ـ ارتعبنا بقدوم البعث ثانية في تموز العام 1968.. من عودة بحار الدم تسيل من جديد.. لكن قالوا لنا أيامكم ستكون من الآن بيضاء.. كثورتنا بيضاء.. انتظرنا بترقب وخوف.. واطمئنينا لحين.. وتحسنً وضعنا ألمعاشي.. وبدأ دولاب التنمية والبناء يدور.. وأخذت الأموال تغدق علينا.. وبدأنا السفر والسياحة الى خارج العراق فرحين.. لكن الفرحة لم تدم.. فقد عاد البعث الى عادته القديمة.. بإسالة دماء العراقيين.. فكانت الحرب التي شنها على أشقائنا الأكراد (1974ـ 1975).. ليستكملها بحرب الثماني سنوات ضد إيران.. التي لم تبقِ ولم تذر.. يصاحبها فرق الإعدام على جبهات القتال.. والتعذيب والتصفية في قصر النهاية والأمن العامة والمخابرات والحاكمية والرضوانية.. وفي غيرها من الأقبية السرية.. لتمتد تلاحق بالقتل من تشتبه به خارج العراق..
انتهت حرب إيران.. وتنفس من بقيً الصعداء.. لكن النظام أدخلنا نفقاً جديداً.. وأصبحنا شعب القتال والغزو والسراق والعصابات الدولية.. نسرق دولاً بكاملها في وضح النهار.. ونصفق لأنفسنا متباهين.. إننا سراق دوليون كبار.. ولم نبقي حتى الحديدة!!
ونستنكر الحصار الذي لم يكن على النظام.. بل على الشعب.. الذي لا حول ولا قوة له.. وتمضي الأيام ثقيلة.. حصارُ وجوعُ وظلمُ.. وعدوان يلي عدوان بطائرات بوش النتن.. وكلينتون المخنث.. وتقصفنا في أي مكان.. وفي أي وقت.. وبلا إنسانية.. كحكامنا عدوانيون مع سبق الإصرار..
العرب ليسوا معنا.. والأكراد ليسوا معنا.. والفرس ألد أعدائنا.. ودول الجوار ليست معنا.. والأصدقاء ليسوا معنا.. والعالم كله مع الأعداء.. وأصبحنا أسوأ من مرض السرطان كل الإنسانية تكافحنا.. كل الإنسانية ضدنا.. ليس لذنب اقترفتاه سوى إن حكامنا ضد الإنسانية..
ليس لسبع سنوات عجاف.. كما قال النبي يوسف لشعب مصر.. بل كانت ضعفها علينا (عجاف.. وتخلف.. وظلم.. ونفاق).. ونسير جنب الحيط ونخاف.. ليس من الأمن والمخابرات ولا من لابسي الزيتوني فحسب.. بل من كل شيْ.. حتى نخاف من أبنائنا وأزواجنا.. حتى نخاف من طفلنا الرضيع قد يؤشر علينا.. إن زارنا أفراد الأمن أو المخابرات.. ونخاف أشد الخوف من الجار بل حتى لسابع.. الذي أوصى به الله!!
وتمضي الأيام والشهور والسنين ببطْ ثقيلة.. وما يعزينا إن من يدعي المعارضة ضد النظام في الخارج ينعق ليل نهار بتشديد الحصار.. وهو يعرف جيداً: إن الحصار لم يقع على النظام.. بل واقع علينا نحن شعب العراق المنكوب.. فأية معارضةٍ.. أنتم أيها السفهاء.. أنتم أيها العملاء يا أعداء العراق..
كنا نتحدث همساً مع أنفسنا.. ونحن نأكل خبز الطحين العفن للحصة التموينية.. ونتغذى ونتعشى يومياً الباذنجان الذي نشويه أو نقليه بدهن الحصة التموينية.. دهن الراعي.. الذي انقلب لونه من الأصفر القاني الى اللون الأسمر الغامق.. ومن رائحته الزكية قبل الحصار.. الى رائحته الزفرة الكريهة بعد الحصار.. ونقول همساً لأنفسنا.. متى نخلص ؟ ونلتفتُ يميناً ويساراً خشية أن سمع حائط البيت همسنا..
كنا نسير في الشارع نلتفتُ يميناً ويساراُ.. خوفاً من احدٍ يسحب مسدسه ليقتل من يشاء بلا حساب.. كنا عندما نذهب الى عرصات الهندية في إحدى العصريات.. نخاف أن يخرج احد أزلام لؤي خير الله طلفاح.. ويسحب مسدسه ليقتل من يشاء.. كنا إذا ذهبنا الى المنصور لا نتأخر في الليل خوفاً من عدي وأزلامه.. وهم يعربدون.. ونخاف على حياتنا.. وندعو من الله متى ينتهي هذا الوضع؟؟.. متى يا رب.. وعندما اقتنعنا ان لا ينتهي وسيكومننا بالوراثة حتى حلا وأبنائها..
وأخيراً استجاب عز وجل لدعواتنا.. لكن ليس بتحريرنا بأنفسنا.. أو بقوة رجالاتنا في المعارضة.. بل بالاحتلال.. ويا ليته كان الاحتلال البريطاني الذي عرفناه وجربناه خلال (1920 ـ 1958).. وعرفنا كيف نتعامل معه.. بل احتلال شذاذ الأفاق.. ليحول العراق الى ثكنة عسكرية.. بل ساحة حرب يقتل فيها ما يشاء.. ويسجن فيها ما يشاء.. ويعذب فيها ما يشاء.. ويسرق منها ما يشاء.. وبمباركة وتصفيق حكامنا الجدد الذين جاؤوا على دبابة الاحتلال.. أو من العملاء الجدد للاحتلال..
ليستلمنا بعد 2003 أسقط ما طرحته فضلات البشرية.. ولم نبقى على الجوع والسجن والظلم الذي اكتوينا به في عهد قائدنا (الضرورة).. بل فتحت علينا نار جهنم من كل الجهات.. وفي كل الأوقات.. وفي كل المناطق حتى في الصحارى.. وقتلٌ بيد جنود الاحتلال.. وقتلٌ على الهوية !! وقتلُ تحت يافطة بعثي !! وقتلٌ بالمفخخات.. وقتلُ على يد القاعدة.. وكل سياسيونا يصرخون لا.. ومع أنفسهم فرحين بذبح عراقيي الداخل.. فهم في عقيدتهم إننا بعثيون مع سبق الإصرار ولا نستحق الحياة..
وأخيراً جاء داعش ليهدم ويدمر كل شيْ ويسبي ويذبح.. باسم الإسلام.. فاهتزت قناعات الكثير والكثير.. والقادم أسوأ..
أكثر من سنتين.. ندعو من جديد ربي خلصنا من داعش.. وجاءت ساعة الفرج.. بسواعد أبنائنا.. ونزيف بحار من الدماء قرباً للوطن الذي سلمه خونة الخارج والداخل بلا قتال.. وحققنا الانتصار شبه الناجز على داعش ونزيف الدم يتضاعف.. لكن حكامنا اللصوص مستمرون ومصممون يقعدونا على الحديدة من جديد..
حكام أشكال.. إسلاميون.. سنه .. شيعة.. علمانيون.. ومن كل الطوائف والأديان والمذاهب.. طائفيون حتى النفس الأخير.. مرتزقة دوليون.. داعشيون اشد من داعش.. لا يعرفون سوى جيوبهم.. التي لم تمتلئ أبداً..
فهل وصلنا الى نهاية الطريق ؟.. هل قربً اليوم الذي سنترحم على أسوأ ما عشناه وشاهدناه من صدام وأزلامه؟..