23 ديسمبر، 2024 7:13 ص

في ذكرى رحيل الصدر (4) ماذا تعلمت..؟!

في ذكرى رحيل الصدر (4) ماذا تعلمت..؟!

يبدو ان الوضع العراقي، حينها، في التسعينات ومابعدها، انهك العقل العراقي،الجمعي والفردي. وكان الفرد يجد نفسه امام طريقين، الاول، هو الانسياق مع توجه الحكم البعثي الصدامي، والتخلي عن انسانيته وكرامته، او اختيار طريق اخر، هو الانزواء، يائسا، ينتظر موته، في مناخ من التعبد والطقوسية التقليدية، المنبعثة من قبور النجف..! حتى ظهور الصدر (محمد محمد صادق).. الذي فتح طريقا اخر هو المعارضة الناطقة الشفافة الشجاعة.. والهم الصدر القواعد الشعبية الشجاعة والتحدي. لقد تعلمت من الصدر، واخرين، كثيرين، مفاهيم عقائدية جديدة، وحركية موضوعية، ناقشت بعضها في اقسام هذه الدراسة، السابقة، ونستمر، الان..

……. صناعة المعجزات: ومما تعلمت، الايمان بالغيب، وكيفية صناعة المعجزات، اذا صح التعبير.. كيف؟ في لقاء السيد الصدر الثالث,تعرض الى معالجة الازمة الاقتصادية لاسرته بواسطة الآية (ربنا اني أسكنتُ من ذريتي بواد غير ذي زرع ٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فأجعل افئدة من الناس تهوي اليهم وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) وقد ثبت، الصدر، بذلك مبدأ الاعتماد على المساعدة الغيبية، داخل نفسي , لان الاشكالية موجودة، بين الخيال والواقعية في الايمان بالمساعدة الغيبية، لدى المتدين الاعتيادي , وبمرور الوقت كان السيد الصدر يضع النقاط على الحروف ليحسم اشكاليات كثيرة في مفاهيم عقائدية ,ولاني اثق بأعلمية السيد الصدر,فأن الكثير من المسائل الشائكة والمفاهيم المشوشة يمكن حلها بالاستماع الى لقاء او خطبة للسيد الصدر,ويشمل ذلك الامور الاخلاقية والعرفانية والعلاقة بالغيب وبالامام المعصوم(ع) وكيفية استخدام العبادة والدعاء لحل المشاكل الشخصية والاقتصادية , وقد سبب السيد الصدر الكثير من الثقة بالغيب عندي، اضافة الى الاستهانة بالقوى والاسباب المادية. وتجاوزت مرحلة التدين التقليدي. كذلك تعلمت:

…… فضح المؤامرات: حرص السيد الصدر على فضح المخططات الاستعمارية الاعلامية والثقافية والاستهانة بالمسلك العلماني ورموزه وخاصة انيشتاين , كذلك التعرض الى مؤامرة(الرياضة) التي يستخدمها الاستعمار لتلهية الشعوب وابعادهم عن قضاياهم المصيرية,ولان مثل هذه المفاهيم موجودة وراسخة لدى الباحث,فأن استماعه الى لقاء الحنانة مثلا , اضاف له الكثير من الثوابت ورفع مستوى الوعي السياسي والعقائدي,وصار مستوعبا للمفهوم الكلي للاطروحة العادلة الكاملة وذوقها التكاملي. كذلك تعلمت:

مفهوم الشهادة: يرى السيد الصدر ان الشهادة منزلة عالية لكنها ليست الهدف الاعلى. فقال في ذكره ِ للسيد الصدر الاول ما معناه (هو فاز بالشهادة ونحن خسرناه) , الا ان السيد الصدر افصح عن استعداده للشهادة في خطبه الاخيرة ويشير ذلك الى علمه بأستهدافه من قبل الحكومة والاستعمار.

لقد جعل السيد الصدر من العمل التمهيدي لدولة الامام المهدي (عج) هـدفا ً اعلى والشهادة أمراً عرضيا ً , هذا حسب فهم الباحث وقد ارتكز عنده هذا الفهم وجدانيا ً , فكان يحرص على العمل لأجل تغير الواقع , مما جعل استشهاد السيد الصدر أمراً طبيعيا ً لا يوقف الحركة بل يجعلها وفقا للمتغيرات الجديدة , وان الخالق (عز وجل) اختار الوقت المناسب لاستنقاذ السيد الصدر من الهم والغم الذي احاط به ,وان القواعد المستقلة التي اسسها السيد الصدر جاهزة ومستعدة لمتابعة المسيرة. وتعلمت من الصدر:

…… قراءة المستقبل: بعد استشهاد السيد الصدر وسقوط الهدام , فهمت ملكة القراءة المستقبلية عند السيد الصدر, فأن السيد حذر من الاستعمار ومن الثالوث المشؤوم,مما يؤكد معرفة السيد الصدر بالحوادث المستقبلية وصارت القناعة الوجانية لدى الباحث بأن لقاءات وخطب السيد الصدر تحوي الكثير من العلم بالحوادث المستقبلية , لهذا يمكن تفسير كثير من التصرفات الماضية عند السيد بربطها بالحوادث الحالية والمستقبلية، اقصد ان الصدر وضع مقدمات لمواجهة الاحتلال الامريكي ولمواجهة الفوضى والطائفية والتقسيم، لانه اتخذ خطوات وفتاوى منها:

اولاً: مواجهة المسلك التقليدي.

ثانيا: الهتافات ضد الثالوث المشؤوم .

ثالثا: تفعيل حوزة النجف الاشرف .

رابعاً: الاشارة الى اعلمية السيد الحائري.

خامسا: العلاقة المرنة مع الحكومة العراقية.

سادسا: مناقشة حرية المراة في خطبه.

سابعا: مناقشة القوة الامريكية والعولمة في خطبه.

ثامنا: نشر الثقافة التمهيدية ومناخ الدولة المهدوية.

تاسعا: الحملة ضد السفور والتبرج والغناء.

عاشراً: الموقف الايجابي تجاه الطوائف الاسلامية الاخرى.

……… المنهج الحركي الصدري: من ذلك ندرس نموذج حركي وهو:

عام 1991 وبعد قمع الحكومة العراقية للانتفاضة الشعبانية وتمكن الحكومة من السيطرة على الشارع العراقي , امر مدير امن النجف الاشرف جمع عدد كبير من المعممين ( الحوزويين ). وقف مدير الامن يتصفح الوجوه , ثم اصدر امرا ً بنزع العمامة , وبسرعة نفذ الموجودون امر الضابط , وافزع الضابط استهانة احد المعممين به , حيث بقي ذلك المعمم لابساً للعمامة وكانه لم يسمع الامر , فصرخ الضابط بأعلى صوته : انزع عمامتك … الا ان الشخص المعمم لم يتحرك وكأن الأمر لا يعنيه , أشتاط الضابط غضباًً وصرخ بأحد مساعديه : انزع عمامته … فهرول مساعد الضابط الى المعمم لتنفيذ الامر فرفع المعمم يده ِ ووضعها على العمامة , وحاول مساعد الضابط ان ينزع العمامة فلم يتمكن , فصاح الضابط : انزع عنه سرواله ، فوضع المعمم يده على السروال , حاول مساعد الضابط ان ينتهز الفرصة لنزع العمامة , فأرجع المعمم يديه لمسك العمامة , وأستمرت محاولات مساعد الضابط بين انزاع العمامة, ونزع السروال والسيد الصدر يضع يده على العمامة مرة وعلى السروال مرة اخرى دون ان يسمح لهم بنزع العمامة او السروال فأندهش الضابط لذلك وأمر مساعده بأن يترك السيد على حاله وارجاعه الى السجن .

ان هذه الحادثة وتصرف السيد الصدر فيها تعطي صورة واضحة عن المنهج الصدري في الحركة والمقاومة وتستند الى اسس عقائدية، وعلى ذلك ملاحظات اهمها التالي :-

اولا: ان العمامة كرمز إسلامي , مقابل الرموز العلمانية , يجب احترامه والمحافظة عليه مقابل استهانة الحكومة به ومحاولة اسقاطه , لذا بذل السيد ما في وسعه وعارض نزع العمامة بالاسلوب الممكن ليفرغ ذمته بعد بذل وفعل ما في وسعه.

ثانيا: ان نزع السروال يسبب كشف العورة , ويجب على السيد كمكلف ان لا يسمح بذلك قدر المستطاع لذا وضع يديه على السروال .

ثالثا: عند محاولة مساعد الضابط نزع السروال ثم العمامة , حصل التزاحم في الواجبات , لذا بذل السيد ما يمكنه من منع الامرين .

رابعا: لم يكن صعباً على الضابط ان يستخدم اساليب اكثر قوة لأجبار السيد على نزع العمامة , الا ان بذل الوسع من قبل السيد , انهى تكليفه امام السماء فليس من الحكمة الالهية ان يتعرض السيد لظروف اشد , خارج الامكانية والوسع ولا تقع ضمن تكليفه , لان الحادثة في التخطيط الالهي , هي مجرد اختبار للسيد ولبقية المعممين وقــد انتهى الاختبار بفشل كل المعممين ونجاح السيد .

خامسا: هل يصح تنفيذ امر الضابط مع الالتفات الى ان امر الضابط هو مقابل ومعارض لأمر الشريعة , مع لحاظ أن الموجودين هم ممن يدعو لتطبيق الشريعة .

سادسا: هل كان تصرف السيد منطقياً وموضوعياً , مع الالتفات الى ان اجهزة الامن الحكومية في العراق تتقصد أهانة المواطن وخاصة الحوزوي , فانها لن تتوقف عن الايذاء في حالة نفذ السيد امر الضابط او لم ينفذ , لذا رأى السيد ان ضرر تنفيذ الامر اكبر من عدم التنفيذ .

سابعا: لماذا لم يعمل السيد بالتقية وهي واجبة شرعا ً , ان التقية حسب فهم السيد هي الحفاظ على سلامة الدين وليس السلامة الشخصية , ومن هذا المنطلق يكون السيد عاملا ً بالتقية .

ثامنا: لماذا تراجع الضابط عن امره , نحن كمتدينين , نؤمن بوجود محرك واحد للوجود وهو الخالق (عزوجل) وأن مجريات الاحداث هي لغرض الابتلاء ( الاختبار) ثم الفشل والنجاح في مسيرة التكامل فلم يكن الامر خارجا ً عن التخطيط الالهي , ولو اهملنا هذا الجانب ونظرنا الى الاسباب المادية فقط , فأن الضابط بشرا ً , وتؤثر فيه رجولة الرجال واعتداد الانسان بنفسه , وغالبا، كان ًً ضباط الامن من ابناء العشائر , فأني ارى ان الضابط احتقر الموجودين وأحترم السيد الصدر بسبب موقفه المقاوم لنزع العمامة أو نزع السروال .

تاسعا: ان هذه الحادثة هي المنهج العام لحركة السيد الصدر, فأن كل ما صدر عن السيد الصدر و ردود فعله , خلال السنوات اللاحقة , هو أفراغ ذمته تجاه الإحكام الإلهية وبذل ما في وسعه , بحيث يحرز سلامة الدين اولا ً ثم سلامته الشخصية وليس العكس .

عاشرا. ان هذه الحادثة ,توضح فلسفـة العمل النبوي والرسالي , فلم تكـــن مـــواجهة موسى(ع) لفرعـــون خارجة عن هذا الاطار والمضمون ,ولم تكن مواجـــهة الامـــام علي (ع) لعمرو بن عبد ود خارجة عــن هذا الاطــــار والمضــمون, ولم تكن مواجهة الامام الحسين (ع) ليزيد خارجة عن هــــذا , كذلك مواجهــة زينب (ع) لعبيد الله وليزيد .

احد عشر. ان رفض الاوامر الطاغوتية بالاساليب المــــوضوعية والممكنة لمنع الشــرك بالخالق (عزوجل) ومنع الطغـــــــاة من فرض وجودهم الوحيد مقابل الخالــق (عزوجل) ومنعهم من تحطيم الكيان الانساني المستقل وكسر ارادته ,هو فلسفــة ومضمون العمل الرسالي الذي التزم به الانبياء والرسل والائمة والقادة الربانيين وعلى رأسهم السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد محمد صادق الصدر .

اثنا عشر. يمكن اعتبار العمامة تجسيدا ً اسلامــيـــا ً وحوزوياً , هذا يفسر اهتمــــام السـيـد الصدر بأشاعته والمحافظــة عليه , ونلاحظ مسألة التخلي عن العمامة في هـــــذه الحادثة من بقية الحوزويين , كــذلك استخدامها سياسيا ً او التــخلي عنـها لأسباب سياسية بعد الاحتلال عام 2003 .

……….الأستنتاجات

المستوى الاجتماعي: وفيه نقاط..

1- قاد السيد الصدر انتفاضة ثقافية عقائدية متوازنة,اخذت بنظر الاعتبار وبشكل واعي,الظروف الموضوعية في الجانب السياسي والاجتماعي .

2- حققت نهضة السيد الصدر فوائد اجتماعية عامة,حيث اوجدت معارضة عراقية داخلية ورأيا اخر مقابل رأي الحكومة.اضافة الى ثقافة عليا نسبيا.

3- تفاعل المجتمع العراقي بنسب متفاوتة مع البث الثقافي الصدري,واثر ذلك في تطور الوعي الديني والحضاري نسبيا.

4- تأثرت الحكومة العراقية بالبث الثقافي الصدري , وغيرت سياستها تجاه الشعب نسبيا وسبب ذلك الى تبنيها الحملة الايمانية.

5- اخذ السيد الصدر التطورات المستقبلية بعد استشهاده , بنظر الاعتبار,حيث فضح المخططات الاستعمارية والتوجهات العلمانية.مما ترك الأثر الواضح في التعامل مع الاحتلال بعد عام 2003م.

…….. المستوى الشخصي: وفيه..

1- تعلم الباحث من السيد الصدر,النظرة الموضوعية للموروث الديني,وامكانية التحقق والتدقيق العلمي بعيدا عن التقليدية ورفض العرف والمفاهيم السائدة الا بعد مطابقتها للشريعة.

2- تعلم الباحث اسلوب التحليل الفكري للقضايا المطروحة ومناقشتها عقليا, بأسلوب المحاكاة لطريقة السيد الصدر, مما انتج النجاة من الاوهام والاشكاليات العقائدية.

3- حصلت الثقة العالية بالخالق(عز وجل) والاستهانة بالماديات إضافة إلى تعلم الطرق المختصرة لطلب المساعدة الإلهية بمعرفة الشروط التكوينية والأخلاقية لاستجابة الدعاء.

4- حصل ارتباط وجداني بالامام المهدي(عج) والايمان بضرورة العمل التمهيدي لاقامة الاطروحة العادلة الكاملة,وافراغ الذمة تجاه الامام (ع).

5- استطاع الباحث التعرف على بعض الاستقراءات المستقبلية بناء على خطب ولقاءات السيد الصدر.

……..التوصيات:

1- هذه الدراسة تمثل فهم الباحث لمجريات الامور ولايمكن اعتبارها بحثا علميا رصينا , مع الالتفات الى طبيعة الموضوع وأهداف الدراسة.

2- يمكن لاي فرد متعلم ان يعيد كتابة هذه الدراسة وانتاج شيئا مختلفا وهو توثيق اخر لاحداث المرحلة.

3- يمكن اعادة الدراسة من قبل مركز الشهيدين الصدرين مع مراعاة الموازين العلمية والبحثية لاجل انجاز مصدر توثيقي معتد به.

4- ان ماتم توثيقه في هذه الدراسة يمثل جزءا ضئيلا ً من الافكار والمفاهيم المتعلقة بالموضوع الا ان سرعة الاعداد والحرص على الشكل الفني انتج هذه الدراسة المتواضعة.

5- للضرورة التاريخية والتوثيقية ,نوصي بأعادة هذه الدراسة والتركيز على التأثيرات الاجتماعية التي سببه البث الثقافي الديني الذي مارسه السيد الصدر ,على ان تتضمن الدراسة اقتباسات من اقوال السيد الصدر وتوثيق صور ومخططات التغيرات الاجتماعية التي حصلت بسبب هذا البث ,كذلك تتضمن صورة من استفتاءاته الطارئه .ويفضل ان تكون لحينه علمية لمناقشة الدراسات .

6- يفضل ان تكون لجنة علمية لمناقشة الدراسات المقدمة وتقويمها وتقيمها , كذلك توزيع نسخ من هذه الدراسات للمكتبات العامة والجامعية داخل العراق وخارجه , لمعالجة النقص الحاصل في التوثيق غير الحكومي خلال المرحلة السابقة(حكم الهدام).

المصادر:

موسوعة الامام المهدي/السيد محمد الصدر/طبعة قم/1416هـ.

لقاءات وخطب السيد الشهيد الصدر(قدس).

مؤلفات السيد محمد باقر الصدر(قدس).

لقاءات وخطب السيد مقتدى الصدر.