من حق روسيا ان تحتفل، وتفتخر ، بنتائج نصرها على النازية العالمية في عام 1945 ، بعد حرب ضروس قدمت فيها العوائل السوفيتية أروع صور من التضحية والفداء ، وتقديم مواكب الشهداء ، والذين وصل عددهم الى عشرات الملايين من الأشخاص ، كل هذا ، حتى ينعموا اهاليهم اليوم بالحرية والاستقلال ، ورفض سياسة العبودية ، التي حاول الغرب فرضها على الاتحاد السوفيتي في ذلك الزمان .
وكما يقول المثل ” ما أشبه اليوم بالبارحة ” ، فروسيا اليوم ، أيضا تسطر أروع صور الفخر والاعتزاز ببطولات أبنائها ، وهم يدافعون عن وحدة بلدهم ، بالالتفاف خلف قيادتهم ، والتصدي الى ما يحاول الغرب رسمه لبلادهم ، من تقسيم وتدمير ، ومحاولة أخضاع الشعب الروسي لأرادتهم ” كسابايا ” ، لا سامح الله ، فا هو الغرب يتكالب كله ضد روسيا ، سواء في العقوبات الشرسة التي يفرضها على الشعب الروسي بالدرجة الأساس ، وحرمانه من ابسط حقوقه في العيش الحر الكريم ، وتجريده من كافة مقومات الحياة الاجتماعية والثقافية والرياضية ، وحتى لغته الام ، التي يحاربه الغرب في أي مكان تطال يديه له ، وخير مثال ما قامت به السلطات البولندية من عملية اقتحام المدرسة الروسية في وارسو ، وطالبت بأغلاقه، أو تحريم استخدام المصادر التاريخية والثقافية والفنية الروسية ، لمحو كل ما له علاقة بروسيا من العقل الغربي ، او بالحملة ” المسعورة ” لتسليح الجيش الاوكراني المغلوب على أمره للقتال ضد روسيا .
واليوم تحتفل روسيا والعالم الحر ، بذكرى الانتصار الثامنة والسبعين على النازية ، فقد كان لهزيمة الفاشية في عام 1945 أهمية أساسية لسير التاريخ العالمي لاحقا ، فقد تم خلق الظروف المواتية لتشكيل النظام العالمي بعد الحرب، الذي أصبح ميثاق الأمم المتحدة عماده الرئيس، والذي لا يزال حتى يومنا هذا المصدر الرئيسي لمعايير القانون الدولي ، ولا يزال نظام الأمم المتحدة المركزي يحتفظ باستقراره، بل ويتمتع باحتياطي كبير للمتانة. وهو بمثابة “شبكة للأمان” تضمن التطور السلمي للبشرية في ظروف تضارب المصالح، الطبيعي إلى حد كبير، والتنافس بين القوى الرئيسية ، ولا تزال الحاجة قائمة للاستفادة من الخبرة المكتسبة في سنوات الحرب من التعاون الخالي من الأيديولوجية بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية المختلفة.
ومن المؤسف وكما يؤكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ، في أحدى مقالاته لمجلة السياسة الدولية ، أن بعض القوى المتنفذة في الغرب ، تلتزم الصمت بشأن هذه الحقائق الواضحة، بل وتتجاهلها ، وعلاوة على ذلك، ازداد نشاط أولئك الذين يودون “الاستئثار” بالنصر، ومحو دور الاتحاد السوفيتي في هزيمة الفاشية من الذاكرة ، ونسيان مأثر التضحية المتفانية للجيش الأحمر في سبيل التحرير، وعدم تذكر الملايين العديدة من المواطنين السوفييت المسالمين الذين قضوا في سنوات الحرب، ومحو ذكر عواقب السياسة المهلكة لاسترضاء المعتدي من صفحات التاريخ ، ويظهر بوضوح، من وجهة النظر هذه، جوهر مبدأ “المساواة بين الأنظمة الشمولية”، وهو ما يهدف ليس فقط لمجرد التقليل من نصيب الاتحاد السوفيتي في النصر، بل وحرمان روسيا بأثر رجعي من الدور الذي حدده التاريخ له كمهندس وضامن للنظام العالمي ما بعد الحرب، ثم وصمه بصفة “الدولة التحريفية” التي تهدد رفاهية ما يسمى “بالعالم الحر”.
إن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين الذي كان يفصل بين المعسكرين، وزوال المواجهة الأيديولوجية الشديدة، التي كانت تحدد معالم السياسة العالمية في جميع المجالات والمناطق تقريبا – إن هذه التغييرات الجذرية لم تؤد للأسف الى انتصار الأجندة الجامعة ، ولكن بدلا من ذلك أخذت تتعالى إعلانات ظافرة عن حلول “نهاية التاريخ”، وأن مركز اتخاذ القرارات العالمية بات من الآن فصاعدا واحدا فقط ، ومن الواضح تماما اليوم أن محاولات إقرار النظام أحادي القطبية فشلت ، وارتدت عملية تغير النظام العالمي طابعا لا رجعة له ، ويسعى اللاعبون الكبار الجدد الذين يملكون قاعدة اقتصادية متينة إلى زيادة التأثير على العمليات الإقليمية والعالمية ، وكذلك يطمحون لمشاركة أوسع في اتخاذ القرارات المحورية ، وتتزايد الحاجة إلى نظام أكثر عدالة وشمولا ، وترفض الأغلبية المطلقة من أطراف المجتمع الدولي الآراء الاستعمارية الجديدة المتعجرفة التي تمنح بعض الدول الحق في أملاء إرادتها على الأخرى ، وهو ما يثير إنزعاجا واضحا لدى من تعوّد على صياغة قوالب التطور العالمي وفقا لامتيازاته الاحتكارية ، وتسعى أغلبية الدول إلى إنشاء منظومة أكثر عدالة للعلاقات الدولية وإلى تأمين احترام واقعي وغير شكلي لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة ، وتواجه هذه المساعي إلى الحفاظ على النظام الذي لا تستفيد في ظله من ثمار العولمة إلا مجموعة محدودة من الدول والشركات العابرة للقارات .
أما أوروبا ، فيتعايش فيها المدافعون عن الفكرة اللبرالية برضى تام عن الانتهاكات الجمة لحقوق السكان الناطقين باللغة الروسية في عدد من دول الاتحاد الأوروبي وجيرانها، حيث تصدر القوانين التي تنتهك بصورة وقحة الحقوق اللغوية والتعليمية للأقليات القومية المنصوص عليها في الاتفاقيات المتعددة الأطراف ، ولا يقبل الغرب اليوم بواقع أنه بعد مئات السنوات من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية بدأ يفقد صلاحياته الأحادية في صياغة الأجندة العالمية، ومن هنا نما نهج “النظام القائم على القواعد ” وإن نوايا مبادري نهج “النظام القائم على القواعد” كما يشرحها الوزير لافروف في مقاله ، تمس حصرا صلاحيات مجلس الأمن الدولي ، ومن الأمثلة الأهم على ذلك، عندما لم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من إقناع مجلس الأمن بالموافقة على القرارات المسيّسة التي تتهم دون أية أدلة قيادة سوريا في استخدام المواد السامة المحظورة، فقد بدأوا بطرح “القواعد” الضرورية لهم عبر منظمة حظر الأسلحة الكيمائية ، وبالتلاعب في الإجراءات الموجودة وبانتهاك فاضح لمعاهدة حظر الأسلحة الكيمائية، تمكنوا (بأقلية أصوات الدول الأعضاء في هذه المعاهدة) من منح الأمانة الفنية لمنظمة الحظر صلاحية تحديد المذنبين في استخدام الأسلحة الكيمائية، فأصبح ذلك اقتحاما مباشرا في صلاحيات مجلس الأمن الدولي.
وفي السياق ذاته نجد مبادرات تنظيم عمل الصحافة الرامية إلى التضييق الطوعي على حرية وسائل الإعلام، وكذلك أيدولوجية التدخل تحت مسمى “مسؤولية الحماية”، والتي تبرر “التدخل الإنساني” العسكري الخارجي دون أي عقوبات من قبل مجلس الأمن تحت ذريعة ظهور تهديدات على أمن المواطنين المدنيين ، كما ان هناك حاجة لإعارة اهتمام خاص لمفهوم “مكافحة التطرف العنيف” المثير للجدل، والذي يحمّل مسؤولية نشر الإيديولوجيات المتطرفة وتوسيع قاعدة الإرهاب الاجتماعية على الأنظمة السياسية، التي يدّعي الغرب أنها غير ديمقراطية وغير ليبرالية واستبدادية ، وإن تركيز هذا المفهوم على العمل المباشر مع منظمات المجتمع المدني “التفافا” على الأنظمة الشرعية لا يترك أية شكوك بشأن الهدف الحقيقي له، وهو سحب الجهود في مسار مكافحة الإرهاب من تحت “مظلة” الأمم المتحدة والحصول على آلية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول.
إن نسف واشنطن بداية لمعاهدة الدفاع الصاروخي، ومعاهدة التخلص من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى بتأييد بالإجماع من قبل أعضاء حلف الناتو، تشكل مخاطر تهديم بناء الاتفاقيات والمعاهدات الدولية في مجال السيطرة على الأسلحة الصاروخية النووية ، وما برحت أفق معاهدة ستارت الجديدة غير واضحة تماماً بسبب عدم الرد الظاهر لدى الطرف الأمريكي على المقترحات الروسية ، مما يبعث على الشك في مستقبل الوثيقة بالغة الأهمية بالنسبة للسلام والأمن العالميين ، وقد بدأت واشطن تنفيذ خططها لنشر الأسلحة في الفضاء الكوني، رافضةً أية مقترحات للتوصل إلى اتفاق الحظر العالمي على ممارسة نشاط كهذا.
وفي المجال الاقتصادي باتت “القاعدة” ، هي فرض الحواجز الحمائية وسياسة العقوبات واستغلال وضع الدولار ، كوسيلة أساسية في المعاملات ، وتوفير الامتيازات التنافسية التفافاً على الأسواق وتطبيق القانون الوطني الأمريكي خارج الحدود، بما في ذلك فيما يتعلق بأقرب الحلفاء ، في الوقت نفسه ، يسعى الأمريكيون كما يبدو لحشد كل ما استطاعوا من شركائهم الخارجيين من أجل ردع روسيا والصين، وهم في الوقت نفسه لا يخفون الرغبة في إيقاع الخلاف بين موسكو وبكين، وإعطاب وتقويض التحالفات متعددة الأطراف المتنامية خارج إطار السيطرة الأمريكية التجمعات الاندماجية الإقليمية في أوراسيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي ، كما يمارسون الضغوط على الأطراف التي لا تلعب وفقا “للقواعد” التي تفرضها عليها واشنطن، وتتجرأ على تبني خيار “خاطئ” لصالح التعاون مع “خصوم” امريكا.
ان ما تعرضه روسيا لا يخالف واقع اليوم ، فهي تدعوا قبل كل شيء، الى ضرورة مواكبة الزمن، والاعتراف بأمر بديهي، ألا وهو حتمية عملية تشكيل هيكلية عالمية متعددة الأقطاب، وذلك مهما حاولوا كبح هذه العملية بشكل مصطنع ، خصوصا وان غالبية الدول ترفض أن تكون رهينة لحسابات جيوسياسية أجنبية، بل تحرص على ممارسة السياسة الداخلية والخارجية السيادية ، وأن تتسم التعددية القطبية بطابع عادل ديمقراطي موحد، وتأخذ بعين الاعتبار نهج ومخاوف جميع أطراف المجتمع الدولي من دون استثناء، وتسهم في تأمين مستقبل مستقر وآمن.
وغالباً ما يصرّون في الغرب على أن تعددية الأقطاب ستؤدي حتماً إلى زيادة الفوضى والمواجهة، لأن “مراكز القوة” لن تكون قادرة على الاتفاق فيما بينها واتخاذ قرارات مسؤولة ، لكن لماذا لا نجربها أولا؟ فربما ننجح؟ وكل ما نحتاجه من أجل هذا هو البدء بالمفاوضات، بعد الاتفاق المسبق على السعي لإيجاد توازن في المصالح ، ويجب من الآن فصاعدا، التقيد الصارم بالمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، بدءًا من احترام المساواة في السيادة بين الدول – بغض النظر عن حجمها أو شكل سلطة الدولة أو نموذجها التنموي.
كما يجب استخدام إمكانات “مجموعة العشرين” إلى أقصى حد ممكن – وهي منظومة واعدة وواسعة النطاق للإدارة العالمية، حيث يتم تمثيل مصالح جميع اللاعبين الرئيسيين، ويتم اتخاذ القرارات باتفاق جماعي، وتلعب الرابطات الأخرى التي تعكس روح التعددية الديمقراطية الحقيقية دورًا متزايدًا، ويستند عملها على التطوع ومبدأ الإجماع وقيم المساواة والبراغماتية السليمة ورفض المواجهة والنهج التكتلي ، من بينها مجموعة “بريكس” ومنظمة شانغهاي للتعاون.
لقد حان الوقت للاتفاق على تفسير موحد لمبادئ وقواعد القانون الدولي وعدم الاعتماد على الحكمة المعروفة التي تسمح بتفسير فضفاض للقانون ، وإن التوصل الى الاتفاق أصعب من توجيه الإنذارات الأخيرة، لكن الحلول الوسط المتفق عليها بصبر ستكون آلية أكثر موثوقية لإدارة الشؤون الدولية التي يمكن التنبؤ بها ، واليوم هناك حاجة ماسة لهذا النهج للبدء بمفاوضات موضوعية حول معايير منظومة موثوق بها وعادلة للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في أوروبا الغربية وأوراسيا.
إن تحقيق النجاح في عملية تشكيل العالم المتعدد الأقطاب ، عبر التعاون والتوافق بين المصالح ، بعيدا عن المواجهة والنزاعات يتوقف على جهودنا المشتركة ، أما روسيا وكما شدد الوزير لافروف ، فسوف تستمر في ترويج الأجندة الإيجابية التوحيدية التي ترمي الى إزالة خطوط الفصل القديمة ، والحيلولة دون ظهور خطوط الفصل الجديدة ، وقد تقدمت روسيا بمبادرات في مجالات عدة ، بما فيها منع سباق التسلح في الفضاء الكوني ، وإنشاء أدوات فعالة لمكافحة الإرهاب، لا سيما الإرهاب الكيميائي والجرثومي، إضافة الى تنسيق التدابير العملية الخاصة بالحيلولة دون استخدام الفضاء السيبراني لتقويض أمن أي دولة ناهيك عن تطبيق مخططات إجرامية أخرى.