8 أبريل، 2024 12:33 ص
Search
Close this search box.

في رثاء مثال الامانة و الشهامة

Facebook
Twitter
LinkedIn

ما اکتبە هنا هو رثاء لصديق خسرته ، و هو بهذا المعنی محدود و يحمل طابع الخصوصية و قد لا يعني جمهور القراء الواسع، و لکنە ايضا رثاء لتلک القيم و المثل التي کان الفقيد يمثلها و بهذا المعنی فهو شأن عام، بل اجرؤ علی القول بأنە يعنينا جميعا کبشر
الصديق هو الاستاذ سعد ناصر جاسم ابن البصرة البار و الذي تشرفت بالتعرف اليه من خلال صديقي الدکتور نجاح العميشي في مدينة سرت الليبية و التي حصلت فيها علی عقد عمل کمدرس في جامعتها اواخر ١٩٨٨. هذا الرجل کان يوحي بالاستقامة والجرأة والنزاهة منذ المصافحة الاولی القوية ، ومنذ نبرة الکلمات الاولی الواثقة و منذ الضحکة المجلجلة الاولی ، رجل لا يحمل احجارا في عبه و لا سکاکين مسمومة في اکمامه. کنت غير متزوج حينها و الصديق الدکتور نجاح کان بعيدا عن عائلتە التي کانت تواصل دراستها في روسيا وکنا ساکنين في غرفتين متفرقتين داخل السکن الجامعي و لکننا کنا نحضر الاکل معا ولم نکن نملک سيارة نستقلها للتسوق، و کان الاستاذ سعد ناصر ، ابو جنان، يأتي کل يوم جمعة ليأخذنا بسيارتە القديمة الی سوق المدينة للتسوق وتسيير امورنا. ثم بدأ يعزمنا في دارە التي کان يدفع عليهاايجارا عاليا بالنسبة لراتبە کمدرس في احدی ثانویات المدينة. عائلتە الکبيرة نسبيا، هو وزوجتە و اولاده الخمسة، لم تکن تعيش في بحبوحة، و لکنە کان يعزمنا کلما کانوا يطبخون وجبة مميزة او کانت هناک مناسبة مهمة کالاعياد مثلا.
زوجته، الاخت ام جنان، کانت مثالا للام العراقية الصابرة المکافحة من اجل سعادة زوجها و اولادها و کانت تواجە مصاعب الحياة بتلک الابتسامة الهادئة الرائعة التي تذکرنا بأبتسامة امهاتنا و اخواتنا اوقات الشدة، و اولادهما کانوا مثالا للادب الجم والکياسة.
و کان ابو جنان لا يترک فرصة تمکنە من تحسين الاوضاع المعيشية لعائلتە علی الرغم من مشاکلە الصحية، فکان احيانا يقوم بترجمة الوثائق من و الی الانکليزية لحساب مکتب للترجمة و کان صاحب المکتب يغمط حقە احيانا. ثم حصل علی فرصة التدريس، في نفس الجامعة التي کنا نعمل فيها، کمدرس للغة الانکليزية فقام بعمله بمهنية و امانة عاليتين بحيث اصبح موضع اعتزازنا، و علی الرغم من حاجتە الماسة لهذا الدخل الاضافي فهو لم يتنازل يوما امام مسؤول او تهاون مع طالب علی حساب امانتە کمدرس.
لقد ربی اولادە علی حب الوطن و الاعتزاز بە علی الرغم من ان اکثرهم لم يکونو قد ولدوا في العراق بل في بلاد الغربة القسرية، و کان ابا محبا فخورا بأولاده علی الرغم من الصرامة الظاهرية في تربيتە لهم، و لا انسی ذلک اليوم الذي حدثنا فيه عن کتابة اکبر ابنائه (عمار) لاولی قصائدە، لقد قالها کخبر عابر و ارفقها بضحکة خفيفة و کأن الخبر ليس بتلک الجدية و لکن تعابير وجهە التي لن انساها کانت تنم عن فخر و اعتزاز کبيرين

ثلاث سنوات قضيناها في تلک المدينة و کان خلالها خير الداعم و نعم الناصح لنا.
ثم استجدت لنا بعض الظروف من خلال محاولات البعثيين الدنيئة للايقاع بي و بالاخ الدکتور نجاح لدی السلطات الليبية من خلال الايهام باننا مکلفين ببعض الانشطة الحزبية ذات طابع اجرامي يريد الحزب الشيوعي منا انجازها! حيث کانت تصل رسائل مزورة باسم الحزب الشيوعي علی عنوان عملنا وتطلب منا باسماءنا الصريحة القيام باغتيال هذا المسؤول الليبي او ذاک! علی الرغم من انني مثلا کنت قد ترکت صفوف الحزب و اي نشاط حزبي لي حتی علی شکل اجتماع عادي لم يکن واردا اصلا ! فقررنا ترک العمل و مغادرة ليبيا قبل ان يفلح الانذال من تلفيق تهمة لنا.
في تلک الفترة کانت رواتب المدرسين( و اظن لکل الموظفين الاجانب ايضا) تدفع علی جزئين ، نصف يدفع لهم بالدينار الليبي و يوضع في حسابهم بالبنک داخل البلد، و النصف الاخر تحول الی الدولار الامريکي و يرسل الی اي بنک اجنبي يختاره المدرس خارج ليبیا، و کان الفقيد قد ساعدنا علی فتح حساباتنا في احد البنوک البريطانية.
قريب المغادرة باتت تقلقني مشکلة وهي کالتالي: تصور لو ان حادثا وقع للطائرة او تعرضت للموت في فترة بحثي عن الاستقرار في محطة غربتي التالية ، فهذا کان سيعني ان کل مدخراتي” تحويشة العمر” کما يقال في الافلام المصرية، ستذهب الی بنک بريطاني و يحرم منها اهلي الذين صرفوا علي من القليل الذي کانوا يملکونە، لذا طلبت من الفقيد ابو جنان ان يساعدني بان اترک لديه عدة صکوک موقعة مني بدون تحديد المبلغ، بحيث يستطيع ابو جنان سحب المبلغ علی وجبات. و کنت قد کتبت لە عنوان اهلي في کردستان مفصلا و طلبت منە ايصال المبالغ اليهم في حال تناهی الی سمعه اخبارا عن موتي لاي سبب من الاسباب. قبل الرجل القيام بالمهمة علی الرغم من غرابتها في تصورە.
استغرقت عملية استقراري اکثر من سنة بعد مغادرتي لليبيا، و کان الرجل يحمل لديه صکوکا بتوقيعي تخولە سحب کل مدخراتي ، و هي، و ان لم تکن ضخمة، فقد کانت کبيرة بمقاييس ذلک الزمن. و لکن الرجل قام بأداء مهمتە بکل امانة و شهامة و عندما ابلغتە باستقرار اموري قال اذن يمکنني الآن اتلاف الصکوک وقد اتلفها بالفعل.
انقطعت اخبار الاستاذ سعد عني و عن الصديق الدکتور نجاح العميشي و کنا کلما نلتقي نعود بالذاکرة الی ذلک الرجل الطيب و عائلتە الکريمة و نحاول بشتی الطرق الحصول علی خبر عنهم، حتی اتصل بي الدکتور نجاح قبل ايام و اخبرني بانە افلح اخيرا في الاتصال بنصر ابن صديقنا ابو جنان و کان قد اخبرە ان الوالد في حالة صحية حرجة و انە غير قادر علی التجاوب مع من يحادثه و بعدها بيومين وصلنا ذلک الخبر المفجع بانە قد فارق الحياة
‌لقد کان الرجل مثالا لانسان جدير بالثقة ، ما احوجنا اليه في هذا الزمن الاغبر حيث المؤتمنون علی اموال الشعب يلغفون المليارات و مع هذا يدعون الزهد و التقی بکل صلافة ، مااحوجنا الی رجال يضعون کرامتهم الانسانية فوق اي اعتبار آخر ولا يتهاونون في اداء واجباتهم مهما کانت ضغوطات الحياة و صعوبات المعيشة، مااحوجنا الی رجال يعرفون المعنی الحقيقي للصدق و الصداقة
الی رحمة اللە يا ابا جنان، فقد کنت انسانا و صديقا ومربيا کبيرا بکل معنی الکلمة ، مصابنا بفقدک و حزننا عليک کبير کبير …انا للە و انا اليه راجعون

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب