في رحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش يكون المشهد الشعري العربي عامة والفلسطيني خاصة قد منية بخسارة فادحة لا يمكن تعويضها على المدى القريب ، فقلب درويش الذي انتصرعلى جسده فجأة بعد سنوات طويلة من الصراع مع الموت قد خانه في اللحظات الاخيرة ! لكن درويش الذي جعل من الشاعر في داخله ان ينتصر على الموت منذ ما يزيد على العقدين من الزمان بعد ان اجرى اول عملية جراحية لقلبه عام 1984 ومن ثم عانى الكثير من اللآلام في اضطرابات القلب حتى اجريت له في باريس عملية اخرى في العام 1998 ليستقر ذلك القلب ويمد الشاعر بالمزيد من القوة والتحدي في صراعه الشجاع للموت ، وكان دائماً يقف بصلابة امام هذا الموت ويعرف ان حتفه قادم لا محال ، ولعل قصيدته الطويلة ( جدارية ) التي وصف فيها علاقته بالموت كانت هاجس الصراع معه . لقد شكل درويش مدرسة شعرية خاصة به تقف لها الشعرية العربية برمتها باعجاب شديد للمنجز الشعري الثر الذي ظل محافظاً على قصيدته ذات النكهة الخاصة الممزوجة بالحب والموت والحرب والألم والتشرد واللوعة والفراق ، كما تمكنت قصائد درويش ان تأخذ دور المقاومة على مدى سنوات الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين ، وكانت الفعل المحرض لمواصلة مقاومة الاحتلال في اصعب واشد الظروف ضراوة على الشعب الفلسطيني ، حتى أن قصائده شكلت ذعراً واستفزازاً للحكومات الاسرائيلية المتعاقبة الامر الذي تعرض للاعتقال مرات عديدة ونفيه لسنوات طويلة جراء ما عبرت عنه تلك القصائد وبصدق عن كل جراحات الوطن المضرج بدماء ابناءه .
وحين تعرفنا على هذا الشاعر الفذ يوم كنا صغارا كانت اولى مجلداته الشعرية تنتشر في مكتبات بغداد التي كانت عامرة بالكتب وقد دخل هذا الشاعر الى قلوبنا بسهولة وبساطة قّل ما تنتاب المتذوق للشعر في بداياته ، فقصائده الخالدة التي نحفظها على ظهر قلب مثل سجل انا عربي وسرحان يشرب القهوة في الكافتريا ومديح الظل العالي والعشرات غيرها كانت شعلة تضيء دروب الحرية والنضال ، وكان شعر درويش مزيجاً رائعاً تفوح منه رائحة المقاومة لتحرير الارض المغتصبة من اهلها ، بينما تلوّح لك الحبيبة من بعيد في كل قصائده الثورية ليقدم تركيبة متجانسة من الموت في طريق النضال والحب المفرط للارض والحبيبة ، انه الشاعر الذي تمكن بقدرته الابداعية الناردة ان يقدم للقاريء العربي قصيدة حديثة بطريقة تختلف عن قصيدة الرواد وما تلاهم من الاجيال والتطورات التي واكبت القصيدة العربية في كل مراحلها . إلا ان درويش انفرد بقصيدته وظل محافظاً على لونها وطابعها المميز ولذلك فقد اسس مدرسة حديثة في الشعر العربي ، مدرسة خاصة بالقصيدة الدرويشية التي كانت ومازالت هرماً شعرياً يقف جنباً لجنب مع هرم القصيدة الكلاسيكية التي ختمها شاعر العرب الاكبر الجواهري بعد رحيله عام 1997 .
ولعل رحيل شاعر عملاق بحجم محمود درويش في مثل تلك الايام من عام 2008 كان بمثابة صدمة للوسط الثقافي العربي لم يفق منها بعد ، درويش الذي جعل من قضية شعبه ووطنه فلسطين قضيته المصيرية وطاف بها في كل دول العالم وعّرف بمأساة شعبه من خلال قصائده التي غيرت بشكل ايجابي خارطة الاحتلال وخارطة الشعب الجريح . وقد ترجمت قصائده الى اغلب لغات العالم وخلال مشواره الشعري الطويل نال درويش عشرات الجوائز العربية والعالمية لقاء ابداعه في الشعر عن استحقاق حقيقي لمنجزه الذي سيبقى شعلة ادبية وثورية في الطريق الى الحرية ، لقد استطاع الشعر منذ قرون طويلة ان يقوم بتخليد ثورات كبرى وان يحفز عليها وهكذا فعل الشعر في تاريخنا العربي وفي تاريخ اوربا بشقيها الغربي والشرقي ، وكان محمود درويش شاعر الثورة الفلسطينية الذي تمكن من تخليد نضال فلسطين على مدى ستين عاماً من تاريخ الاحتلال الاسرائيلي الموغل بالقتل والدمار والحروب والخراب ومصادرة الاراضي وغض الطرف عن الحقوق الشرعية لهذا الشعب .
لقد رحل محمود درويش على غفلة من قلبه في الوقت الذي مازال يحلم بعودة الديار الى اهلها في مدنه وقراه الفلسطينية . وكان الشعب العربي بنخبه المثقفة وغير المثقفة تواقاً لسماع محمود درويش لان قصائده هي الرئة التي تتنفس منها كل الشعوب العربية التي ترزح تحت طائلة الظلم والقهر والاستبداد جراء استحواذ الانظمة الشمولية على مقدراتها ، ان رحيل شاعر كبير بحجم درويش الذي لم يمهله قلبه اكثر من ذلك يعد خسارة كبيرة بحق ..