من الناصرية قدموا الى البصرة بحثا عن فرصة عمل افضل. عائلة طيبة ومكافحة، إنغمر ابنها في العمل الوطني، فساندته حتى تحول بيتها بيتا للكل، وعلاقاتها علاقات مع الكل. ومع نمو مخالب الذئب وأستشراسه، تبدء فصول الضريبة تطبق على هذه العائلة المسالمة، بدأت بإبنها الأصغر الذي يفصل من جامعة البصرة، ثم اعتقال الأبن الأكبر، بعدها وفاة الوالد، ثم المحاربة والتهديدات، ثم ترك البصرة الى بغداد، ثم تركها نحو (تلسقف) القرية الأم، وهاجرت الأخت، والآن يعيش ما تبقى من العائلةـ لجوءاً موقتاً ـ في القوش.
أيّة لوحة هذه، وأيّة تراجيديا، ولماذا كل هذا الثمن الغالي؟
******
في احتفالية (يوم الشهيد) التي دأب على اقامتها جمع من الوطنيين العراقيين في مدينة ديترويت، تعيد الناس المخلصة استذكار وأستحضار تلك القامات الشامخة التي وهبت اغلى ما عندها من أجل قضية الناس والوطن. ومع مرور الزمن تصبح الأسماء مألوفة، وعوائلهم معروفة، و يظلُ شريط هؤلاء القناديل يكبر مع السنين، بأستحضار من كان منسيا او بإضافة من صعد نجمه حديثا في السماء. لقد كان هناك إسماً حرص على استذكاره بكل شغف ولهفة إثنان من أحبة البصرة (عامر ونجيب) عن أحد الأبطال الذين مضى ألقهُ عاليا في صفحات الفخر والفرح، ذلك كان الشهيد “وليم شمعون شـعيا”.
من مواليد عام ١٩٤٩ ولعائلة تنحدر من قرية (تلسـقف)، قصدت البصرة قادمة من الناصرية عام ١٩٦٧ بحثا عن فرصة عمل جيدة. لم يكن قوام العائلة كبيرا، أب وأُم مع أخت واحدة وثلاثة أخوة.
يتحدث عنه زميله السيد “عامر دادو” قائلا: لقد جمعتنا البصرة الجميلة انا و “وليم” منذ العام ١٩٦٧ حين نزلت عائلته في منزل يقابل بيتنا في منطقة (البريهة) ومنذ يومها صرنا أصدقاء، وتقاربت افكارنا حتى كان لي الشرف ان أدله لطريق العمل الوطني عام ١٩٦٩ وحمل يومها اسم (سعيد) تيمنا بالمناضل الشهيد أبو سعيد. وقد جمعتنا النشاطات بالأعزاء الشاعر فوزي قاسم السعد والسيد خزعل الملقب أبو عادل وهو شقيق فالح الطائي وآخرين غيرهم.
توجهت عائلته نحو العمل الأنتاجي ففتحوا معملا لخياطة القمصان والبيجامات في سوق حنا الشيخ الجديد. كان هادئ الطباع محباً ومحبوباً من الكثيرين، ولكثرة تعلقه بالحركة الوطنية فقد جعل بيته متوفرا لمعظم الفعاليات والنشاطات، وكانت امهُ تفيض علينا بمحبتها وكرمها غير المتناهي، ولازلت اذكر تلك الحادثة التي جرت لي بعد اعتقالي لمدة عام بين ٧٥ ـ ٧٦ إذ توجهت لدارهم حال اطلاق سراحي، فأخذتني تلك الأم الغالية في الأحضان. لقد تعرض “وليم” للكثير من المضايقات بعد أن ساءت الأوضاع في البصرة، خاصة وأنه كان معروفا عبر (مقر البصرة) . بعد مغادرتي العراق عام ١٩٧٧، قلّت اخباره، إلا النادر منها عبر بعض الأصدقاء، على ان الصدمة كانت عندما علمت انه استشهد على يد البعثيين هو ومجموعة طيبة ومنهم فالح الطائي و فوزي قاسم السعد.
لقد قادني بحثي عن “الشهيد وليم” الى الرسو عند شقيقه العزيز (رستم) لكن ذلك لم يكن إلا بعد ان مرت المحاولة بالكثير من الناس والدول وحتى القارات، لكني بالنهاية توصلت.
تعود الأيام به الى سني البصرة وناسها والنظام البائد فيقول الشقيق رستم: مع اننا كنا اناساً نحب الوطن والناس، الا ان النظام الأجرامي الذي كان قائما جعلنا ندفع ثمنا غاليا جدا جدا، قياسا الى الأفكار التي لاتتلائم وأفكارهم.
بدأت المضايقات معي حينما فصلتُ من كلية العلوم بجامعة البصرة ـ قسم الفيزياء عام ١٩٧٦ لأسباب سياسية وأنا في الصف الرابع، تقدمتُ بعدها ودرست في معهد التكنلوجيا / قسم البناء وفي البصرة ايضا وتمكنت من الحصول على المركز الأول على عموم المعهد، لكن مع هذا فلم امنح حق اكمال الدراسة او السفر بالبعثات. أعتُقل اخي الشهيد “وليم” في تشرين أول ١٩٨١ عندما قدم للبصرة في الأجازة الدورية من الخدمة العسكرية ، ولم نسمع عنه اي خبر الا في العام ١٩٨٣ عندما أتت المخابرات الى بيت والدي مطالبة بالكشف عن (ممتلكات وليم) من اجل اجراء الحجز على امواله المنقولة وغير المنقولة! ولم يكن يملك شيئا آنذاك، فخابت زيارتهم وقد توفي والدي عام ١٩٨٥ متأثرا بما جرى للعائلة. في العام ٨٢ انتقلتُ الى بغداد هربا من عيونهم، إذ اني كنت مطاردا ومطلوبا (ولا ادري لماذا) لكن هذه الحالة التي عشتها لسنين طوال جعلتني افقد اية لذة في هذه الحياة. بعد سقوط صدام، توجهتُ الى بغداد بحثاً عن مصير (وليم) وفعلا وصلت لوثائق الأمن والمخابرات التي ذكرت بأن حكم الأعدام قد نفذ به منذ العام ١٩٨٣، وليس عندنا
لليوم حتى شهادة وفاة رسمية له. عدت بعدها الى بلدة (تلسقف) وعملت في قطاع الأنشاءات وبنجاح كبير، وهذه المرة ايضا لم تدم فرحتنا طويلا، فجائتنا جحافل القتل والدمار والتخلف (داعش) فأضطررنا الى النزوح للقرى والبلدات المجاورة، وها اني الآن نازح (في وطني) وفي بلدة القوش العزيزة.
لقد اصبح واجباً عليّ نقل والدتي وشقيقي المُقعد معي الى ألقوش خشية من جرائم داعش، وبالحديث عنها فإن وضعها يمزق قلبي كل ساعة وكل يوم. هذه الأنسانة التي احبت الناس وفتحت بيتها لكل الطيبين والخيرين وكانت تعاملهم مثل ابنائها، لا تُصدق (لغاية هذا اليوم) بأنهم قد اعدموا ابنها، لابل اني لم أقل لها وبصريح العبارة من انهم قتلوه، حيث لا اتمكن من ذلك. لكنها تعيش عالماً آخر، فهي مازالت لليوم تعتقد “إنه على قيد الحياة” و “انه متزوج” لابل حتى وصل بها الأمر ” منح الأسماء لزوجته وأبنائه” وغالبا ما تذهب لمقر الحزب في القوش وتطلب من الرفاق أن يتصلوا ب “وليم ويطلبوه للمقر حتى تراه”، وفي أحد الأيام استقلت سيارة التكسي وتوجهت الى مقر الحزب في أربيل لتسأل عنه هناك إذ إدعت “إن إبني وليم موجود في مقر أربيل وأريد لقاءه”. اما الأغرب من ذلك فأنها عادة ما تذهب للسوق وتقصد أحد الأخوة الخياطين وتخاطبه بإسم وليم وتقول له : “لما لا ترد عليّ، انا امك، وأنا أحبك؟” .
كم مرة سيدفع الشعب وأبنائه المخلصون ثمنا باهضا لمبادئهم، ولماذ؟
ومتى تتعض القوى السياسية والنخب والمثقفين؟
متى يستفيق هذا الشعب ويرفض سياسة الحكام هذه؟
متى يعيش الناس في وطن آمن يحترم ابنائه ويجعلهم مشروعه الوحيد للتقدم والرقي، تماما كما كان يحلم به “وليم” وآلاف الشهيدات والشهداء من قبله أو من بعده.
*الذكر الطيب للشهيد وليم شمعون وكل شهداء العراق.
* شكرا لكل من ساعدني على إكمال هذا اللقاء ابتداءا من : السيدين عامر دادو ونجيب عجو، الأحبة الغاليين في موقع (تلسقف) وخاصة الأخ باسم روفائيل والرفيقين سمير توماس و راسم بوكا في مقر ألقوش.