اذا كانت إيطاليا بلد الفنون التشكيلية ، وألمانيا بلد الموسيقى ، فإن روسيا بلد الشعر .. فقد كان الشعر على مدى مئات السنين أحد أهم روافد الثقافة الروحية للشخصية الروسية . وحين يجتمع عدد من الأصدقاء أو الزملاء – سواء في مناسبة عائلية ، أو حول موقد النار في أعماق الغابة الروسية الساحرة في سفرة استجمام أو في بعثة جيولوجية – فأن الحديث لا يخلو عن الشعر والشعراء وقد يصاحبه العزف على الغيتار . ولا يقتصر الأمر على الشعراء الروس ، بل يرددون أحياناً أبيات من قصائد كبار الشعراء الأجانب مترجما الى اللغة الروسية شعراً. كم مرة سمعت في موسكو يرددون بعض أبيات شعر الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت .” أجمل الأيام ، تلك التي لم نعشها بعدأجمل البحار ، تلك التي لم نبحر فيها بعد أجمل الأطفال ، هم الذين لم يولدوا بعد أجمل الزهور ، تلك التي لم نرها بعد أجمل الكلمات ، تلك التي لم أقلها لكِ بعد وأجمل القصائد ، تلك التي لم أكتبها بعد.” ورغم أنني كنت وما أزال من عشاق شعر ومسرح ناظم حكمت ،وقرأت كل ما ترجم منها الى اللغة العربية ، غير أني سمعت تلك الأبيات لأول مرة ، من فتاة روسية – ونحن على ظهر باخرة سياحية في صيف عام 1961 ضمن مجموعة طلابية من جامعتنا ، في ليلة صيف روسية بيضاء ، حين يظل الأفق مضيئا طوال الليل .قضى حكمت حوالي 17 سنة في السجون التركية بسبب شعره الأنساني الجميل التي فسرته السلطة كشعر ثوري يروج للشيوعية . وفي اوائل 1951 أعلن الشاعر المشرف علىى الموت بسبب عجز في القلب ، الأضراب عن الطعام مطالباً بإطلاق سراحه . ولكن السلطة ظلت صمّاء . وكان حكمت آنذاك في حوالي الخمسين من العمر ، وأشهر شاعر تركي في داخل تركيا وخارجها .وخلال فترة الأضراب حاز على جائزة مجلس السلم العالمي وانتخب على إثرها نائباً لرئيس المجلس . واثيرت ضجة عالمية وطالب كبار الكتّاب والشعراء والفلاسفة والمفكرين والفنانين في شتى انحاء العالم بضمنهم سارتر وأراغون ونيرودا وبيكاسو باطلاق سراحه .وقد اضطرت السلطة تحت ضغط الرأي العام العالمي الى الأستجابة لهذا المطلب ، ولكن وضعته تحت الأقامة الجبرية والمراقبة . ثم تم استدعاؤه لأداء الخدمة الألزامية في الجيش ، رغم أنه كان مريضاً ، وسبق اعفائه من التجنيد لأسباب صحية . وكان الهدف من وراء هذا الأستدعاء واضحاً وهو القضاء عليه ، عن طريق ما تتطلبه الخدمة الألزامية من تدريب عنيف . ولم يكن أمامه سوى الهروب من تركيا واللجؤ الى الأتحاد السوفييتي في حزيران 1951. شهرة حكمت سبقته الى موسكو حيث ترجمت قصائده الى اللغة الروسية ونشرت على نطاق واسع منذ الثلاثينات من القرن العشرين ، وعرضت مسرحياته على مسارح موسكو وليننغراد وبقدومه الى موسكو أصبح على الفور محط أنظار الأوساط الأدبية في الأتحاد السوفييتي ، وقام برحلات كثيرة الى شتى بلدان العالم .لم تكن الحياة سهلة في الأتحاد السوفييتي في أوائل الخمسينات وأصيب بخيبة أمل في النظام الأشتراكي على النمط الستاليني ، ولم يكن يتوقع ان تكون الحياة في بلد إشتراكي بهذا البؤس ، فقد اختفىت تلك الأجواء الفنية والأدبية المفعمة بالتجديد والأبداع الحقيقى الذي كان سائدا حينما كان طالبا في موسكو في العشرينات. واختفى اصدقاؤه من الكتاب والشعراء والمسرحيين و الفنانين الذين عرفهم في شبابه . منهم من تمت تصفيته ومنهم من كان يقضي سنوات السجن في معسكرات الأعتقال الرهيبة . وكان يزعجه ذكر اسم ستالين في قصائد الشعراء الروس ( الرسميين ) من دون مسوغ فني والتشويه المتعمد لقصائده المترجمة الى اللغة الروسية ، وصور ستالين في كل مكان . ذات مرة قال حكمت لصديقه الكاتب والشاعر ايليا اهرنبورغ :” إنني احترم جداً الرفيق ستالين ، ولكنني لا أحتمل القصائد التي تقارنه بالشمس . هذه ليست قصائد سيئة فقط ، بل تنم عن ذوق سيء .”في شباط عام 1953 أصيب حكمت بأزمة قلبية وظل طريح الفراش في حالة حرجة لعدة أسابيع . وتقول الطبيبة التي كانت تعالجه ، وأصبحت في ما بعد على علاقة حميمة معه :” لقد نجا حكمت بأعجوبة اذا أخذنا بنظر الأعتبار مستوى الطب في ذلك الوقت ” .صراحة غير معهودة :في أوائل الستينات- في فترة ذوبان الجليد . هبت رياح التغيير على روسيا في كافة مجالات الحياة ، وشرع الروس بفتح ابواب الستار الحديدي أمام الأجانب وخاصة الطلبة من بلدان العالم الثالث ومنها العراق . لم يكن يمر اسبوع دون أن احضر أمسية شعرية أو أدبية في هذه القاعة أو تلك . و لن أنسى ما حييت أمسية أقيمت لناظم حكمت في 18 تشرين الثاني 1961 في متحف ( ماياكوفسكي ) . (وأنا أنقل هنا ما كتبته في دفتر يومياتي في ساعة متأخرة من تلك الليلة بعد رجوعي الي المدينة الجامعية حيث كنت أسكن ) . كان الأزدحام شديداً واغتصت القاعة الصغيرة والممرات بعشاق الشعر . وقف الشاعر امام الجمهور المتلهف لشعره ، فارع القامة ، أشقر الشعر ، وعيناه الزرقاوان تلمعان ويبدو مفعماً بالحيوية وعلامات الرضى على محياه ، قال الشاعر:- أيها الرفاق! أتذكر جيدا نلك الأمسية الشعرية في قاعة البولوتكنيك ، التي حضرتها بصحبة ماياكوفسكي وقرأت شيئا من شعري لأول مرة أمام الجمهور الموسكوبي .كنت في التاسعة عشرة من عمري ، مرتعباً من قراءة شعري باللغة التركية ، ومتردداً جداً . ولكن ماياكوفسكي دفعني وقال :” تعال ايها التركي ، لا تخف . على اية حال لن يفهموا شيئا ، ولكنهم سيصفقون لك ، لأنك شاعر ثوري .حقاً لم بفهموا شيئاً من شعري ولكنهم صفقوا لي بحرارة ، وكان ذلك أول تصفيق لي هنا .درست في موسكو وقضيت فيها أجمل سنوات شبابي . وفيها أحببت وكتبت شعراً حقيقياً لأول مرة . رأيت في موسكو ( الأوبرا). وتعلمت الكثير والكثير من الأشياء لأول مرة هنا . تعرفت على مترجم اشعاري ، الشاعر أدوارد باغريتسكي ، ولهذا أعتبر نفسي موسكوبياً قديماً . سأبلغ الستين من العمر قريباً . أحاول كتابة الشعر والمسرحيات ورواية واحدة . ربما سأنجح في كتابة الشعر ، وستكون مسرحيتي سيئة ، وسأفشل في كتابة الرواية .- ضحك في القاعة !- والآن أسأل زملائي الشعراء المترجمين قراءة ما كتبته من قصائد في الآونة الأخيرة . وكأنها تقريري المقدم اليكم . ولكن قبل ذلك أريد أن أقرأ عليكم احدى قصائدي باللغة التركية وهي بعنوان ( بحر قزوين) . هل أنتم موافقون ؟ . عندما يطلب مني قراءة شيء من شعري أمام الجمهور أختار هذه القصيدة القديمة لأنني لا أحفظ غيرها عن ظهر قلب . هذا اولاً ، ولأنها أسهل فهما من حيث الأيقاع ثانياً . الآن أنا لا اكتب مثل هذا الشعر . كنت اكتب هكذا عندما كنت في العشرين من عمري “.كان كل من في القاعة يصغي بأنتباه وهم يحبسون أنفاسهم . وعندما انهي الشاعر كلامه ، دوت عاصفة من التصفيق المتواصل .ثم قرأت الشاعرة المترجمة ( فيرا بافلوفا ) مقاطع من مسرحية حكمت ( البانوراما الأنسانية ) . القاعة صامتة . لا نأمة ولا سعال ، ولا صوت تحريك مقعد . قال الشاعر : ” استلمت الآن ورقة من احد الحاضرين يقول فيها : ” الرفيق ناظم ، نحن نحبك جداً ، ولهذا جئنا لنستمع الى أشعارك الرائعة ، ولنعرف رأيك في المسرح وعن حال الفن اليوم عموماً .”ناظم حكمت : ” بعد المؤتمر العشرين فتحت النوافذ على الحياة الثقافية في روسيا – هذه حقيقة ! ولكن ظهرت على هذه النوافذ مشبكات مختلفة في الآونة الأخيرة – هل هذا أمر طبيعي ؟ الجديد سينتصر حتماً .أنا متأكد من ذلك . وبالنسبة الى المسرح أيضاً . لقد شاهدت العصر الذهبي للمسرح السوفييتي ، قبل اربعين عاماً ، وعندما عدت الى موسكو في عام 1951 ، وجدت ان كل المسارح كأنها تطبق نظرية ستانيسلافسكي ، ولكن شيء ما قد اختفى منها ، ولا وجود لروح ستانيسلافسكي فيها . واتضح ان المخرجين اللامباليين او غير الموهوبين يستخرجون نظرية ستانيسلافسكي من الخزانة كعمامة معقمة بالنفتالين .في يدي ورقة أخري ، ولكني أريد أن أرى الشخص الذي يسألني ، لأن هذه مجرد ورقة . تسألون عن الفن التشكيلي .! . يبدو لي أن هذا الفن عالمي أكثر من أي فن آخر ، لأنه لا يحتاج الى الترجمة ، كما يحتاج الشعر . قد يكون الشعر المترجم جيداً أو سيئاً ، أما الفن التشكيلي فانه لا يحتاج الى الترجمة . لدينا في روسيا الكثير من الفنانين التشكيليين الشباب الموهوبين جداً ، ولكن كل الطرق مسدودة أمامهم ، وهم لا يستطيعون عرض لوحاتهم هنا أو في الخارج ، وليس بوسعهم حتى الحصول على الكتب الغربية عن الفن التشكيلي الحديث. البيروقراطيون يعتقدون ان الموهبة ليس بالأمر المهم ، وان المواهب غالباً ما تظهر بكثرة ، ولذا يمكن التعامل معها بخشونة . هذه هي جريمة الجهلة . الموهبة بحاجة الى المساعدة والرعاية وهي تضيع من دونهما . لا ينبغي الزعل من البيروقراطيين ومن السلطة . في البحر الأسود نوع من الأسماك القوية ، ومن الصعب جدا اصطيادها . ولكن الصيادين يضربونها على خَيْشُومَها فتزعل ، وبذلك يسهل اصطيادها . أنفي كبير والحمد لله . ومهما تلقيت من ضربات على أنفي فانني اواصل الكتابة . “ثم تحدث الشاعر عن منع عرض الكثير من مسرحياته في الأتحاد السوفييتي رغم انها تعرض بنجاح في العواصم الغربية ومنها مسرحية ” وهل كان هناك ايفان ايفانوفيتش ؟ “. وقال حكمت : ” كلما سألت احدا من أصدقائي عن السبب ، لا أتلقى جواباً . كان يمكن أن أستاء وأتوقف عن الكتابة ولكنني واصلت الكتابة وكتبت بعدها مسرحية ” أن تكون أو لا تكون ” وهي مسرحية جادة للغاية . كتبتها وأنا افكر في مصير صديقي الكساندر فادييف وغيرها كثير . اذا كنتَ حقاً كاتباً فلن تتوقف عن الكتابة . جلبت لي زوجة بولغاكوف روايته ” المعلم ومرجريتا ” وعدة مخطوطات أخرى له. نتاجاته ممنوعة من النشر أيضاً ، ولكنني على ثقة أن اولادكم سيقرؤن نتاجات بولغاكوف الممتازة و ستدخل ضمن المقرر الدراسي في المدارس في زمن احفادكم مثل نتاجات بوشكين ودوستويفسكي .”رأيت ناظم حكمت للمرة الأخيرة في بيت الأدباء ( مقر اتحاد الكتاب السوفييت ) عام 1962 ، في امسية مكرسة للأحتفال بالذكرى االستين لميلاده. جلس الشاعر على منصة الرئاسة وبجانبه الكاتب العالمي ايليا اهرنبورغ – الذي قدمه للحضور – اضافة الى بعض الشعراء الروس المشهورين .. كان ناظم حكمت يبدو مرهقاً ولكن سعيداً في الوقت ذاته . كانت القاعة تغص بمئات الأدباء والمثقفين ارتجل اهرنبورغ كلمة قصيرة هزت مشاعر الحضور، وتقدم ناظم ليلقي قصائده باللغة التركية ، كما فعل ذلك قبل اربعين عاما في قاعة البولوتيكنيك – ولكن هذه المرة كانت قصائده مترجمة الى الروسية مسبقاً – حيث يأتي بعده شاعر روسي مشهور ليلقي القصيدة ذاتها باللغة الروسية . وكان قد كتب قصيدة لمناسبة بلوغه الستين ، تحت عنوان ” رؤيا” . وجاء صوته رخيماً وعذباً ، يشوبه بعض الحزن والأسى:أنا الآن في الستين لم أكن أبلغ العشرين حينما رأيت حلماً وما زلت أراه كل حين أراه صيفاً أراه شتاءاً حينما يهطل المطر وحينما تتلبد السماء بالغيوم أستيقظ في هذا الحلم وأحيا وأقتفي اثره ما الذي لم يحرمني منه الفراق ؟ إنتزع مني الأماني – بالكيلومترات والأسى بالأطنان شعر رأسي والأيادي التي صافحتها غير أني لم أفارق حلمي وحده تجولت في حلمي في أوروبا في آسيا في أفريقيا الأميركان وحدهم منعوني من الدخول أحببت كثيراً من الناس في حلمي من البحار من الجبال من السهول دهشت لأشياء كثيرة !كان حلمي في السجن – نور الحرية وفي المنفى – تابل خبزي ومع إشراقة كل يوم مع أول خيوط الضياء كان حلمي – الحرية العظيمة لبلادي.توفي ناظم حكمت في صبيحة يوم الثالث من حزيران 1963 عندما كان يمد يده الى صندوق البريد قرب باب شقته ليتناول جرائد الصباح التي كان مشتركاً بهاً , نقل جثمانه الى القاعة ذاتها التي شهدت الأحتفال بالذكرى الستين لمولده ، وجاءت جماهير غفيرة لألقاء النظرة الأخيرة عليه ، ودفن في مقبرة العظماء في موسكو . و ضريحه منحوتة على شكل انسان يحمل على ظهره صخرة كبيرة ترمز الى تركيا التي حملها معه اينما حل وعاش . هي من ابداع الفنان العالمي مارك شاغال. كلما زرت موسكو اقف خاشعاً امام ضريح ناظم حكمت ، واشاهد كيف ان الناس من مختلف الجنسيات يضعون باقات الورود عليه وهم يقفون خاشعين ، وربما يرددون بينهم وبين أنفسهم بعض ابيات شعره السهل الممتنع .في عام 2009 قررت الحكومة التركية اعادة الجنسية التركية الى شاعرها العظيم بعد اسقاطها عنه اثر لجوئه الى روسيا . وعاد شعره المحظور سابقاً الى الجمهور التركي مجدداً، و حتى الرئيس التركي أردوغان يردد في خطبه احياناً ابياتا من شعره الجميل . احدث ناظم حكمت ثورة حقيقية في الشعر التركي محطماً القيود التقليدية التي كانت تكبله، وقد اسبغ النقاد عليه لقب ( بوشكين التركي ) . تأثر العديد من الشعراء العرب بشعر ناظم حكمت منهم عبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري ونزار قباني ومحمود درويش .