23 ديسمبر، 2024 8:36 ص

في ذكرى رحيل علي الوردي، _ هدم جمودهم فهدموا قبره!‎

في ذكرى رحيل علي الوردي، _ هدم جمودهم فهدموا قبره!‎

يستثير العبث ( المقصود ) بقبر العلامة الراحل الدكتور علي الوردي _ والمقترنة ذكرى وفاته في 12- تموز 1996، سيلاً من العواطف والأفكار. وكيف لا والرجل قد حورب في حياته، وبعد مماته. ويبدو إن تلك الحرب لم تنته بعد حتى وإن تغيرت أثواب السلطة، رغم إنّ المُحارب يرقد في جوف ” مقبرة العظماء ” داخل أسوار جامع براثا منذ أكثر من عقدين من الزمن!
لم تحظ شخصية ثقافية عراقية معاصرة  بانقسامٍ واضحٍ واختلاف جدلي ، كما حظيت شخصية الراحل  علي الوردي.؛ فلقد انقسم الناس حول هذا الرجل:  بين مؤيدٍ له، أو ناقد متعصب، أو ناقم عليه. المؤيدون هم من الشريحة العلمانية التي كان الوردي رمزاً من رموزها، والناقمون من أصنافٍ شتى : ماركسيين، قوميين، إسلامويين، كتاب سلطة،ناقمون لغرض الاختلاف فقط…
 ألهبت كتابات الوردي ظهور هؤلاء ، بسياط الحقيقة  القاسية… ولازال الحقد موغراً في الصدور حتى لحظة كتابة هذه السطور . فما عجزوا عنه من مواجهة ثقافية لأفكاره، حاولوا تحقيقه بطرق متنوعة: من محاربة السلطة البعثية التي سحبت منه لقب ( أستاذ متمرس) ومنعت اسمه وكتبه من التداول، إلى ما قام به إسلامويون في وقت قريب من محاولة للنيل من قبره متصورين إنهم سيحققون بعملهم هذا حلم القضاء على الرجل. إلى بضعة مقالات كتبها كتابٌ غير متخصصين، مُعبأين أو مصابين بعقدة الاضطهاد لتسفيه فكر الرجل.
استطاع الوردي أن يُعرِّي المفاهيم المزيفة، التي نشرها الوعاظ المزدوجون في المجتمع؛ ليحثوا الناس على اتباعها في حياتهم، غير عابئين للتناقض بين هذه المواعظ وسيرتهم العملية.كسر تابو المؤسسة الدينية، التي تسيدت المجتمع ردحاً طويلاً من الزمن، متدرعةً بعباءة الطهرانية، وجلباب الورع. فكشف الأساليب الملتوية التي اعتمدها رجال الدين، للهيمنة على عقول العامة، مخترقاً بذلك الخطوط الحمراء التي وضعتها تلك المؤسسة لمفاهيمها القائمة على التقديس.
من أهم الأسس التي اتبعها الوردي في مشروعه التفكيكي هذا، هي محاولته لهدم المنطق الأرسطي – ذلك المنطق العتيد الذي يعد من أهم أسلحة الواعظين وأفتكها أثراً في المجتمع، والذي كان سبباً لديمومة المؤسسة مئات السنين. هاجم الوردي هذا المنطق، وبين فساده، وما يعتوره من أخطاء لا يصلح معها أن يكون منطقاً سليماً للحكم على الأمور، فهو منطق ربما يكون صالح التطبيق في العصور القديمة، لكنه لا يصلح لعصرنا الحالي الذي يسوده منطق الاستقراء، وقانون النسبية، وتحكمه لغة الأرقام والإحصائيات الدقيقة.
استفزت آراء الوردي المؤسسة التقليدية، فاستنفرت كل طاقتها للقضاء عليه فكرياً، ويكفي أن نعرف إن خمسة مؤلفين من طوائف مختلفة كتبوا خمسة كتب؛ للرد على كتاب ” وعاظ السلاطين” وحده! ، ووقف الخطيب في بغداد، قائلاً في خطبة الجمعة : ” إن أسباب فساد الشباب ثلاثة : البغاء، والقمار، وعلي الوردي.”! هاجم الوردي تراث السلطة، بطريقة غير مباشرة عن طريق نقده اللاذع لأساليب البلاغة والنحو العربيين، وما فيهما من تعقيد مقصود، الغاية منه تقديس اللغة، وإحاطتها بهالة إلهية. مبيناً بإنها في حقيقتها كانت لغة بلاط، لا يستخدمها العامة و كانت أداة من أدوات الهيمنة السلطانية على المجتمع؛ من خلال تحويلها إلى أُلهية لتخدير المجتمع. وقد استعرض أفكاره هذه  في كتابه ( أسطورة الأدب الرفيع) واصفاً هذا الأدب القائم على الزخارف اللفظية، والاستعراض البلاغي، والحذلقة البيانية بأنه في الحقيقة أدب أجوف رقيع! هدفه خدمة الطغاة، معتبراً أياه سبباً مهماً من أسباب الازدواجية في الشخصية، فنحن نفكر بلغة ونكتب بأخرى. ولا حاجة بنا إلى القول إن هذا استفز التقليديين فراحوا يهاجمون الوردي منطلقين من نظرية المؤامرة.
فيما يأتي أبرز الاتهامات التي وُجهت للوردي في نظريته عن ازدواجية الشخصية العراقية، أو ثنائيته الشهيرة ( الحضارة _ البداوة )  :
• الوردي نظر إلى المجتمع نظرة إستشراقية ( من وجهة نظر غربية ) مستخدماً في ذلك نظرية إبن خلدون إستخداماً تعسفياً، وهو _ في نظرته هذه _ كان ضحيةً لمصيدة الحداثة، والتي كانت مؤامرة صهيو_ غربية لقطع امتداد العرب بماضيهم الحضاري التليد!
•أنه كان ضيق الأفق في تناوله لنظرية إبن خلدون، باقتصاره على العرب والمغول في موضوع البداوة.
   • أنه مسخ الشخصية العربية، وشوّه الشخصية        

  العراقية من خلال تقديمها بصورة سلبية، أسهمت في تكوين ” العقل العراقي” بشكل مازوخي فيما بعد.
• إبتسروا نصوصاً للوردي، وحاكموه على أساسها، مدعين بأن البداوة لا تكمن في الصحارى فقط، وأن العراق لم يشهد مداً بدوياً فقط، بل شهد مداً حضرياً، لكنهم لم يبينوا أين وكيف ومتى حصل ذلك؟!
• افتعلوا مغالطات منطقية، لتخطئة نظرية الوردي في سمات البداوة، كالمقارنة بين حب الغزو الذي يشكل قيمة اجتماعية أصيلة للبدوي، وبين الحروب التي خاضتها أنظمة غربية لأسباب سياسية واقتصادية وتأريخية محضة . مازجين بين هذه الصفات التي تشكل سمات مشتركة لجميع البدو وتمثل قيماً أخلاقية أصيلة عندهم، وأعرافاً اجتماعية لديهم؛ بالتقاط بعضٍ من هذه الصفات متوزعة في أفراد من المجتمعات الغربية. 
• أثار ضغائن اليساريين لنقده لمادية ماركس التأريخية، في إحدى ملاحق ( اللمحات) عاداً إياهم متعصبين ومتعسفين في اعتمادهم مسطرة الماركسية الجاهزة والمستوردة؛ لتعليل الظواهر الاجتماعية. وهم لا يختلفون في تعصبهم هذا عن أصحاب المنطق الصوري.
• أثار حفيظة  المدرسة العقائدية و الأصولية والفقهية الشيعية بنقده للمنطق الأرسطي، وإشادته بمنطق ابن خلدون، والغزالي ومحاولة ابن تيمية في الخروج على المنطق الصوري. متجاهلاً بذلك رموز تلك المدرسة.
• إستفز المدرسة السلفية السنية، بمحاكمته لشخصيات مقدسة في عرف هذه المدرسة كمعاوية وعمرو بن العاص، وتحطيمه لأسطورة إبن سبأ، وتهكمه بالخلافة الأموية، والعباسية، والعثمانية.
• إستفزّ السلطة بسخريته من شخصيات تأريخية، تعد رموزاً لدى هذه السلطة كهارون الرشيد، والمعتصم وغيرهم… كذلك لتسليطه الضوء على ما تعتبره تلك السلطات ثورات وطنية، كثورة العشرين مثلاً، مبيناً إنها لا تختلف عن أي نزاع عشائري خاضته القبائل مع الحكومات السابقة؛ لمنافع شخصية وغايات مصلحية!
لا حاجة بنا إلى القول، إن الوردي كان يمثل ظاهرة صادمة لما تعودنا عليه، من أدبيات تراثية، دينية، وسياسية، وأخلاقية، وأنه قد حمل فأسه النقدي لتحطيم تلك الطوطمية الوهمية الخادعة التي مكث العراقيون والعرب حولها شطراً من تأريخهم عاكفين، فكان جزاؤه أن يُهدم قبره!!