لقد حجبت، انجازات الزعيم عبدالكريم قاسم الضخمة، الخلل أوالتقصير في الجانب السياسي، الذي يخص فلسفة الحكم وإدارة البلاد، في فترة حكمه. إن التغاضي عن الأخطاء والسلبيات التي رافقت مسيرة ثورة 14 تموز عام 1958(سواء التي حصلت من الزعيم أو من القوى السياسية آنذاك) بشكل مباشر وواضح، هو نهج اتبعه كثير من الذين كتبوا عن ذكرى انقلاب 8 شباط عام 1963. ويقابل هذا التغاضي، ذكر إيجابيات الزعيم( وهي كثيرة)، فضلاً عن ذكر ما قام به الانقلابيون من أعمال ضارة في المجتمع. لكن هذا الاسلوب، غير الموضوعي، غير الكامل، لن يخفي أو يغيّر تلك السلبيات والأخطاء، لأنها معروفة وموثقة و واضحة لمن يمتلك البصيرة، لكننا سنذكر واحداً من أهمها، هو: التفرّد في إدارة حكم البلاد مع غياب الخبرة السياسية الضرورية.إذ ليس هناك سلطة تشريعية، كما ليس هناك انتخابات تفضي إلى انتخاب السلطة التنفيذية، إنما هناك شخص واحد، يقوم مقام السلطة التشريعية، كما أن هناك دستوراً مؤقتاً، وضعته حكومة الثورة. ومن المعروف أنه في زمن الحكم الملكي كان هناك انتخابات ومجلس أمة ودستور، لكنها محرّفة، كما يقول الشاعر معروف الرصافي:
*باحث وأكاديمي
علمٌ ودستورٌ ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرّف
لذلك لما جاءت حكومة الثورة ألغت هذه المؤسسات، لكنها لم تضع البديل المناسب، والبناء السليم للدولة، بخاصة مجلس النواب، واستمرت لكامل الفترة تستخدم دستوراً مؤقتاً، لم يضعه أو لم يوافق عليه الشعب أو مجلس منتخب.وهنا مكمن الخلل، إذ أنه عندما تُلغى مؤسسات منحرفة أو فيها قصور، ينبغي أن يوجد بديل أفضل من السابق يصحح الانحراف والخطأ، حتى إن كانت هناك فترة انتقالية، ينبغي تحديدها أيضاً. كل ذلك لم يحصل.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، كانت هناك مقدمات أو مؤشرات واضحة ساهمت في وقوع انقلاب 8 شباط، منها: أولاً، لم تكن هناك اجراءات إصلاحية تقوم بها حكومة الثورة، لحل المشكلات والاضطرابات الداخلية. أضف إلى ذلك أن القوى المعادية للزعيم، كانت ، قبل ذلك، تتحرك وتحاول القضاء عليه، بشكل مكشوف وعلني، منها محاولة اغتياله، ومنها أحداث الموصل. إذن لماذا لم تتخذ الاحتياطات والاحترازات اللازمة سواء من حكومة الثورة، أو من القوى الوطنية المخلصة لثورة 14 تموز؟ ثانياً، كانت هناك حملة اعتقالات طالت بعض القوى الوطنية المخلصة، قبل انقلاب 8 شباط، ساهمت(هذه الاعتقالات) بحدوث هذا الانقلاب. ثالثاً، انعدام اسلوب الحوار، سواء بين القوى السياسية العراقية فيما بينها، أو بينها وبين حكومة ثورة 14 تموز.
وأخيراً، أنه من المؤسف والمؤلم، أن بعض القوى الوطنية التي تضررت ، وأضرت بالمجتمع من انقلاب 8 شباط نجدها بعد عدة سنوات تتحالف مع هؤلاء الانقلابيين، لما عادوا للسلطة مرة أخرى، دون أن ينتزعوا منهم أي اعتراف بالأعمال الضارة التي قاموا بها، وحتى لم يطلبوا منه ضمانات لعدم تكرار المآسي مرة أخرى، وفعلاً ، عادت الاعتقالات والانتهاكات مرة أخرى.
وختاماً، يمكننا تأكيد المقولة التي تبين: “إن عملية الهدم أسهل من عملية البناء”، وهذا لا يعني أن عملية الهدم سهلة، لكنها نسبياً أسهل من البناء، وقد أثبتت ذلك أحداث ثورة 14 تموز، والأحداث بعد عام 2003. فضلاً عن ذلك أن عملية بناء الدولة هي عملية شاملة لا يمكن تقييمها بإنجازات في جانب معين فقط، مقابل الصمت أو التغطية أو التغاضي عن الإخفاقات أو التقصير في جوانب أخرى، والأسوأ من ذلك هو تبريرها وإيجاد الأعذار لها .إن عملية بناء الدولة تشبه أغصان الشجرة فهي تنمو متوازنة في جميع الاتجاهات، لكن حين يُقطع أحد أغصانها تميل، ومن ثم تسقط عند مواجهة أي رياح قوية.