22 ديسمبر، 2024 1:42 م

صديقي العزيز.. أبي:
السلام عليك ورحمة الله وبركاته:
أتذكركً اليوم.. في أول مرة تأخذني معكً.. كان يوم جمعة.. وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان العام 1944.. قلتً ليَ: بعد أيام يأتي العيد.. وسأأخذكً اليوم إلى أحسن حلاق في العراق.. فرحتٌ كثيراً.. سيحلق شعري مثل بقية الأطفال (عرقجين).. كنا في تلك الأيام نسمي حلاقة شباب اليوم (طاسه) أو عرقجين.. وبعض أبناء المدن العراقية الأخرى يمسونها زيان (حدرية).
أبي: أتذكر جيداً محل الحلاقة اسمه (حلاقة الجابي) القريب من محلكً.. لم أشعر أبداً بالحلاقة.. سوى إن الحلاق يقول ليً (بالعافية) (نعيماً) مال هذه الأيام.. وأتذكر جيداً عندما ذهبتً أنت إلى المصور جيران الحلاق وأخذ ليً معكً صورة.. احتفظتُ بها 18 سنة.. وعندما اعتقلتُ أنا وسجنتٌ سياسياً في تموز 1962 حتى آذار 1964 ظلت الصورة مع صور العائلة.. ثم انتقلت الصورة عند أخي حجي فليح.. حاولتٌ الحصول عليها لأنشرها اليوم مع هذه المقالة.. لكنني أخفقتُ.
أيام كانت جميلة.. رعاية أبوية بحب وحنان.. لا مثيل لها في هذه الأيام.. كنا في تلك الأيام أنا وأخي (حجي فليح) نخرج من المدرسة لنأتي إلى محلكً.. وحال وصولنا نسلم عليكً.. فترد علينا بسلامك الجميل: (أهلاً بأصدقائي الأعزاء).. وتصافحنا مصافحة الرجال الكبار.. وهي طريقة تربوية رفيعة.. ثم نتغذى معكً.. ونبقى حتى العصر.. لنعود إلى البيت.. كان الوقت يمر بسرعة.. لكن لم ننسى متابعتك لنا بكل ود وحب.
دائما تقول لنا: أصدقائي الأعزاء: ما هو عملكم؟ نرد عليكً.. كما علمتنا (نحن طلاب.. وعملنا الدراسة.. والاجتهاد.. والنجاح بتفوق).. فتحضننا وتقبلنا.. والابتسامة لا تفارق شفتيكً.
والدي العزيز: لم ترفع في يوم من الأيام صوتكً علينا.. ولم تضرب أحدنا.. ولم تزعلنا يوماً .. كأمي الحنون كنتً أنت كذلك.. وأقول لكً: (نحن أيضاً.. ربينا أبناءنا.. كما ربيتنا.. بحب.. وحنان.. ومودة).. على الرغم يا أبي ظروفنا كانت أصعب قليلاً.. أما ظروف أبنائنا فكانت في غاية الصعوبة والتعقيد.. وهم يواجهون الحروب والقتل والدمار والتخريب والبطالة والجهل والتخلف.. نعم يا أبي: الجهل والتخلف.. الذي رحب به من لا ضمير له مع المحتلين الجدد الأمريكان ودول الجوار.. لا تصدق يأبي (أنت وجيلكً): ما يحدث ببلدنا اليوم؟!.
والدي العزيز: نعود إلى ذكرياتنا.. فعندما أكملتُ أنا دراستي المتوسطة.. كنتُ أعمل معكً.. كبقية أخوتي.. لكنك كنتً دقيقاً معنا في متابعتك دراستنا.. وهكذا كنا جميعا أبنائك (الأولاد والبنات) أكملنا دراساتنا.. وبنجاح وبعضنا بتفوق عال.. وكنتُ أنا دائماً المتفوقً.. أتذكر عندما قبلتً (أنا) في الدراسة للماجستير.. قلتً ليً: (الآن بدأت الدراسة الجدية.. والتفكير العلمي).. مؤكداً عليً بالقول: (يجب أن تكون خطواتي واثقة ومعززة بالعلم والوثائق والرأي السديد).
أبي.. وتمر السنين.. حياةٌ حلوة جميلة.. دراسة وعمل وهدوء.. وتكبر معنا الأيام.. وتكبر معنا المهمات.. و نبدأ نخوض غمار الحياة.. بشوق وهمة عالية.. وتتسع أمنياتنا.. وأهدافنا.. ونكد بشرفٍ لتحقيق أمنياتنا.
وفي 30 تشرين الثاني العام 1975 ودعتنا.. وأنت مطمئنٌ تماماً علينا.. فقد كبرنا جميعاً.. وسرنا بالطريق الصحيح.. وبعضنا في مواقع متقدمة.. ولن ننسى كلماتكً التي تكررها دائماً: (كونوا خيراً لكل محتاج.. وحذاري من الحرام مهما كان.. وليكن ضميركم الحكم بين ما تفكرون وما تفعلون).
أبي.. وبعد: بماذا نذكركً.. بالحب.. بالتضحية.. بصدقك.. بكرمكً الذي فاق التصور.. بذوقكً الراقي.. أم بأخلاقكً الرفيعة.. وبمساعدة كل المحتاجين.. بحبكً للوطن والدفاع عنه.. بنزاهتك.. بماذا ؟.. بكل الفضائل التي ذكرتها.. ومكارم الأخلاق.. بمساعدة الكل عن طيب خاطر.
أقولُ لكً يا أبي: نم قرير العين.. يا أبي.. يا أعزً الآباء.
نم يا أبي قرير العين.. فأبناءكً أدوا الأمانة وما زالوا يوأدونها.. لربهم..ولوطنهم .. ولأبنائهم.. ولأحفادهم.. ولشعبهم.. وما زلنا يا أبي: على العهد باقون.. ولن نحيد عن الحق أبدا.. مهما تغيرت الظروف.
أبنك: هادي