انها لمصادفة عجيبة ان تلتقي دورة الفلك بدبيب الحياة الانسانية اقبالاً وتراجعا على الارض، ليصنعا من ايلول شهر الاحزان في تاريخ الحركة الناصرية وزعيمها. ففيه مزقت وديست اعلام اول وحدة عربية حقيقية في تاريخ العرب الحديث، وكانت من صنع والهام جمال عبد الناصر. وفيه خففت اعلام الثورة اليمنية على قمم الجبال الموحشة الشاهقة، مستنيرة بوهج البطل، ثم ما لبثت ان لاذت به دفاعاً عن املها في صنع الحياة الجديدة هناك. ثم فيه ايضا مات جمال عبد الناصر مرهقا مخرونا، وهو يحاول وقف نزف الجرح الاردني- الفلسطيني الذي كان اولاً واخيراً جرحاً عميقاً في نفسه المثخنة بالجروح.
في الثامن والعشرين من ايلول عام 1970، صمت القلب الكبير، قلب جمال عبد الناصر، منذ (43) عاماً رحل عن عالمنا، وان ظل شامخاً بما حققه من انجازات وما رسخه من مبادئ حملت طموحات الشعب العربي من المحيط الى الخليج في بناء قوة ذاتية عربية قادرة على تحقيق وبناء كيان عربي قوي مستقل متحرر وغير منحاز يتحدث العرب من خلاله مع العالم ويتفاعلون خارج صيغ التبعية وعقد النقص، وقادر على كسر الخلل في ميزان القوى مع اسرائيل ومواجهة كوابح الآخر/ المختلف. كيان قادر على رد العدوانات واسترداد الحقوق، وقبل كل ذلك، هو كيان لكل ابنائه بدون تمييز طائفي او مذهبي او عنصري كيان عربي وحسب.
بعد (43) عاماً، نتذكر جمال عبد الناصر، والشعوب تتذكر رجالها في المحن والشدائد. نتذكر جمال عبد الناصر الذي قال فيه كثيرون الكثير، قائد عربي حمل طموحات الجماهير العربية من الماء الى آبار النفط، ابنها البار، عاش لاجلها ومعها، وكل ما فعله كان في سبيلها، وقد يكون اخطأ احيانا، ولكن من يعمل يخطئ، ثم انه كان يعترف بخطئه ويعمل على تفادي الخطأ بالجهد الجاد من اجل مصلحة الشعب العليا. ولانه كذلك، فقد كان عربي النزوع والاتجاه والعمل. ولا ريب انه آمن بحقيقة انتساب شعب مصر الى امته العربية، وان قوته في ذلك، فأسهم بكل مواقفه ومسالكه في اضاءة هذه الحقيقة، وفضح تفاهة ما حاول القطريون والانتهازيون واصحاب المصالح الخاصة نسبته الى شعب مصر العظيم من سمات غريبة عليه.
ولان ابن هذه الامة العربية، وعى منذ البداية، ألا حياة لامة في غير وحدتها، وان هذه الوحدة القادرة على ضرب الاستعمار واعوانه ومصالحه، فكان حرباً عليه، وحربا من اجل مصير الامة الموحد، وحريتها، ووجودها وارادتها….
آمن بأن خبراتها وقدراتها وجهودها ملك ابنائها، فلا استغلال ولا استثمار. ومن هنا كان ايمانه بالمساواة الاجتماعية دين حياة. أيقن، ان امته العربية، ذات شخصية وصفات مستمرة عبر التاريخ قد تحاول الاحداث والمحن ان تطمسها، ولكنها ما تلبث ان تتآلف من جديد كلما ظن انها عفى عليها الزمن، فعمل بكل طاقاته على الاعتداء بهديها، تساعده مواقف مشهودة، مثل حرب السويس، ومواجهة الاستعمار، والتصدي الحقيقي لكل خطر يتهدد الامة.
بل لقد كان عبد الناصر بجرأته وايمانه ورجولته، صمام امان يرهب الاستعمار –الآخر الكولونيالي- ويخيف المتآمر، فلا يجرؤ على المغامرة في التآمر. ترى لو كان عبد الناصر على قيد الحياة، أكان من هو محسوب على امتنا العربية يجرؤن على دعم هذا الآخر الكولونيالي حليف اسرائيل و… في عدواناتها على امتنا وعروبتنا؟!
لو كان عبد الناصر، آكانت كامب ديفيد، ام جرؤ ملك من هنا او رئيس من هناك على التفاوض علناً او سراً مع اسرائيل؟ أكان هذا الآخر المختلف يجرؤ على اجتياح واحتلال العراق؟
هذه الصورة الانطباعية حول شخصيته، التي اكدتها الكتابات التي ظهرت فيما بعد، هي الصورة نفسها التي رأته فيها الجماهير، فكانت سبباً للالتفاف الجارف حوله، ألتفاف لا يمكن ان تصطنعه كل ماكينات الدعاية في العالم ولا كل اموال النفط، التفاف شارك فيه كل عربي على الرغم من وجود كل الحدود والسدود الجغرافية والسياسية والادارية…
لكن حين يكون الموضوع المتداول الآن في الاوساط السياسية العربية ذا علاقة صميمية بالراهن العربي وتداعياته واسقاطاته ونكراته… لماذا اذن يتم نبش قبر جمال عبد الناصر لتحميله مسؤولية الوضع العربي الراهن؟
بصورة او بأخرى – برأيي الشخصي- يتحمل عبد الناصر مسؤولية جزء مما وصلنا اليه. فكثيراً ما وقع في أخطأ ، وكثيراً ما خانته الوسائل والاساليب. ولا سيما عندما ازدوجت وسائل الاتصال بينه وبين الجماهير المحيطه به التي كانت تصل اليه بقلوبها، في حين كان هو كحكم ودولة يصل اليها بالاجهزة وبالمباحث والعيون والتقارير… لكن على الرغم من ذلك، فانه كان ينطلق من قناعة سيطرت على كل خطوة من خطواته في تلك الفترة، سواء التي اصاب فيها او أخطأ، وهي القناعة بأنه في غياب قوة ذاتية عربية لا يمكن الحصول على حل سلمي يحمل في طياته الحد الادنى من العدل والشرف. ففي الوقت الذي كان يرحب بالمساعي الدبلوماسية كان يبني قوة التصدي.
في حين نشهد ان السمة الرئيسية للجهد العربي الرسمي ذي التوجه التسووي في هذه المرحلة ينصب على نصب الحروب والمجازر والفتن والمؤامرات، لأي مكمن قوة في جسد هذه الامة باعتباره عقبة في طريق التسوية والخنوع.
فاذا كان هناك مشروع للسلام متعارض مع ارادة الامة لا تعمل ما يلزم لتغييره بما يتفق مع تلك الارادة ينصب الجهد على تغيير ارادة الامة لتتلائم مع ذلك المشروع. وشتان بين من يجعل التعاون والاتفاق والتفاوض… غطاء لتوفير مستلزمات القتال وبين من يجعل القتال داخل الوطن وسيلة لتوفير مستلزمات الاتفاق والتفاوض….
جمال عبد الناصر، غاب منذ (43) عاماً، فما الذي حال اذن بين الواقعيين والعمليين من الذين يرون ما لا تراه الجماهير، وبين ترجمة واقعيتهم وحصافتهم على الارض حتى نرى ما الذي امكن انجازه وتحقيقه؟
جمال عبد الناصر لم يغب منذ (43) عاماً فقط، بل تم تغييب سياسته ومبادئه واساليب عمله، وحل محلها نقيضها الواقعي!!
جمال عبد الناصر، توقف عن التدخل في الشؤون العربية بعد هزيمة حزيران حتى على الصعيد الاعلامي. فما هو شكل العلاقات العربية- العربية بعد كل هذه الاعوام؟ بل ما هو شكل العرب، وما هي انجازاتهم، وما هي قدرتهم على توفير الحد الادنى من شروط العمل المشترك؟
هل كان على عبد الناصر لينال صفات الحكمة المطلقة والنجابة والذكاء والحصانة… ان يدير ظهره لحقوق امته؟
هل كان عليه ان ينكر واقع الحظر الجاثم على حدود بلاده الشرقية؟
هل كان عليه ان يتجاهل جغرافية مصر وتاريخها منذ ما قبل وبعد الاسلام؟
ألم يكن الحظر عبر التاريخ على مصر شرقي الجغرافية؟
وهل هناك خطر على دولة اكبر من وجود كيان مصطنع على حدودها؟
غريب أمر نبش قبر عبد الناصر كلما اراد احدهم تبرير اتصالاته بالآخر العدواني ودعواته لتطبيع علاقاته معه في وقت يقول كل اصحاب المبادرات تجاه هذا الآخر المختلف بأنهم اقدموا على عمل سيتركون الحكم عليه للتاريخ البعيد مع اصرارهم على تاريخية ما فعلوا. وحين يجيء الامر عند عبد الناصر يصير مشاعاً مسموعاً تقييمه ومحاكمته.
هذه المقابلة المناسباتية ليست دفاعا عن عبد الناصر، فمكانته عند ابناء امته ليس بحاجة الى اثبات، والذين خرجوا في يوم جنازته على امتداد ارض العرب، كانوا يؤكدون على تمسكهم بالحلم الوطني والقومي الذي اثبت عبد الناصر بممارسته، انه قابل للتحقيق على ارض الواقع.
هؤلاء الذين خرجوا يوم جنازته وقبلها يومي (9) و (10) حزيران عام 1967، لم يكونوا مغيبين ولا مخدرين. فلم نسمع في تاريخنا الحديث عن امة باكملها مخدرة او مغيبة او مظللة؟
القضية الآن في راهننا العربي ليس ان نذم الرجل او نمدحه ، القضية هي ما تحقق بعد (43) عاماً من غيابه؟
ما الذي حصل في وطننا العربي خلال هذه السنوات الطويلة منذ ايلول 1970، وحتى هذه اللحظة؟
ومع مرور هذه الذكرى، الذكرى (43) لرحيل عبد الناصر، وفيما تبلغ العدوانات حرباً وقتلاً وتأمراً… ضد كل مكامن القوة في الجسد العربي اقصى مداه، تحضيراً لجولة جديدة من تقديم فروض الخنوع والاستسلام، يؤلمنا ان نجد حولنا من يتذكر عبد الناصر ليتخذ من مسيرته فتوى للفعل الشنيع القادم.
ان كل من حسب ان غياب رجل كعبد الناصر يعني غياب امة، موغل في الجريمة، فالامة التي انجبت ناصر لا بد ان تنتفض من ركام المحن والمؤامرات لتملأ بوجودها ساحة النضال من اجل قضاياها الكبرى، وان لنا في عراقنا العزيز الآية. فشعبنا المجاهد الذي تضافرت على التآمر عليه كل قوى الشر عربية وغير عربية، اثبت انه قادر على صنع المعجزات بارادته وصموده وقدرته على الحياة….
[email protected]