23 ديسمبر، 2024 8:52 ص

في ذكرى رحيل المؤرخ زبير بلال اسماعيل

في ذكرى رحيل المؤرخ زبير بلال اسماعيل

مرت علينا في الخامس عشر من شهر كانون أول / ديسيمبر 2014 ،  الذكرى السادسة عشرة  لرحيل المؤرخ الجليل زبير بلال اسماعيل (1938-1998) ،  فقد أختطفه الموت وهو في أوج نضوجه الفكري  وعطاءه العلمي , والمعروف ان الفقيد أسهم على نحو فاعل في تدوين تاريخ الكورد وكوردستان طوال ثلاثين عاماً, وتمتاز مؤلفاته التاريخية بالموضوعية والحياد العلمي بعيدا عن الاهواء والتحيز والاراء المسبقة , رحل عنا بجسده لكنه سوف يظل حيا في قلب وضمير كل مثقف كوردي شريف يدرك أهمية الدور الذي نهض به في احياء تأريخ أمته ووطنه ,

 وقد ألّف خلال حياته العلمية أكثر من عشرين كتابا قيما بين مطبوع ومخطوط ونشر حوالي (250) دراسة تتناول تأريخ الكورد وكوردستان ، على مر العصور ،  وقضية شعبنا العادلة وحركته التحررية وتراثه الفكري الخصب  وتراجم لأبرزالعلماء الكورد الذين انجبتهم كردستان .  وكان له حضور دائم في الحياة العلمية والثقافية الكوردستانية .

لقد كتب الكثير عن سيرة حياة الفقيد والاجواء العلمية التي نشأ فيها وملكته الذهنية التي اهلته لاحتلال مكانة مرموقة بين المؤرخين الكورد المعاصرين.  .

كان الفقيد أول مؤرخ كوردي متخصص في التأريخ  القديم ،  وقد أدرك أن تاريخ الكورد وكوردستان القديم  لم يكتب بعد , لذا كرس حياته كلها في سبيل الاسهام في هذه المهمة النبيلة .  وقد لفت نظره خلال دراسنه للتاريخ القديم أن مدينة أربيل العريقة كانت مسرحا لأحداث عاصفة غيرت مجرى التاريخ في المنطقة ولكنها – اي مدينة أربيل- لم تحظ بعناية كبيرة من قبل المؤرخين المسلمين والمستشرقين الاجانب ولم يكرس لتاريخها كتاب مستقل , صحيح ان ثمة بعض الكتب التي تحمل اسم (تاريخ أربيل) لعل أشهرها (تاريخ أربل) لأبن المستوفي – وهو سفر جليل, عظيم الشأن ولكنه ليس كتابا في التأريخ  كما يتبادر للذهن لأول وهلة , بل انه مكرس لتراجم العلماء والأدباء والشعراء الذين زاروا كوردستان وخاصة مدينة أربيل في العهد الأتابكي .

  تراجم أعلام الكورد :

 فرد المؤرخ الراحل دراسات معمقة لعدد كبير من العلماء والمؤرخين الكورد مشيدا بهم أشادات رائعة ولقد اراد بدراساته تلك ، ان ينصفهم وان يوفيهم حقهم من الثناء والاعجاب  كما أبتغى ،  ان تتخذ الاجيال الكوردية منهم المثال والقدوة الحسنة ، فيترسموا خطواتهم ويمضوا على نهجهم , ولعلنا نتذكر كتابه الشهير ” ابن خلكان ” الذي صدر في بغداد  عام 1979 .وهذا الكتاب هو أول كتاب  لمؤرخ كوردي عن هذا المؤرخ الكلاسيكي الشهير، حيث أثبت المؤرخ الراحل ، في كتابه القيم  ان ابن خلكان- اربيلي المولد والنشأة وانه واسرته ينتسبون الى احدى القرى في منطقة أربيل.

أما كتابه ( علماء ومدارس في أربيل ) الصادر في عام 1984 والذي كرسه للحديث عن دور العلم في اربيل  وسيرة اهم علمائها  ، فقد أصبح مصدراً مهما واساسيا لكل من كتب بعد صدر هذا الكتاب وحتى يومنا هذا ، شيئا عن علماء أربيل ودور العلم والعبادة فيها .

  .كما ألف كتابا رائعا وممتعا عن أحد أبرز شيوخ الصوفية في كوردستان  وهو ( الشيخ جولي (محمد ثناء الدين بن مصطفى بن الحاج عمر الاربيلي النقشبندي) وقد صدر الكتاب في اربيل عام 1989.

.ولما كانت المصادر عن هذا الشيخ الصوفي الجليل شحيحة ، ان لم تكن معدومة ، فقد لجأ الفقيد الى تتبع آثار الشيخ جولي ميدانياً ، واستقصاء المعلومات عنه في ثتايا مخطوطات المساجد وروايات أقارب الشيخ من المسنين وما يحتفظون به من مخطوطات ومستندات ، مما له علاقة بالشيخ ، وتتبع نسبه ومصادر ثقافته وتأثير مدرسته الصوفية وغير ذلك .

 ونتيجة لهذا الجهد الميداني الكبير تجمعت لديه معلومات وافية أصبحت محور كتابه عن الشيخ جولي وهو الكتاب الوحيد عن هذا الشيخ المشهور جداً في كردستان عموما وأربيل خصوصاً . والجامع الذي يحمل اسمه اليوم  يقع في قلب مدينة أربيل وكذلك الساحة المسماة بأسمه قرب هذا الجامع  .

 وقد قامت وزارة الأوقاف في كردستان بأعادة طباعة ونشر هذا الكتاب في عام 2002

وقد كتب الأستاذ عدنان النقشبندي ، وزير الأوقاف والشؤون الأسلامية  في حكومة اقليم كردستان  آنذاك مقدمة قيمة لهذا الكتاب نقتطف منه ما يلي :

” حضرة الشيخ محمد ثناء الدين بن مصطفى بن الحاج عمر الأربيلي النقشبندي الشهير بـ( الشيخ جولي ) الذي يدوي اسمه في أسماعنا كل حين ، ويتبرك الناس بأعماله الصالحات ويؤمون الجامع المسمى بأسمه لأداء الفرائض أو احياء المناسبات ، يعود الفضل في تقصي المعلومات المتناثرة عن حياة ومناقب الشيخ الجليل وأستجلاء حقائق حياته وسيرته الى المؤرخ الجليل زبير بلال اسماعيل ، الذي قضى معظم سنوات حياته في البحث والتحقيق ليدون تأريخ مدينته وشعبه الكوردي .. “

 ومن الدراسات المهمة التي نشرها الفقيد هي الدراسة  المكرسة لسيرة حياة وآثار العالم الكوردي الشهير( ابن ادم ) المنشورة في مجلة المجمع العلمي الكوردي،  التي كانت تصدر في بغداد في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

أحتل سيرة العلماء الذين أنجبتهم أربيل مكانة مهمة ضمن أعماله العلمية ، حيث يشير العديد من المؤرخين والكتاب الذين كتبوا عن سيرة ومؤلفات الراحل الجليل ،  ان ثمة مؤلفا ضخما من ثلاثة اجزاء –ما يزال مخطوطا- يتناول سيرة المئات من اعلاام اربيل  من العلماء والمفكرين والادباء والشعراء والموسيقيين وغيرهم , ولعل  هذا المؤلف هو واحد من أكبر  وأهم مؤلفات مؤرخنا الذي ينتظر النشر .

 وأهتم الفقيد أهتماما ملحوظاً بتاريخ الامارات الكوردية وله كتاب مخطوط عن امارة الكورد الهذبانية انتهى من تاليفه في عام 1978 وقد حاول نشره الا ان الرقابة منعت  ذلك وكتب الرقيب على المخطوط (يمنع نشره كلا او جزءا داخل العراق وخارجه) ولكن ارادة الفقيد كانت اقوى من مقص الرقيب فقد نشر خلاصة كتابه المذكور في مجلة كاروان في منتصف الثمانينات.

.ومن اعماله المهمة ، بحوثه المعمقة والمتعددة عن ( امارة سوران ) التي  تناول فيها بالدراسة والتحليل نشأة الامارة السورانية وتطورها ونظام الحكم  والادارة فيها وعلاقاتها الخارجية وشخصية الامير المنصور محمد باشا الرواندوزي , ولابد من التنويه هنا ان الفقيد استطاع عن طريق البحث والتقصي العثور على وثائق أصيلة ومهمة عن أمارة سوران , وكان طريح الفراش عندما كتب دراسته المهمة الموسومة (امارة سوران ، وثائق جديدة في نهوضها وسقوطها) التي نشرت بعد وفاته بعدة أيام  في مجلة (زاكروس) الصادرة في أربيل عن وزارة الثقافة في اقليم كردستان عام 1998  .

واحتلت الحركة التحريرية الكوردية مساحة واسعة ضمن بحوثه ودراساته،  وكان أول من لاحظ الطابع القومي لثورة الشيخ عبد السلام البارزاني وثورات بارزان اللاحقة .وقد صدر كتابه ” ثورات بارزان”  في خريف عام 1998 اي قبل بضعة أشهر من وفاته ، وهو أهم كتاب صدر لحد الآن عن هذه الثورات . .

وفي هذا الكتاب يقيم المؤلف عاليا ثورات بارزان  ودورها في الحركة التحررية للشعب الكوردي في كوردستان العراق حيث يقول :

  ” وقد شاءات الاقدار ان تخطو بارزان خطوات واسعة الى الامام حين تبوأ قيادتها وقيادة الشعب الكوردي الملا مصطفى البارازني , الذي وحد كلمة  الكورد وحقق للشعب الكوردي مكاسب قومية هامة ورسخ أسس الحركة التحررية الكوردية لمواجهة تحديات المستقبل بنضاله المخلص الدؤوب وبنكران ذات قل نظيره , لقد جعل كل ذلك من الملا  مصطفى البارازاني قائدا فذا للشعب الكوردي وهويته في العالم ووضعه في مصاف ابطال وعظماء التاريخ ، بل أصبح مقتدى شعبه في نضاله القومي على توالي الايام والسنين ” .

 وكتب الفقيد دراسة  مهمة عن الاهمية الستراتيجية لمصاصر والمثلث الحدودي بين ايران والعراق وتركيا والدور الذي لعبه في تاريخ الكورد والمنطقة ، نشرت أجزاء منها في جريدة ( خبات ) عام 1997 .

  وكان مهتما بكل ما يتصل بالتراث الثقافي الكوردي والهوية القومية للشعب الكوردي  , وعندما حاول الشوفينيون بعد انتكاسة اذار 1975 انكار الهوية القومية والشخصية الثقافية المستقلة والمتميزة للكورد , أصدر كتابه الموسوم (تاريخ اللغة الكوردية) حيث أثبت مستندا الى الشواهد التأريخية وخصائص اللغة الكوردية بأن هذه اللغة الجميلة لغة عريقة ومستقلة وقد ترجم الكتاب الى بعض اللغات الأجنبية ..

وكان الفقيد يتابع باهتمام بالغ الحركة الثقافية الكوردية المعاصرة داخل كوردستان وخارجها وكتب العديد من الدراسات والمقالات عن هذه الحركة نشرت في مجلة ” الثقافة  ” البغدادية وغيرها من الصحف والمجلات الصادرة باللغتين العربية والكوردية في السبعينات والثمانينات .

وقد ترك الفقيد (14) كتابا مخطوطا نشر منها منذ وفاته ولحد الان كتابان اولهما تحت عنوان (الاكراد في كتب البلدانيين والرحالة المسلمين في العصور الوسطى) .

اما الكتاب الثاني (تاريخ اربيل) الذي صدر في اوائل عام 1999  بمبادرة من الشهيد فرنسو حريري وضمن منشورات مجلة (هولير) الغراء .

وقد عقدت وزارة الثقافة في الاقليم يوم 1999/2/25 ندوة علمية لتثمين وتقييم الكتاب  وتكريم ذكرى الفقيد وجهوده المثابرة لأحياء وتوثيق تاريخ الكورد وكوردستان , وكانت هذه الندوة  هي الندوة الاولى من نوعها في كوردستان وقد أهتمت  بها الاوساط  العلمية والثقافية  ونشرت تفاصيلها في وسائل الاعلام . وقد وصف السيد وزير الثقافة(انذاك) الكاتب والسياسي الراحل فلك الدين الكاكائي كتاب (تاريخ اربيل) بانه اهم كتاب عن تأريخ أربيل على الاطلاق ، ودعا الى ترجمته الى اللغة الانكليزية واللغات الاخرى  لأهميته في تعريف الكورد وتاريخه العريق الى شعوب العالم , كما دعا خطباء آخرون في تلك الندوة الى تدريس هذا الكتاب  في مدارس ومعاهد الاقليم .

وكان أحد الخطباء هو الشاعر الشهيد مهدي خوشناو ، رئيس اتحاد الأدباء الكورد ونائب محافظ أربيل في تلك الفترة ، ومما ذكره في كلمته المؤثرة : ”  ان اسم الدكتور الوردي يقترن دائما باسم بغداد كما ان اسم  زبير بلال اسماعيل يقترن دائما باسم اربيل ،  فهما صنوان او تؤمان  لا ينفصلان .”

والحق ان مؤرخنا الراحل  كان يعرف مدينة ( أربيل ) التي ولد وترعرع في قلعتها التأريخية ،  معرفة عميقة وتفصيلية : يعرف تأريخها أفضل من أي مؤرخ آخر ويعرف دورها الكبير في صنع التاريخ  وامجادها وبطولات ابناءها والاسر الحاكمة فيها عبر التاريخ ويعرف اعلامها ومعالمها الحضارية والثقافية ويعرف احياءها وشوارعها وازقتها ودور العبادة فيها ومدارسها وخزائنها من الكتب والمخطوطات .

  حظى الفقيد سواء خلال حياته أوبعد وفاته باهتمام بالغ من لدن القيادة السياسية للأقليم والاوساط العلمية والثقافية في كردستان ، , وتجلت مكانته  العلمية الرفيعة خلال فترة مرضه على وجه الخصوص ¸حيث كانت الوفود الرسمية والشعبية  تتقاطرعلى بيته حيث يرقد مريضاً للأطمئنان على صحته كما زاره  أبرز رجال الفكر والثقافة في الأقليم  واحاطته باهتمام  قلما حظى بها مؤرخ كوردي اخر .

وبعد رحليه نشرالعديد من المقالات التي تتحدث  عن سيرة حياته ونتاجه العلمي , كما قامت القنوات التلفزيونية بتغطية واسعة لنبأ رحيله وللحفل التأبيني الذي أقيم بمناسبة مرور اربعين يوما على وفاتاته .

اننا اذ نحي الذكرى السادسة عشر لرحيل المؤرخ الكبير زبير بلال اسماعيل  نضم صوتنا الى أصوات علماء ومثقفي كردستان الذين نادوا في مناسبات عديدة  باقامة نصب تذكاري  لمؤرخنا الجليل وتسمية احد  المدارس او المعاهد ، واحدى القاعات في الأكاديمية الكوردية وجامعة صلاح الدين بأسمه ، وأصدار مجموعة أعماله الكاملة .

ملاحظة : الساحة الرئيسية في مدخل مدينة أربيل على الشارع المئوي يحمل اليوم اسم المؤرخ الجليل زبير بلال اسماعيل ,.