(( رجل ناهز الستين من العمر عاش حياته صالحا بارا بوالديه وخصوصا والدته بعدما فقدت رفيق دربها زوجها مبكرا تاركا لها طفلا صغيرا كانت آثار الأيام وهمومها أثقلت جسمها حتى شُلت بعض حركاتها إلا قليلا يتفقدها بين الحين والآخر يسأل عن أحوالها ويقضي لها حاجاتها البيتية وهو في قمة السعادة لما يقدمه لها إرضاء لله تعالى ولها ثانية ليوفي جزء يسيرا مما قدمته في تربيتها له وهي تعاني من شظف العيش وقسوة الأيام عليها حتى استطاعت بعزيمتها وصبرها أن تعبر به بر الأمان ليستوي على عوده . قرر ترك والدته ليؤسس له بيتا وعائلة صغيرة تاركا إياها مع ذكرياتها ورائحة الأيام على جدران البيت الصغير بسرائها وضرائها كان يبيت معها كلما تسنح له الفرصة يلبي طلباتها ويقف على خدمتها ليقنع نفسه أنه أوفى بجزء يسير من عطائها السخي .
وفي يوم من الأيام كعادته جلسا على البساط المفروش أمام الموقد النفطي الصغير بناره الهادئة يعلوه أبريق من الشاي يتجاذبان أطراف الحديث مع رشفات من الشاي المعد بيد والدته المرتجفة في ليلة شتاء باردة يستمع إلى أرق الكلمات والعبر من نفس ذاك الفم الذي طالما أسمعه أعذب الكلام وألثمه أحلى القبلات في طفولته وصباه . ينثران بين أيديهما هموم الأيام وصعابها تهون عليه أوزارها ويهون عليها ما تعانيه من الوحدة الموحشة وهي في نهاية أيامها من محطات العمر التي قد تترجل منها مودعة حياتها من غير رجعة .
وفي يوم من الأيام بعدما تناولا العشاء البسيط الذي جلبه معه من بيته أحس بشعور الراحة والأمان والحجر الدافئ لوالدته أرخى رأسه عليه وأغمض عينيه برهة مستعيد ذكريات الطفولة والشباب على ترنيمة دعاء والدته الذي أثلج صدره كأنه نداء من السماء يغشيه قفزت في ذهنه فكرة التقاط صورة تذكارية توثق هذه اللحظات الجميلة من عمره مع والدته ليضعها في خزانة الصور في هاتفه النقال فكانت صورة جميلة معبرة وواقعية تجسد الحب والحنان والوفاء بين الآباء والأبناء التي حُرمت منها كثيرا من البيوت في هذا الزمن الصعب المر بتعقيداته وسلبياته وضع هذه الصورة على أحدى مواقع التواصل الاجتماعي فكانت المفاجئة الكبيرة التي أذهلته والتي لم يتوقعها هي الصدى الواسع من المشاهدين والمتابعين لهذه الصورة وكمية الأعداد الهائلة من التعليقات التي تثني على الصورة وإبداء الإعجاب المبهر بها في زمن تفتقدها كثيرا من الأسر أخذ يقرأ كل هذه التعليقات والإعجاب والإطراء لكن تعليق واحدا شده من بين الآلاف المتابعين وهي عبارة هنيئا لك هذا الطريق الموفق إلى رحاب الجنة ) ضياء محسن الاسدي