكاكائية / بالاساس تنتمي هذه الفكرة لعشيرة برزنجه / والعلي الاهية العلوية و … فهي كلها منتجات الجبل سواء كان كرديا او غير كرديا في سوريا ، وتركيا وايران والعراق ، ومعروف بهذا الصدد ان مبتكروا هذه الافكارهم متصوفه ك((فخرالعاشقين سلطان اسحاق البرزنجي / مولود 671 هجرية )) الصوفي من مدينة السليمانية المعروف بالنسبة للكاكائية ، وهكذا في العلويةالتي هي امتدادللصوفية الايرانية الصفوية اوهي الجانب المتطرف من التيار الشيعي العام التي تؤمن بشكل متطابق مع العقائدوالافكار الايزيدية والكاكائية بتناسخ الارواح وتعظيم
الاولياء و …الخ !.
من كل هذا نستنتج : ان التصوف هو منتج بيئي جبلي بامتياز ، قبل ان يكون منتجا فوقيا فكريا ينزل من الاعلى ، الى قواعد المجتمع ، بل هو منتج قاعي اجتماعي يصعد من قاع البيئة الاجتماعية الجغرافية ليشكل الفكر الاجتماعي الديني كيفما شاء ، ولهذا صهر المفهوم الديني تاريخيا وحتى اليوم في الجبل العراقي بقالبه الصوفي ليكون التصوف هو عنوان الدين والمقدس !.
اليوم تتغلب طريقتان من التصوف على المجتمعية الكردية العراقية ، وهما ( الطريقة النقشبندية والاخرى الجيلانية ) ولهاتين الطريقتين تاريخ معقد في تشكيل بنية الاجتماع الكردي العراقي الحديث وكذا صعود ، وهبوط احدى هاتين الطريقتين الصوفيتين سياسيا واجتماعيا وقبليا… ايضا اسباب وعوامل لابد من دراستهابشكل دقيق وواعي لتتضح صورةالاجتماع الكردي العراقي وماهية الظواهر الدينية المتحكمة في اليات عمله العقدية !!.
[email protected]
مدونتي فيها المزيد
http://7araa.blogspot.com/