23 ديسمبر، 2024 10:58 ص

في ذكرى أنور طه  ( أبو عادل ) لكي لاننساهم

في ذكرى أنور طه  ( أبو عادل ) لكي لاننساهم

أربعة عقود ونيف تَفصلني عن سِجّو ذلك ألمساء الشتوي حين إجتمعنا في بيت مُنزوي من بيوت ألبصره عام 1968. كُنا حد التُخمه مفعمين بروح التحدي وطغيان الفرح لِتماهينا بالحياة السياسيه المنظّمه . وكانت هذه الخطوه العمليه الاولى للتمهيد فيما بعد لتشكيل لجنه محليه جديده للحزب الشيوعي العراقي في البصره .
كان هاجسنا ، بل وتّحدينا ، تحدي الشباب في حينها ، أن نساهم في بناء عراق جديد، عراق كما كنا نتصوره في حينها ، وربما الأن ، بلاد الوفره ، وبلاد اللامحتاج ، وبلاد تكافئ الفرص ، بلاد الانفتاح ، وربما كنا ، إنسياقاً مع نزعة وروحية الشباب ان يكون لكل كائن فيه حرية إختيار الاخر ، سواء كان هذا رفيقته ، وربما حبيبته أو على نحو السياق ذاته من الذي يحكمه.
  لم تكُ تلك أضغاث أحلام ، إنما أحلام ورُؤى عن صدق نِيّه وإرهاف ضمير .
أتينا نحن في هذا الاجتماع والاجتماعات اللاحقه من تنظيمات مختلفه تصلبّ عوُدها , بيد إنها كانت أُحادية الصله بالمركز ، ولهذا فإن ماكُّنا بأمس الحاجه إليه هو التجربه والاحتكاك مع رفاق لنا في التنظيمات الاخرى . وهكذا كان في تنظيم أول إجتماع لنا في تلك الليله . الذي قاد الاجتماع كان الشهيد محمد جاسم البطاط ” أبو زيتون ” . 
كان ذلك أول لقاء لنا بأبي عادل ، الذي حضر الاجتماع كمشرف. كان ذي وجه غير مألوف ، فهوِ ليس أسمراً ، أو قل ليس بصراوي السُحنٌه . ولم أكن أدري ، في حينها ، أن تلك الليله ستكون فاتحة خير لرفقه طالت ربع قرن .
كان مظهرهُ ، لباسهُ ، طريقة كلامه ، يوحي بالاُستقراطيه . سرعان ماتلاشى هذا الانطباع .
سائلتُ نفسي ، في حينها، من أين لهذا الرجل ، هذه الشفافيه ، هذه التلقائيه في الحديث ، هذا المكر المهذّب في التعليق ، هذا الحدس العميق تجاه الناس وإتجاه رفاقه الحضور.
لم يتكلم كثيراً. لم يكُ بحاجه لذلك . عرفتُ بفضل هذا أنهُ فقط آولئك اللذين تنقصهم الحجه ، بحاجه الى اللغو.
كان هدف ذلك الاجتماع والاجتماعات اللاحقه إرساء بُنيه مستحدثه لتنظيمات حزبيه جديده ، يمثل عنصر الشباب الاساس فيها. وكانت الغايه ليس كسب أكبر عدد ممكن لعضوية الحزب الشيوعي ، بقدر ماكان إحاطة التنظيمات الحزبيه الوليده ، ذات النوعيه النضاليه الصلبه ، بسياج جماهيري  يتسّع لأكبر المؤيدين من مختلف الفعاليات ، وبالاخص من الكسبه والعمال والفلاحين والنساء والمثقفين . وكان ذلك على النقيض من نهج حزب البعث الذي ركز على العدديه ، وفق شعارهم حينذاك : كلنا بعثيون !  عندنا ، في حينها ،  كان التمهّل والتدقيق الصارم في قبول المرشحين لعضوية الحزب ، هو الهاجس اليومي .
الغُلّه ، كانت أن أضحت جماهيرية الحزب الشيوعي في البصره ، هي المهيمنه بالمطلق . هكذا كان الحال ، على سبيل المثال في أوساط المثقفين والطلاب والفنانين والنساء . وشهدت تلك الفتره إبداعات الفنانين البصريين في مجال المسرح ، من مثل أوبريت بيادر خير عام 1969 واوبريت المطرقه في العام الذي يليه 1970. وتألق فنانون ومثقفون وشعراء مثل طيبوا الذكر حميد البصري ورفيقة عمره الفنانه المبدعه شوقيه أالعطار و طالب غالي ورفيقة عمره هي الاخرى ألفنانه أم لنا ، ألمخرج والفنان قصي البصري والشاعر خالد الخشان ، والشاعر المبدع دوماً علي العضب ، والناقد الاديب ياسين النصّير . وهل يُمكن أن تنسى الذاكره فنانا الراحل فؤاد سالم والفنان ذي ألصوت الرخيم ، المتعالي والملحن ألمبدع بذات الوقت كوكب حمزه ، وآخرون لايتسع المجال هنا لذكرهم الطيب . وهل يمكن لجمهرة المثقفين البصريين في مثل عمرنا أن لايستعيدوا ، تلك الاجواء النيرّه التي كان يشيعها، آنذاك، نادي الفنون ، وجمعية الاقتصاديين ، وتلك النوادي الليليه على إمتداد وإِستطالة شارع الوطني في البصره في إحتضانها يومياً لتلك الزمر المتتاليه من المثقفين والطلاب والعمال والكسبه ، التي إكتسبت ألقها ، وتألقها في تلك الامسيات التي كانت تخلو ، ربما ، من بعض مستلزمات الغِنى والسعه، لكنها لم تكن تخلو أبداً من  التفاؤل والطيبه والتحليق في التمنيات على مستوى العراق / الوطن ، وأيضاً على المستوى ( الجهوي ) في ” إعادة الجمال إلى البصره ” كما عبرّ عن ذلك أجملَ تعبير ، طيب ألسريره علي العضب .
هؤلاء ، كانوا لَبَنة الفن التقدمي ، الفن المتصالح والمتناهي مع إنسانية القيم الانسانيه ، الفن اللاعنصري ، الفن الذي كانت ولا زالت غايته إسعاد الناس ، وزرع الطيبه في ضمير جيل الشباب ، ضد العُتم ، وضد كل ماهو غير إنساني.
كان أنور طه ، أبو عادل ، مكلفاً من قبل اللجنه المنطقيه ، التي كان عضواً مرشحاً فيها ، كعضو متفرغ لتقوية الصلات مع هذا الوسط الفني ، وإيصال ماكان الحزب يتوخاه . وللاسف ، فإن هكذا نسق حياتي يومي ، وغير منضبط ليس أحياناً ، كان من شأنه أن يفرز هنّات على المستوى الصحي ، وكان ذلك ، فيما أعتقد ،  سبب مهم لرحيل أبو عادل المبكر ، فيما بعد .  
 وحدهُ أنور طه ، لم يكن يعرف عدد أصدقائه . كان الكل يسعى إليه للتعارف والمجالسه ، التي تتواصل ، ليس أحياناً ، إلى فجر اليوم التالي . تلك اللقاءات كانت بمثابة مزيج / بهارات من ألنكته الرائِقه والعنفوان المحض ، الخالي من أيةِ هواجسَ نميمه ، أو دحضُّ للحق .
لم يتنقّل ” أبو عادل “، صِنوَ بعضَ العاقِّين ، من حال الى حال ، وما كانَ ذلك باللامُحال على المطلق ، ولكنهُ كان بالنسبه إليه ومن في صنوهِ  ألمُحال بعينه . 
كان مُرتحِلاً بين غربه وغربه ، مُختصِراً بذلك مدّيات الحياة ، حياته ، حياة جيله .
 لم يكن يسعى إليها ، ألغُربه ، ربما كانت هي التي جُبِلَت عليه.
 كان مثل الطين الحِرِّي مُرتحِلا أبداً ، وملتصقاً أبداً بالنهر. وكان نهر أبو عادل العراق.
أسفاره كانت محطات ” تعبئه ” لاأكثر لقواه الجسديه المُنهكَه . ألواحده تحضّرهُ وترحلهُ للاخرى : ألبصره ، كُردستان ، ألشام ، بيروت ، إيران ، أفغانستان ، موسكو ، بلغاريا ، تخلّلتها ، وهذه ألمفارقه فيها حمل سلاح ضد الدكتاتوريه وإعتقالات متعدده ، وأخيراً الدانمارك لاجئاً سياسياً . رُبما كان ألجواهري ألكبير يعنيه أيضاً عندما نشد :
             أَرِح رِكابكَ من أينٍ ومن عَثَرِ           كفاكَ جيلان مَحمولاً على سَفرِ
 أسفاره كانت تشظِياً لجسده ألواهن ، ولم تَكُ قط كذلك لمعتقداته ، التي بقيت لصيقةً به وكان هو لصيقاً بها ، لِصقّ النحلةِ بعبيق الازهار . ومثلما كان لسانهُ وسيله لإشاعة الفرح والغبطه لدى أصدقائه كان به بالقدر ذاته قوه دافقه لإزدراء الدكتاتوريه والثقه اللامحدوده بالإنتصار عليها .
 يُعدّد ” أرسطو ” عناصر السعاده بالفضيله واليُسر ألمادي واللذّه . هل كان” أبو عادل ” سعيداً ؟
 أحسبُهُ كذلك . حَسبهُ أنهُ كان فاضِلاً ، وفضيلته كانت أثيله . وكان مُلتذاً حتى ألثُماله . لذتّهُ وطيبته في الدنيا كانت ألنضال وكأني بهِ ” أوستروفسكي ” آخر ، لذا إنخرطَ منذُ فتوتهِ في مجراه العام ، ولم يَستيأِس منهُ ألبتّه . وبقدر ماكانَ مُستعلياً على ضروراتهِ ألذاتيه ، كان بقدرٍ أرقى مُستَعلياٍ على تفاهات أالحياة ، وما أكثرها .
كان مُقِّل الكلام ، عميق ألجوهر ، مُطمئِن السريره .
لم يَفتأِت على أحد ، لم يكن يعرف ذلك . أَهوَ سمو خلق ، أم شعور صدق ، أم صفاء جوهر !
كان أبداً في مُنازله مع ذاته ، ولم يرضهِ سوى فرح ألاصدقاء ، وما أكثرهم . أهوَ صِدق شعور ، أم رهافة حِسْ ، أم مُقاربه تاريخيه لجيله !
 رحل أبو عادل بعيداً عن وطنه في الدانمارك في شباط الاسود عام 1996
الذكرى الطيبه لك ياأبو عادل .