إذا كان السياسي بضيق أفقه لا يرى إلا ما تحت قدميه، فلا يليق بالمثقف أن يتنازل عن الحلم بفلسطين التاريخية، دولة واحدة علمانية يتساوى فيها الجميع، واسمها ‘فلسطين’ احتراما للتاريخ وللذاكرة.
لا معنى ولا قيمة للوقت في أوطان تهدر فيها آدمية الإنسان. لم يرصد باحث كم أنفق من الأموال العربية، وكم هي كلفة اختماعات القمة العربية التي لا تقول شيئا، ولا تعني أحدا إلا المشاركين فيها، منذ اقترحت قمة بيـروت (2002) مذلة التوسل لإسرائيل بتطبيع العـلاقات، مقابل دولة فلسطينية على حدود 1967. في الاقتراح الذي استهلك جيلا من الحكام العرب- اغتيالا وموتا وخلعا وقتلا- إهانة للشهداء، شهداء ما قبل هزيمة يونيو 1967 منذ ثورة البراق عام 1929.
في الاقتراح العاجز خيانة للمستقبل، وإصرار على توريث الفشل لأجيال قادمة ستراهن على عدالة القضية، مهما تكن الأثمان من الأرواح. ما كانت الجزائر لتنال استقلالها إلا بتضحيات غير مسبوقة، في سياق معاند أوروبيا، ولم يقتصر العداء الإمبريالي الأميركي على التدخل لدى مصر لإيقاف الدعاية ضد فرنسا، بل أتاحت واشنطن لفرنسا استخدام عتاد حلف الأطلسي في قمع الثورة، وأمدّتها بطائرات عسكرية عمودية، وصوتت في الأمم المتحدة لسحب إدراج القضية الجزائرية من جدول أعمال الجمعية العامة (دورة سبتمبر1955).
بعد انتفاضة العام 1987، كتب يوسف إدريس عن عودة القضية إلى أصحابها، وهم أطفال لم تفسد فطرتهم، وتأكد لهم أن الحل من الداخل، فلم ينتظروا نصرة من أحد، وتمكّنـوا بالحجارة المتـاحة من تغيير موازين القوى على الأرض، أيا كانت الانحرافات التالية على موائد التفاوض. مثل هؤلاء الأطفال يجب ألا يرثوا فشل الجيل الحالي، وعماء بصيرته، وتفاؤله الساذج بأن القوى الكبرى التي جعلت من تأسيس إسرائيل رأسا لحربة في قلب العالم العربي ستهديهم دولة اسمها فلسطين، وكأن الدول بالتمني.
مضى 15 عاما على الإطلاق الرسمي لاستجداء “حل الدولتين”، ومازال يتردد في اجتماعات القمة، وغيرها من الاجتماعات العلنية والسرية. وربما يمر 15 عاما أخرى من الإصرار العربي الرسمي على هذا السراب، ويكون هذا الكيان الاستيطاني- الذي يؤدي وظيفة قتالية ولا يرسم حدودا لدولته- قد التهم ما تبقى من فلسطين، وتحدى القمم العربية القادمة بالمزيد من المستوطنات.
في أبريل 2016 اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي، للمرة الأولى، في الجولان. وقال بنيامين نتنياهو لمجلس وزرائه “ستبقى مرتفعات الجولان تحت سيطرة إسرائيل إلى الأبد”. ولا أظن هذا التصريح المهين قد نوقش في اجتماع القمة الأخير في الأردن الذي تبنى “حل الدولتين”. والأكثر مذلة أن تعقد قمة البحر الميت يوم 29 مارس 2017، وفي اليوم التالي مباشرة يرد مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي بالإعلان عن بناء أول مستوطنة منذ 20 عاما في الضفة الغربية المحتلة. ويقول نتنياهو للصحافيين “وعدت بأننا سنبني مستوطنة جديدة… سنفي بذلك اليوم”.
القادة العرب الذين لم يقرأ البعض منهم كتابا لا يدركون الفلسفة الاستعمارية لبقاء إسرائيل كقاعدة عسكرية تحمي مصالح الاستعمار الجديد، وتعفيه من تحريك حاملات الطائرات كسلوك غير أخلاقي وعالي التكلفة أيضا.
لن يسمح مثل هذا الاستعمار إلا بسلطة منزوعة السيادة، شرطة تنوب عنه في القمع، ولعل ياسر عرفات في حصاره الأخير قد وعى هذه الحقيقة وهو يستقبل الموت، بعد تجاهل نصائح عقلاء مقربين، منهم إدوارد سعيد الذي استقال من المجلس الوطني الفلسطيني اعتراضا على تلك الترتيبات، ووصفها في كتابه “غزة أريحا: سلام أميركي” بأنها سلام “تحت الوصاية الأميركية… محصلة للاستسلام العربي، غير الضروري وغير الحتمي… العديد من الحكام العرب يتصرفون وفقا لعقلية العبيد، فيتحرقون شوقا إلى حفل استقبال ضخم تقيمه واشنطن لهم، ويعدّون هذا الاستقبال ذروة نجاح حياتهم السياسية”.
قضية فلسطين ثقافية بالدرجة الأولى، والغرب الذي أسس إسرائيل ويرعاها يدرك ذلك، فيسعى إلى تكريس دكتاتوريات تحت السيطرة، تتغذى على الأمية والفقر، لتكون الشعوب أسهل في الانقياد، وفي الوقت نفسه توحي للعالم بأن إسرائيل واحة ديمقراطية في صحراء الاستبداد.
بنهاية الفقر والأمية وتحقق الوعي الكافي لامتلاك المصائر تصير كلمة الشعوب هي العليا. وإذا كان السياسي بضيق أفقه لا يرى إلا ما تحت قدميه، فلا يليق بالمثقف أن يتنازل عن الحلم بفلسطين التاريخية، دولة واحدة علمانية يتساوى فيها الجميع، واسمها “فلسطين” احتراما للتاريخ وللذاكرة، لكي لا يصير الأمر كله “سَلَـطة”، وتختلط المفاهيم، فتقول راندا شعث في الفيلم التسجيلي “سَلَـطة بلدي”، إنه لا يهم أن تحمل الدولة المنشودة اسم “بطيخ”. ولكننا لا نعرف لهذه البلاد اسما آخر إلا فلسطين.
شبيه بهذه “السَلَـطة البلدي” موقف مائع لمحمد البرادعي، وهو لا يحتاج إلى من يذكّره بإسرائيل كمشروع عنصري استئصالي إحلالي، وليس وطنا لقوم لا يجدون مكانا للإقامة حتى يوافقوا على قبول شريك يقاسمهم الأرض والمواطنة في دولة يجب أن يكون اسمَها فلسطين، وليس “بطيخ”.
ظهر البرادعي مبتسما سعيدا في صور جمعته برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، مجرم الحرب الذي تخفى في زي امرأة عام 1973 وقتل ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في بيروت (كمال عدوان وكمال ناصر وأبويوسف النجار).
عاد البرادعي إلى صدارة الجدل بهذه الصور من ملتقى “ريشموند” بالولايات المتحدة في أبريل 2017، وبدلا من الاعتذار خانه ذكاؤه، ولم يطلق على الأشياء أسماءها الحقيقية، فليست نكبة 1948 ضلالا في الطريق إلى أن “نكون عادلين وموضوعيين سبعين سنة”، ولا إشارة إلى تهجير شعب من أرضه، واستنبات جيش ينسف القرى لاستقدام “شعب” لا علاقة له بفلسطين، وكل مؤهلاته أنه يهودي.
في الإيضاح لامنا البرادعي لأننا “نفتقد الصورة الكبيرة وهي أن الحرب والعنف ليسا حلا”. وكأننا من يصنع العنف ويبادر بالحرب. وساق أباطيل منها ما قال إنه موقفه من تأييد السلام العادل، منذ كان مساعدا لوزير الخارجية إسماعيل فهمي “الذي استقال احتجاجا على أسلوب التفاوض المنفرد في اتفاقية كامب ديفيد”، في اختلاط للأسماء والوقائع، فالرجل استقال حين أخبره السادات بزيارة القدس عام 1977.
نصحنا البرادعي بضرورة توصيل رؤيتنا للحل العادل إلى “الأصوات المعتدلة بالشعب الإسرائيلي… استقطاب الجزء المتعاطف من الإسرائيليين، خاصة السياسيين والأكاديميين، مع القضية الفلسطينية هو أمر ضروري إذا ما أردنا حلا… كان هذا رأى المفكر الفلسطيني البارز المرحوم إدوارد سعيد والذي كان يرى أهمية التخلص من إرث الماضي لكي نعيش الحاضر”.
لم يحصل محمد البرادعي على توكيل فلسطيني للتحاور مع “عقلاء” إسرائيل. وساق استغفالا آخر، متسترا باسم إدوارد سعيد الذي نبّه في كتابه “غزة – أريحا” إلى أن “الحوار بين الثقافات والتعايش بين الشعوب… لا يتم إلا بين طرفين متكافئين”، وقـال “لست أرى شخصيا أي سبيل لنيل هذه الحقوق (للفلسطينيين) سوى الكفاح المباشر لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي.. التخطيط لترتيبات تسمح باستمرار الاحتلال، وتفسح المجال في الوقت نفسه أمام بضعة فلسطينيين وإسرائيليين للتعاون فيما بينهم على أساس ودي، فكرة زائفة ومضللة.
فهل كان في وسع أحد أن يتخيل إجراء حوار بين بضعة مفكرين ألمان وفرنسيين من ذوي النوايا الحسنة إبان الاحتلال الألماني لفرنسا حول التعايش في ظل الاحتلال؟”.
نقلا عن العرب