22 ديسمبر، 2024 7:42 م

في ذكرى إحتلال العراق ـ يوم أسود في تأريخ الإنسانية

في ذكرى إحتلال العراق ـ يوم أسود في تأريخ الإنسانية

التاسع من نيسان 2003، يوم أسود في تأريخ الإنسانية!
التاسع من نيسان 2003، يوم أسود في تأريخ الإنسانية، بل هو الأكثر سواداً. هو اليوم الذي بدأت فيه الولايات المتحدّة الأميركية إحتلال العراق بعد إعلان سيطرتها على العاصمة بغداد. اليوم، عندما نستذكره فإننا نستذكر عقدين كاملين من الإنتهاكات وعمليات التدمير واسعة النطاق. بعد عشرين عاماً على ذلك الحدث، الذي مثّل إنتهاكاً لكل المواثيق والمبادئ الدولية، أصبح من الواضح مدى الأضرار التي نجمت عنه. فلقد تسبّب في تفكيك دولةٍ كانت غنيةً ومزدهرة، إلى دولة تغذّيها الوحشية والفساد ويعيش الناس فيها في ظلٍّ إنتهاكاتٍ جسيمة لكلّ الحقوق الأساسيّة، وأولها الحقّ في الحياة.

بنت الولايات المتحدّة الأميركية، وربيبتها المملكة المتحدّة، الغزو والإحتلال على معلوماتٍ وإدّعاءاتٍ كاذبة لخداع الرأي العام العالمي ولتبرير الجريمة الكُبرى بغزو دولةٍ مستقلّة وعضو مؤسس للأمم المتحدّة. فبعد عقدٍ من العقوبات الإقتصادية الشاملة، وعمليات التفتيشٍ اليومية عن أسلحة الدمار الشامل التي زعمت إمتلاك العراق لها، كثّفت إدارة الرئيس الأميركي بوش خلال الأعوام الثلاثة من 2001 إلى أوائل عام 2003، مساعيها لإقناع العالم بوجود تلك الأسلحة على الرغم من أنّها متأكدة من عدم وجودها. وراحت تستعرض بكلّ وقاحة أكاذيبها في إجتماعات مجلس الأمن الدولي ساعيةً لإستصدار قرارٍ منه تستند إليه لتنفيذ خطتها الجاهزة للغزو، ولم يثنها فشلها في ذلك، من المضي قُدماً في تنفيذ قرار الغزو.

أثناء عملية الغزو ثم أثناء الاحتلال، شنّت القوات الأمريكية الغازية، وبانتظام، هجماتٍ عشوائية على مناطق مأهولة بالسكّان، ممّا تسبّب في وقوع ضحايا كُثر من المدنيين الأبرياء. وتشير التقدير الى أنّ ما بين مليون إلى مليوني مدني عراقي قد فقدوا حياتهم جرّاء الغزو والإحتلال، وهذه الخسائر تستمرّ إلى يومنا هذا فنتائج وآثار الإحتلال ما تزال تداعياتها قائمة. كما أدّى ذلك إلى تدمير البنية التحتية لمعظم مناطق العراق، خاصةً تلك التي قاومت الإحتلال، في محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى.

 

خلال العشرين سنة الماضية، تدهورت حالة حقوق الإنسان في العراق بشكل حادّ وسريع. وأرتكبت قوّات الإحتلال جرائم حربٍ وجرائم ضدّ الإنسانية لا يمكن نسيانها. فقد سادت عمليات القتل الجماعي، سواء التي قامت بها قوّات الإحتلال أو فرق المرتزقة المتوحشة التي كانت تعمل معها (مثل بلاك ووتر)، أو من المجموعات الإجرامية المرتبطة بإيران وإسرائيل، والتي إستثمرت الفراغ الأمني لتنفذ سلسلة إغتيالات طالت ضبّاط في جيش العراق الوطني، وعددٍ كبير من الأكاديميين والحقوقيين والأطباء وعلماء في مختلف الإختصاصات. كما تعرّض عشرات الآلاف من العراقيين للتعذيب في سجون الإحتلال إثرَ موجاتٍ من إعتقالاتٍ عشوائية غير مبرّرة.

من ناحية أخرى، أدّت الحرب وما آلت إليه الأوضاع تحت الإحتلال من غيابٍ لسيادة القانون، ونمو المجاميع والميليشيات المسلّحة إلى تغييرعميق للصورة الديموغرافية والاجتماعية للعراق. ولعلّ ذلك كان نتيجةً طبيعية لعمليات القتل والتهجير القسري على أسسٍ طائفية، حيث جرى إفراغ مدن ومناطق كثيرة من العراق من سكّانها الأصليين وإستبدالهم بمجموعاتٍ وافدة من مناطق أخرى أو حتّى من خارج العراق حسبما تؤكد مصادر مطّلعة على ذلك.

لا شك أن الإحتلال ألقى بظلاله الثقيلة على النظامين التعليمي والصحي في العراق، والّلذين كانا من أكفأ الأنظمة في المنطقة، وأكثرها تطوراً، بشهادة اليونيسكو ومنظمّة الصحة العالمية. لقد جرى تخريبهما بالكامل، ممّا ساهم في تفشي الجهل والأمراض، وهكذا فقد كمّل أحدهما الآخر في سحق المجتمعات العراقية، وخلق البيئة المناسبة لإستمرار نظامٍ حكمٍ طائفي متخلّف وفاسد.

 

إن الحالة التي سادت العراق خلال العشرين سنة الماضية تفضح إدّعاءات المحتلّين ـ التي إنطلت على البعض ـ بنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. لقد إرتكبوا أبشع الإنتهاكات وأكثرها قسوةً. ولعلّ ما تعرّضت له المرأة العراقية من إنتهاكاتٍ ممنهجة لحقوقها أثناء الإحتلال خير دليل على ذلك. فقد جرى إعتقال أعداد كبيرة من النساء، كرهائن، لمجرد أن القوّات المحتلة كانت تبحث عن أزواجهنّ أو أبنائهنّ. وفي السجون تعرّض الكثير منهنّ للتعذيب وإساءة المعاملة، وهنالك ما يؤكدّ أن قوّات الإحتلال الأميركي قدّ مارست الإغتصاب ضدّ عددٍ من النساء في تلك السجون والمعتقلات سيئة الصيت.

بعد عشرين عاماً، تتواصل هذه الانتهاكات في ظل الحكومات المتعاقبة التي تأسست في ظلّ الاحتلال والتي تعتمد أجهزتها الأمنية على القوة والقمع في عملها. فقد تزايدت عمليات القتل خارج القضاء، والإعتقالات التعسفيّة، والتهجير القسري. كما تفاقمت حالات الإخفاء القسري على أيدي أجهزة السلطة والميليشيات المرتبطة بها لأعدادٍ هائلة من الأبرياء بعد إعتقالاتٍ نّفّذت في مناطق معينة. ويؤشر تقرير لجنة الأمم المتحدّة المعنيّة بحالات الإختفاء القسري الذي صدر في جنيف في الرابع من هذا الشهر (نيسان 2023) الحجم الهائل لهذه الجريمة وآثارها الإجتماعية الخطيرة على مئات الآلاف من العوائل التي تبحث عن أبنائها دون أن تجد من السلطات أذناً صاغية، بلّ في أحيان كثيرة تتعرّض للتهديد والإبتزاز.

لقد فشل المجتمع الدولي لحدّ الآن في إجراء محاسبةٍ حقيقية للقادة والمسؤولين السياسيين الذين خطّطوا ونفذوا واداروا غزو وإحتلال العراق وبخاصةٍ جورج بوش وتوني بلير. وكذلك محاسبة تلك الجهات التي تعاونت معهم، والتي سهلّت دخول قواتهم الغازية. ومهما طال الزمن، فأن هذه الجرائم لن تسقط بالتقادم وسيأتي اليوم الذي نرى فيه إجراءاتٍ قانونية ومحاكماتٍ تنصف شعب العراق، الضحية الأولى للغزو والإحتلال الأميركي وتحاسب كلّ أولئك الذين إرتكبوا الإنتهاكات ضدّه.
* المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة