ليس هناك من شك أن الأستاذ عبد الرزاق عبد الواحد شاعر يمتلك مهارات فنه التي تجعله في مقدمة الشعراء في عصره، ولكن ربما الذي لم يلتفت إليه حتى الشاعر نفسه هو أن الدخول إلى ساحة الحسين(ص) هو التعميد وهو التطهير وهو التزكية، وهو كذلك شوق النفس إلى انسانيتها التي حاولت الدنيا بمغرياتها أن تزيفها، مرة بالجاه، ومرة بالقرب من السلطان، وأخرى بالمديح الذي هو في حقيقته استدراج خطير للممدوح، ولكن الأستاذ عبد الرزاق بدخوله في رحبتي الحسين(ص) محرما كشف عن حقيقة اجتهد أعداء الإنسانية كي يطمسوها ولكنها بالدم الطاهر الزكي بقيت تفور في كل آن لتفضح تلك النفوس التي قبلت أن يكون الفساد شعارها ودثارها، كي تطمس النور الإلهي فجاء الحسين(ص) بفيض نحره الشريف ليغسل وجه الإنسانية ويعيده ناصعا كما أراد له الله سبحانه، وبيَّن أن الدين الحقيقي ليس بإطالة العثانين وتقصير الثياب، ولا بإطالة السجود والركوع، ولا بالبقعة السوداء على الجباه كي توحي بكثرة السجود والعبادة، ولا…، ولا….، بل الدين الحقيقي هو أن تعرف دليل الإنسانية في كل زمان وتتعلق به.
لست ناقدا أدبيا، ولا أحب لعب دور الذبابة على فخذ الحصان (كما يصف تشيكوف النقاد)، ولكن قصيدة الأستاذ عبد الرزاق عبد الواحد كشفت الجانب الانساني في شخص الرجل، فالكلمات لا تصنعها مهارة القائلين بل تجتذبها نفوس العاشقين، ونفس الشاعر العاشقة للحسين(ص) اجتذبت كلماته وجعلتها بهذا النسق الذي يصعب على غيره أن ينسج مثله، فنفس الشاعر العاشقة لم تنظر للحسين(ص) من نافذة الوصف، ولا من نافذة التعاطف، ولا من نافذة التاريخ، ولا من نافذة الانتماءات الصادمة للإنسانية، بل نظرت نفسه إلى معشوقه من نافذة العشق فمسحت بكلمات القصيد عن جبينها ما علق بإنسانية الإنسان من غبار الظلم والجور، فالحسين(ص) ليس اسما لشخص، بل هو عنوان لهوية الإنسانية، عنوان يكشف عن حقيقة لا يجد لها العلم الحديث تفسيرا مقبولا على الرغم من كل ما وصل إليه من نتائج هائلة في أبحاث الجينة الأنانية، ولكنه وقف حائرا أمام طود شامخ فيها ألا وهو (الإيثار الحقيقي المحايد) الذي يكشف الهوية الحقيقية للإنسان.
دخلت النفس العاشقة إلى ساحة معشوقها بطلب العفو (قدمت وعفوك)، وكأن هذه النفس تستلهم كلمات رمز العشق الحقيقي محمد(ص) وهو يقف في ساحة معشوقه قائلا (عفوك، عفوك)، بهذه الخطوة الصحيحة رسم الشاعر طريق دخوله إلى ساحة القدس التي شيدتها دماء الحسين(ص)، الحسين الإنسان، الحسين الذي قدم دمه بين يدي معشوقه وهو يقول (عفوك، عفوك)، فلم يكن الشاعر بطلب العفو غير واصف لحقيقة هذا الطريق العظيم، وهو بالمقابل فضح لخواء النفوس التي تتوهم في لحظة الاستدراج أنها حققت نصرا، فليست الدنيا بما فيها غير (لهو ولعب)، والنفوس العاشقة للحقيقة لا وقت عندها تضيعه في اللهو واللعب، بل هي عرفت أنها ممتحنة في هذا العالم بعشقها، وهي هنا لتؤكد حقيقة عشقها، وذوبانها بمعشوقها الحق سبحانه، فلم يكن الحسين(ص) وهو بضعة سيد الخلق لتدوس صدره الشريف خيل الطغاة من دون أن يكون في هذا العمل الشنيع رسالة عظيمة يوجهها الحسين(ص) للإنسانية جمعاء، فالمرء لأجل من يحب يعطي كل شيء، وأول شيء يقدمه العاشق ليؤكد حبه لمعشوقه هو فضح الكبرياء الزائف الذي يسكن النفوس.
ولنقف أمام صورة من صور كربلاء ونشارك الشاعر وقفته عليها ألا وهي صورة الحر الرياحي تلك الصورة العجيبة فعندما يخرج من الكوفة قائدا من قادة جيش يزيد (عليه لعائن الله إلى أبد الابدين) يسمع هاتفا يقول له : أبشر يا حر بالجنة!! فيضطرب الحر قائلا : ويح الحر يبشر بالجنة وهو يخرج لقتال ابن بنت رسول الله(ص)؟؟!! الموقف عجيب ومهول، ولما أتت ساعة الحسم بين الإنسانية والأنانية اضطرب الحر، فيسأله من كان إلى جانبه قائلا: لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك فما لي اراك مضطربا؟؟ أجابه: أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة بديلا، فضرب فرسه ميمما نحو الحسين(ص) وهو ينادي ويصيح : هل لي من توبة يابن رسول الله(ص) … انظر هي ذاتها عبارة (أتيت وعفوك)، وهي ذاتها (عفوك عفوك)، ودخل الحر في رحبتي الجنة دخل في ساحة الحسين(ص) فكان حرا كما أسمته أمه.
سـلامٌ على الحُرِّ في سـاحَتَيك
ومَـقـحَـمِهِ جَـلَّ من مَقحَـمِ
سـلامٌ عليهِ بـحَجـمِ العَذاب
وحَجـمِ تَـمَزُّقِـهِ الأشْـهَـمِ
سلامٌ عليهِ..وعَـتْـبٌ علـيـه
عَـتْـبَ الشـَّغوفِ بـهِ المُغرَمِ
فَكيفَ ، وفي ألفِ سَـيفٍ لُجِمتَ
وعُـمرَكَ يا حُـرُّ لـم تـُلجَمِ ؟!
وأحجَمتَ كيف، وفي ألفِ سيف؟
ولو كنـتُ وَحـديَ لـم أُحجـِمِ
ولم أنتظرْهـُم إلى أن تَـدور
علـيـكَ دوائـرُهُـم يا دمـي
لَكنـتُ انتَـزَعتُ حدودَ العراق
ولو أنَّ أرسـانـَهُـم في فـَمي
لَغـَيَّرتُ تاريخَ هـذا التـُّراب
فما نـالَ منـهُ بَـنو مـُلـجَمِ !
ومن يتدبر صرخة الشاعر في البيت الأخير (لغيرت تاريخ هذا التراب * فما نال منه بنو ملجم)، ولاشك في أن الشعر الحقيقي يحفل بالنبوءات، وهذه نبوءة ترجمها الشاعر شعرا، فمشيئة الرب ستتغير على هذا التراب، قال الإمام أحمد الحسن(ع) وصي ورسول الإمام المهدي(ص) : [سأواجهُهُم كما واجهَ الحسينُ(ع) أسلافَهم ، وسيرى العالمُ كلُهُ كربلاءَ جديدةً على هذه الأرضِ ،كربلاءَ فيها الحسينِ(ع) وأصحابِهِ قلة يدعون إلى الحقِ والى حاكميةِ اللهِ ، ويرفضون حاكميةَ الناسِ ، وديمقراطيةَ أمريكا ، وسقيفةَ العلماءِ غيرِ العاملين ، كربلاءَ فيها شريح القاضي ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي العلماء غير العاملين الذين يفتون بقتلِ الحسينِ .
كربلاءَ فيها يزيد ، وابن زياد ، وسرجون ، والروم (أمريكا) من وراءِه .
وسيرى العالمُ ملحمةَ رسالةٍ جديدةٍ لعيسى بن مريم (ع) على الأرضِ المقدسةِ .
وستكون ارضٌ مقدسةٌ فيها عيسى وحوارييه قلة مستضعفة يخافون أن يتخطفَهم الناسُ ، ستكون ارضٌ مقدسةٌ فيها علماءِ اليهودِ الذين يطالبون بقتلِ عيسى (ع) والرومان (الأمريكان) الذين يلبون مطالبَهم ويحاولون قتلَ عيسى.](من خطاب الحج)، نعم سيتغير تاريخ هذا التراب، ولن ينال منه بنو ملجم.