8 أبريل، 2024 6:50 م
Search
Close this search box.

في رحيل أهل العلم  – الدكتور سحبان خليفات . الفلسفة والمنهج

Facebook
Twitter
LinkedIn

لا أعرف الأستاذ سحبان خليفات ، بمعنى أنني لم ألتق به ، ولم أجلس اليه ، ولم تقم بيننا علاقة شخصية من أي نوع ، ولعل  هذا (الاعتراف)  الصادق  يضفي على مقالتي شيئا من المصداقية بحسبان أنها مبرأة من الغرض ، خالية من العلائق والمنافع . 
     وأول ما جبهني رحيله المحزن مقالة الأستاذ ابراهيم العجلوني المنشورة بصحيفة الرأي الغراء يوم الثلاثاء 24-7-2012  ، التي جاءت تحت عنوان(لم يكن رحيل   سحبان خليفات ، أستاذي وصديقي مفاجئا ) ، وحق للأستاذ العجلوني أن يكتب ما كتب ، بل ما فوق هذا ، فهو قد اقترب من الأستاذ  ( اضاءة : أينما وردت كلمة الأستاذ بمفردها غير مقترنة بعلم في هذه المقالة فيراد بها الدكتور سحبان خليفات ) ، واتخذه صديقا على مدى سنوات طوال ، بل نزيد فنقول ان الأستاذ يصف العجلوني ب ( أخي ، وصديق عمري ) ( ينظر : عبد المجيد سالم الحياري ، خليفات ، ص 63 ) ، ويعرض عليه في موضع آخر مسودة كتابه الذي حقٌق فيه كتاب الفيلسوف الفارابي       ( رسالة التنبيه على سبيل السعادة ) ليقرأه ، ويبدي فيه رأيه قبل دفعه الى الطبع ( ينظر ، ص 7 ) . أقول : لم تكن مقالة الأستاذ العجلوني سوى آية من آيات وفائه لصديقه ، وعشيره الأستاذ سحبان خليفات الذي نتمنى أن يكثر الحديث عن أياديه البيضاء على الثقافة العربية كما سنرى بعد قليل.
         أعادتني مقالة الأستاذ العجلوني الى عشرين سنة خلت يوم بدأت أقرأ للأستاذ من ضمن ما أقرأ في كتب الفلسفة قراءة حرة غير متخصصة ، وذلك لتخصصي القريب من الفلسفة ، وأقول القريب لايماني بتشابك العلوم ، وافادة بعضها من الاخر ، فليس تخصص اللغة العربية وآدابها الذي أشرف بالانتماء االيه سوى الأداة التي   وصل بها الينا تراثنا العربي ،ومنه التراث الفلسفي الذي كابد الأستاذ ما كابد لنشر بعض من نفائسه  ، وذخائره ، غير أن كتابا من كتب الأستاذ وقع بين يدي فغير من نظرتي ، وزاد من اهتمامي بانتاجه العلمي ، وهو ( ابن هندو . اراؤه الفلسفية . مؤلفاته )  ، ويقع بجزئين كبيرين يبلغ عدد صفحاتهما ما يقرب من ألف صفحة ، وذكٌرني هذا الكتاب أول ما ذكٌرني بكتاب الدكتور عبد الأمير الأعسم ، وعنوانه ( ابن الريوندي في المراجع العربية الحديثة ) الصادر بجزئين أيضا سنة 1978 عن دار الافاق الجديدة . بيروت ، الذي تلقط فيه   الدكتور الأعسم نتفا من حياة ابن الريوندي وكتبه المفقودة من مئات المصادر القديمة ، والمراجع الحديثة ، فقدم صورة قريبة لذلك المفكر الذي اختلف فيه الدارسون اختلافا كبيرا . ومثله كتاب الدكتور كامل مصطفى الشيبي ، وعنوانه     ( الحلاج موضوعا للآداب والفنون العربية والشرقية قديما وحديثا . دراسة ونصوص ) ، الصادر بجزئين أيضا في طبعته الثانية في بيروت ، وقدم فيه الدكتور الشيبي رحمه الله  – كما يشير عنوانه  – صورة للحلاج كما عرضتها تلك الاداب ، معتمدا هو الاخر على مئات  المصادر  بغية استكمال أجزاء تلك الصورة . أقول : ان كتاب الأستاذ عن ( ابن هندو ) ينضوي تحت تلك الكتب التي بذل فيها أصحابها جهدا خارقا ، مغلفا بمنهجية عالية، وموضوعية نادرة ، وتتبع صابر للمصادر التي لم يكتف فيها الأستاذ بالمطبوع ، فعمد الى المخطوط منها يستشيره، ويفيد منه ، وعلى هذا النهج سارت كتب الأستاذ الأخرى التي سنقف عندها بعد قليل.
                       نعم ، أستطيع القول بثقة ، وبعد تتبع مضن لتراث الأستاذ أنه يتميز بالميزات الاتية :           1.   يتنقل تراث الأستاذ بين التأليف ، وتحقيق النصوص، فهو من القلة التي تمكنت من ناصية التحقيق – على نصبه ، وما يشقى به صاحبه – بالاضافة  الى التأليف ، سواء مقدماته الثمينة التي يصّدر بها ما يحققه من كتب ، أم تلك الكتب المفردة التي خلصت برمتها للتأليف . نذكر من الصنف الأول :                              
  – رسالة التنبيه على سبيل السعادة ، للفارابي .             – ابن هندو . اراؤه الفلسفية . مؤلفاته .                     –  مقالات يحيى بن عدي الفلسفية .   
  – رسالة في ابطال أحكام النجوم ، لابن الجراح ، أبي القاسم يحيى بن علي.
– رسائل أبي الحسن العامري ، وشذراته الفلسفية . دراسةونصوص.                                                                               
       ونذكر من الصنف الثاني :                         
– الديمقراطية في الأردن . سياقها  الدولي وشروطها الموضوعية .                                                    – المدرسة اللغوية في الأخلاق . دراسة للاتجاه الانجليزي المعاصر في الميتا-أخلاق .                                                                            – لغة الأخلاق . دراسة تحليلية لمنطق اللغة العربية في مجال الأخلاق ، وهي رسالته لنيل درجة الدكتوراه من جامعةالقاهرة. .                                                           – وأخيرا كتابه القيم ( منهج التحليل اللغوي –المنطقي في الفكر العربي الاسلامي . النظرية والتطبيق ) الصادر بثلاثة أجزاء ضخام زادت صفحاتها عن ألف وخمسمائة صفحة ، وهو محتاج الى دراسة برأسها .                                                       
        ويقترب من الصنفين السابقين ، صنف ثالث عمد فيه الأستاذ الى جمع شعر بعض الشعراء الأردنيين المحدثين ، وكتابة مقدمات طيبة للشعر المجموع ، فدل بذلك على موسوعية نادرة ، واهتمام بجوانب ثقلفية متنوعة ، ونذكر من هذا الصنف :                                                – رفعت الصليبي . قصائد ومقالات .                         – عبد المجيد سالم الحياري . شاعر الوطن والعروبة . 
             هذه نماذج مما تركه الأستاذ من كتب ، وهي ثروة ثمينة ، قمينة بالعناية ، جديرة بالدرس ، والتفلية .        
     -2 يجلل تراث الأستاذ منهجية علمية عالية هي نتاج درسه في جامعات عريقة ، وتدريسه في جامعة محترمة ، بالاضافة الى أخذه نفسه أخذا شديدا بتلك المنهجية بحيث أصبحت عادة ، وطبعا ، وجزءا أصيلا من بنائه الفكري ، ومن الممكن تلمس تلك المنهجية في النقاط الاتية :
–  استيفاء مصادر نقطة الدرس استيفاء يكاد يكون كاملا ، ومعلوم أن العلوم الانسانية تشتغل تحت مظلة الاستقراء الناقص ، فليس بمكنة باحث – أي باحث – أن يستوفي مصادره ، ومراجعه ( كاملة ) ، بل يفيد من الأغلب الذي يقترب من الكمال ، وهو ما صنعه الأستاذ ، اذ أضنى نفسه في تتبع مصادره تتبعا نادرا ، وهذا من أظهر آيات المنهج العلمي ، ويكفي أن نسوق مثالا واحدا هنا ، وهو قوله : ( — ولقد عانينا الامرّين في سبيل الحصول على صور من هذه النسخ الممثلة لجميع النسخ المعروفة في عصرنا ) ، وهو يتحدث هنا عن مخطوطات كتاب (رسالة التنبيه على سبيل السعادة ) للفارابي الذي حققه معتمدا ثماني نسخ مخطوطة مفرقة في مناطق متباعدة من العالم (ينظر،ص6)                   .                                                                           –  الموضوعية العلمية التي تكتنف كتبه ، وهي من أسس المنهجية ، بل هي روحها ، وجوهرها . يتبين ذلك من النقل الأمين من المصادر ، ووضع النص المنقول في سياق خاص بحيث لا يغير من مقصد المؤلف الأصلي ، واعتماد المناقشة المستنيرة ، والحوار الهاديء مع النصوص حتى لو اختلف معها ، وتقديم الرؤية الذاتية ، والاقتناع الشخصي ، وهو حق له ، باعتباره ( القاريء ) المتفحص لتلك النصوص .                                       –  التواضع العلمي الأصيل الذي وجدناه في كثير من كتبه ، ويقترن هذا التواضع بحذر منهجي يمنعه من اطلاق الأحكام جزافا ، بل يعمد الى الأناة العلمية ، وتمحيص الاراء ، وفحص النصوص ، وتقليبها على وجوهها قبل اصدار الحكم ، وهذا ما نلمسه في خواتيم مقدماته حين يطلب من الاخرين أن يزودوه بملاحظاتهم ، وتعقيباتهم . نرى هذا في في كتاب الفارابي ( رسالة التنبيه على سبيل السعادة ) حين يكتب : ( —- سيجد القاريء أننا قد ألحقنا بهذ العمل ضميمة باللغة الانجليزية تلخص مصادر الرسالة واثارها ، وأهم نتائج الدراسة ، وذلك لنجعل  هذا العمل متاحا على أوسع نطاق للباحثين جميعا ، ونأمل أن نتلقى من هؤلاء جميعا ملاحظاتهم ، وانتقاداتهم لهذه النشرة ، والدراسة الملحقة بها ) ( ص 7 ) ، ونراه أيضا في عمله الكبير عن ( ابن هندو ) الذي لا يأمل منه سوى أن يكون ( بداية تيسر للباحثين المضي قدما في طريق الكشف عن سيرة ابن هندو ، وفلسفته ، ومؤلفاته الأخرى التي لم تصل يداي اليها خدمة لتراث عظيم نحن أحوج ما نكون للكشف عن كنوزه في هذا الزمن الرديء ) ( ينظر ، 1/ 19 ) مع أنه بلغ الغاية في تجويده ، وتتبع مصادره ، ومناقشة تلك المصادر .                                         
  3 –  ومما يدخل بقوة تحت مظلة تراث الأستاذ تلك الرسائل الجامعية التي أشرف عليها خلال عمله في الجامعة الأردنية ، وهو ما أستطيع تسميته ب ( الجهد المستتر ) ، بحسبان أن الرسالة تقترن باسم الطالب الذي أعدها ، وهذا حق له ، غير أن جهد الأستاذ ، وفكره ، وتوجيهه ، ومنهجه ، أقول : كل ذلك يقف مستترا لا يّرى ، ومن هنا جاءت تلك التسمية ب ( الجهد المستتر ) ، غير أنني أنفقت يومين في تقليب كثير من الرسائل الي أشرف عليها الأستاذ ، وأسوق هنا بعضا من العنوانات ، على أن أعقب -بعد هذا بالملاحظات على ذلك الحجم العلمي الخصب ، فمن هذه الرسائل :                                                          – مناهج البحث عند ابن حزم الأندلسي .                   
– فلسفة أبي البركات البغدادي .                       
 – الانسان في فلسفة ابن باجة .                               
– فلسفة ابن سينا الخلقية .                                   
 – فلسفة الفعل الخلقي عند القاضي عبد الجبار المعتزلي                                                           – دراسة تحليلية لفكر الفارابي السياسي .              
 – الجوانب الفلسفية في كتابات ابن السيد البطليوسي .     
– فلسفة عبد اللطيف البغدادي .                             
– الفلسفة الأخلاقية عند أبي الحسن الماوردي . 
   – آراء ابن هندو في النفس والأخلاق .                                                                                         
              ومن الممكن تقديم الملاحظات الاتية :                             – يلاحظ أن عددا من هذه الرسائل ليست سوى بناء علمي اخر أقامه الباحث اللاحق على ما كان الأستاذ قد أنجزه سابقا ، فكأنّ الاستاذ كان يهيأ المادة الخام ، وهي النصوص الأصيلة ، ليأتي الباحث اللاحق فيقيم درسه على نص موثق ، ونشرة علمية نقدية للنص ، وهذا من مظاهر النصيحة العلمية الصافية التي تمحض الباحث اللاحق النصح ، وتقدم له أطراف الخيوط لكي يكمل الغزل ، ويستأنف البناء ، وهذا  – مرة أخرى – هو شأن البحوث العلمية الرصينة التي تتكفل بها الجامعات المحترمة ، اذ تعمد الى البناء على ما تقدم بغية تجاوزه ، وتقديم النتائج الجديدة
 – ويلاحظ أيضا  أن عنوانات الرسائل ، ومضامينها تتجول في دروب الفلسفة الاسلامية ، ومسالكها المتشعبة ، لا تقف عند زمن معين ، أو تكرر درس فيلسوف بعينه ، وهذا – بلا ريب – راجع الى موسوعية الأستاذ ، وتمكنه من تلك الموضوعات المتنوعة ، بالاضافة الى احترام التخصص الدقيق ، وهو الفلسفة الاسلامية ، التي يبدو فيها الأستاذ خبيرا،  ذا قدم راسخ فيها .          
 – ويلاحظ ثالثا أن أغلب تلك الرسائل – وهي رسائل ماجستير – ذات  أحجام صغيرة ، أو متوسطة ، فواحدة تقع بسبعين صفحة ، وأخرى بتسعين صفحة ، وثالثة بسبع وتسعين صفحة ، ورابعة بمائة وخمس صفحات ، وواحدة منها فقط تجاوزت المائتي صفحة ، فكأن العبرة بالكيف لا بالكم ؛ لأن الموضوع واستيفاءه هما اللذان يحددان الحجم ، فان استوفي الموضوع بثمانين صفحة فبها ونعمت ، فان زاد على هذا فهو تطويل ، وفضول يتجنبه الأستاذ وطلابه معا ، وكم تعاني الجامعات العربية من غصص التطويل والترهل في الرسائل اللذين يصبحان عند بعض الدارسين علامة من علامات التفوق ، وهما – لو دروا – من سمات الفراغ العلمي ، والعجز عن النفاذ الى الموضوع المدروس بلا انشاء ممل .                                                         

    هذا ما أمكنني استخلاصه عن تراث الأستاذ في هذه العجالة ،   غير أني لن أترك هذا الموضع حتى أقف عند رأيه في العربية ، والتعريب ، وهو رأي تغبطه عليه الكثرة من المختصين بالعربية عموما ، والتعريب خصوصا ، ولعل الذي لفت نظري الى هذا الأمر ما كتبه الأستاذ العجلوني في مقاله المشار اليه سابقا ، وهو قوله : ( قال لي رحمه الله : ان أعز أمنياتي أن يمد الله في عمري حتى أنجز كتابي الأخير في الدفاع عن القران الكريم ، واللغة العربية ) ، أما القران الكريم فقد دافع عنه من خلال نشر تلك النصوص الفلسفية التي نجدها عامرة باياته ، غائرة الى جوهر القران ، وهو الحث على التوحيد ، ونبذ الشرك . وأما العربية فقد بسط فيها القول في كتابه القيم ( منهج التحليل اللغوي – المنطقي في الفكر العربي الاسلامي ) بأجزائه الثلاثة ، فان لغة تمكنت من حمل التنزيل العزيز ، ونفذت الى عمق المسائل المنطقية ، والقضايا الفلسفية فعرضتها بذلك الانسجام ، والتناسب ، والوضوح لهي لغة جديرة بالتقدير ، قمينة بالبقاء رغم عوادي الزمن ، واكراهاته.
     وأعود الى ما افتتحت به القول ، وهو التعريب ، اذ نجد الأستاذ يفسح له مكانا رحبا في كتابه ( الديمقراطية في الأردن)، فبعد أن يتحدث عن ( الدولة الحديثة ) التي من أركانها المدارس ، والجامعات ، والادارة الحديثة ، والصناعة المتقدمة ، ورأس ذلك كله ( العلم ) . يكتب : ( —- فاذا لم نعرب العلم بمشاركتنا فيه لن نملك تعليما يكفل تحديث الادارة ، والصناعة وعلميتهما المتنامية ) ( ص 42 ) ، ويضيف :    (ولا تقدم للعرب الا بعد تعريب التعليم العالي ، والا سنظل نحس بالغربة ازاء العصر ، وبالدونية ازاء الغرب ، وحين نفكر  في العلم بلغتنا تكون ألفتنا له أكبر ) ( ص45 ) ، ولا يترك الأستاذ هذه المسألة الخطيرة في قبضة الوهم ، أو الريح،  بل يعود ليسأل : من أين نبدأ ؟ أي من أين نبدأ بتعريب العلم؟  يجيب : ( —- من الجامعات . ان الجامعات بحكم دورها هي المكان الطبيعي لتعريب العلم ، فما دامت مراكز تثقيف طلائع الأمة ، ورفع الكفاءة العلمية لها ، فان جعل المعرفة العلمية في متناول أكبر عدد من الأفراد ، وزيادة حجم هذا النوع من المعرفة المتاح لهم ، أي كتابته بالعربية هو أحد الوسائل الهامة لتحقيق الجامعات وظيفتها الأساسية ) ( ص 47 – 48 )  . أقول : هل كان الأستاذ يحلم بجامعة على غرار ما نادى به الفيلسوف جاك دريدا ، جامعة ( غير خاضعة لسلطة ما )      ( ينظر دريدا عربيا ، محمد البنكي ، ص 210 ) ، الا سلطة العلم ، والبحث العلمي ، والقدرة على التغيير ، والتأثير . أقول مرة أخرى : لم يكتف الأستاذ  بموقعه الجامعي أستاذا ، وباحثا ، ومشرفا ، بل أطل على وطنه الأردن ، والوطن العربي الكبير ليقدم خلاصة نافذة عن الموضوع الذي ما يني يتجدد ، ويملأ دنيا العرب ، ويشغلهم ما بين داع له ، أو رافض ، وذلك وفق نظرة قائمة على أسس علمية لا تكتفي بمواطيء الأقدام ، بل ترنو ببصرها ، وهو ذو عيون كثيرة ، الى افاق ثقافية ، وواقعية متنوعة ، اذ ليس التعريب سوى مظهر من مظاهر احساس الأمة بكرامتها ، ورغبتها  الصادقة في الاندماج مع العصر ، مع احترام للغتها التي اجتازت محنا كثيرة سابقة ، وهي قادرة على اجتياز محنة التعريب فيما لو تهيأت الأسباب ، وصفت النيات .                                
     ان ما تركه الأستاذ رحمه الله كثير ، وخصب ، ومتنوع ، وما أجدر ذلك التراث بالعناية ،والدرس . ويهمني في هذا الموضع أن أتقدم بجملة من المقترحات فيما يخص تراث الأستاذ ، ولا دافع لها سوى العلم الذي أفنى الأستاذ حياته في طلبه ، ونشره ، وتكريم أولئك الأفذاذ الذين قدموا الكثير لوطنهم ، وأمتهم ، وان بعد رحيلهم ، ومن هذه المقترحات : 
1)اعادة طبع تراث الأستاذ ( كله ) ، واخراجه في مجموعة واحدة تحت عنوان ( الأعمال الكاملة ) ، ولعل خير من يتولى هذا المشروع الضخم جهتان هما  وزارة الثقافة الأردنية  ، أو الجامعة الأردنية ، وخصوصا أن تراث الأستاذ المطبوع موزع بينهما ، أو أن يضطلع بهذا العمل الجليل الوزارة ، والجامعة معا ، وذلك من خلال لجنة مشتركة بينهما تشرف عليه ، وتتابع انجازه .            
2) ويدخل ضمن المشروع السابق أعمال الأستاذ غير المنشورة ، وهذه من الممكن معرفتها بسؤال عائلته المحترمة ، وهي – بلا شك – مطلعة اطلاعا كافيا على هذا الأمر ، ومما يذكر هنا مروري بتجربة مماثلة مع عائلة أستاذي الدكتور ابراهيم السامرائي رحمه الله ، اذ تفضلت عائلته الكريمة فأطلعتني على مجموعة من الكتب المخطوطة التي تركها الدكتور السامرائي ، ولم يتمكن من طبعها في حياته . وقد نشرت بعض من هذه الكتب ، وينتظر الاخر دوره في النشر . ولا شك أن هذا التراث المخطوط – في حال وجوده – يمثل اضافة ثمينة الى تراث الأستاذ بحسبان كتابته في أواخر حياته،  وهو في وهجه العلمي ، واكتماله المعرفي .                              3) أشار الأستاذ العجلوني في مقاله المشار اليه سابقا  الى أن الأستاذ ( كان —- يُطلب ليلقي المحاضرات عن تاريخنا الفلسفي والفكري في جامعات ايران ، وجامعات تركيا ، وكان يستشار في استراتيجيات الثقافة الوطنية ) ، وهذه أيضا يجب أن تأخذ مكانها في ( الأعمال الكاملة ) المنتظرة ، أي المحاضرات ، والاستشارات ، ولنا في هذا المضمار سنّة حسنة انتهجها معهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية حين كان يقوم بطباعة ، ونشر المحاضرات التي يلقيها الأساتذة الذين يزورون المعهد ، ويلقون محاضراتهم على طلبة المعهد ، فكأن محاضرات الأستاذ ، واستشاراته التي قدمها جزء أصيل من مساره الفكري ، جدير بالتوثيق ، والحفظ .                                    4) ضرورة قيام دراسات متنوعة عن تراث الأستاذ يكون عمودها تلك الطبعة المنتظرة من ( الأعمال الكاملة ) ، وأحسب أن هذه الدراسات ذات أفانين شتى ، فمنها ما هو متعلق بتحقيق النصوص ، ومنهج الأستاذ فيه ، وما أضافه الى المكتبة التراثية من نصوص فلسفية نادرة ، ومنها ما هو ذو صلة بأبحاث الأستاذ الفلسفية ، وخصوصا كتابه القيم الذي لا نمل من الاشارة اليه ، وهو ( منهج التحليل اللغوي – المنطقي)  ، وتبين مقدار ما أفاده الأستاذ من الاخرين ، والتجاوز الذي وقع على يديه ، ومنها درس اللغة التي كان يوظفها الأستاذ في أبحاثه ، وكتبه ، ووضع اليد على السمات الأسلوبية التي تميزت بها لغته . ومن يمعن النظر في تلك اللغة يجدها موغلة في الفصاحة السلسة ، شديدة الوضوح ، منسابة باسترسال متناغم ، تفيد من المتانة القديمة من جهة ، وتصيب من التطور الكبير الذي مس العربية في عصرنا الحديث من جهة أخرى . وأسلوب هذا شأنه جدير بالدرس ، وخصوصا أنه الوعاء الذي نقل لنا فكر الأستاذ ، وقناعاته المعرفية .                                                             
      تلك هي الأفانين التي من الممكن بها درس جوانب الأستاذ المعرفية المتنوعة ، نسوقها على هيئة ( الاقتراح ) ، ومن المؤكد أن هناك غيرها يستطيع الدارسون اكتشافها ، فتراثه خصب ، عميق ، ينفذ اليه من يرغب من مناحي شتى .                                                     
      بقيت كلمتان لا بد منهما في ختام هذه المقال ، تتمثل أولاهما في الاسم الذي حمله  الأستاذ ، وهو ( سحبان ) ، بفتح السين كما ضبطه المحقق الكبير الأستاذ محمد أبو الفضل ابراهيم ، وزميله عبد المجيد قطامش ، وهما ينشران كتاب  (جمهرة الأمثال ) لأبي هلال العسكري ، فقد ورد فيه المثل الشهير : ( أبلغ من سحبان ) ، وسحبان هذا رجل من باهلة ، مشهور بالفصاحة ، والبلاغة معا ، مقتدر على تصريف الكلام، ، والاسترسال فيه ، وكان اذا دخل على معاوية         (وعنده خطباء القبائل —- خرجوا لعلمهم بقصورهم عنه )    (جمهرة الأمثال ، 1/ 248 ) ، وكان ينشد بيته النافذ :
                                                                                                      لقد علم الحي اليمانون أنني                                        
                                               
                             اذا قلت أما بعد أني خطيبها                  

   وتكلم أمام معاوية ( من الظهر الى أن فاتت العصر ، ما تنحنح ، ولا سعل ، ولا توقف ، ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقيت عليه بقية  فيه ، ولا مال عن الجنس الذي يخطب فيه) ( جمهرة الأمثال ، 1 / 248 ) ، حتى وصف بأخطب العرب ، وكان يصف نفسه بأنه أخطب الجن والانس على سبيل المبالغة . أقول : لأمر قريب مما سبق اختير هذا الاسم للأستاذ ، ولا ريب أن هناك علاقة بين ذاك البعيد ، وهذا القريب ، فان كان ( سحبان ) القديم قد حاز الفضل لنفسه بتلك البلاغة ، فان (سحباننا ) تغمده الله برحمته قد حاز هو الاخر الفضل كله بما بسطنا فيه القول من جدّه ، وصبره ، وتفانيه . فبلاغة الكتاب تضارع بلاغة اللسان ، وتزيد ، فهي باقية ما بقي الدهر ، وليس تقرير الجاحظ عن الكتاب وفضائله ببعيد عنا،ولانزيد.                                                           
      وأما الكلمة الثانية فهي ما ساقه الأستاذ العجلوني بشيء من الحسرة عن كتاب الأستاذ ( التحليل اللغوي – المنطقي ) الذي كان ( من المنتظر أن يتنزل —-على أرض متعطشة لا على صفوان عليه تراب ) ، كما (  كان من المنتظر أن يقدره أبناء هذا البلد ، ولا سيما المشتغلون بالفكر ، والفلسفة حق قدره ، ولكن شيئا من ذلك لم يكن ) ، وهنا أستعيد ما أطلقه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في زيارته الى القاهرة حين ملّ من كثرة الأسئلة التي وجهها اليه الحضور فما كان منه الا أن يقول بحسرة تضارع حسرة الأستاذ العجلوني : ( أرجوكم —- اقرأوني —- وأحيلكم الى كتاباتي حيث فيها الكثير من الاجابات لأسئلتكم ) ( ينظر دريدا عربيا ، ص 209 ) ، بمعنى أن الأستاذ هو الاخر لم يُقرأ قراءة فاحصة ولم يتعد الأستاذ العجلوني الحق حين كتب ما كتب ، غير أنه يفيء الى شيء  من الأمل والتفاؤل ليكتب : ( وما هي الا دورة من هذا الزمان حتى ينتبه الأردنيون ، والعرب جميعا الى حجم ما قدمه سحبان ، وما كابد لتحقيقه سحبان ) .                        نعم ، انّ ما كتبه الأستاذ العجلوني عن الأستاذ ، وما كتبه غيره،  وهذا الذي بين الأيدي ليس سوى تنويه الى أن هذا البلد الكريم يضم بين جنباته باحثين كبارا ، وعلماء أفذاذا يستحقون العناية ، والاهتمام ، والتكريم ، وان بعد رحيلهم . فلعل دورة الزمان ، تلك التي أشار اليها الأستاذ العجلوني ، قريبة فتوجه نظرها الى أعمال الأستاذ لتنشر ، وتقوم الدراسات عن تلك الأعمال ، وليس هذا بعزيز . وانا لمنتظرون . رحم الله الأستاذ سحبان خليفات كفاء ما قدم لوطنه الأردن ، وأمته العربية .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب