23 ديسمبر، 2024 9:19 ص

في جدلية العلاقة بين الدين والسياسة

في جدلية العلاقة بين الدين والسياسة

العلاقه‌ بین الدین والسیاسة، مسألة قديمة، متجدّدة. ولا شك أن طبيعة الدين – والكلام هنا عن الإسلام تحديداً – بما هي من توجيه وإرشاد، وشمول لعوالم النفس والجسد، والغيب والشهادة، تستلزم هذه العلاقة والرابطة بين الدين وبين سائر ميادين النشاط البشري، بما في ذلك السياسة!..

ولكن وجود هذه العلاقة المتينة، والطبيعية، بين الدين وسائر مجالات حياة الإنسان، لا يعني أنْ لا وجود لحدود فاصلة، أو ملامح مستقلة، لهذه الميادين، ولا يعني فقدانها لوظائفها وتميّزاتها عن بعضها البعض.

وفي ظلّ الحضارة الإسلامية – بما يمثّله الدين من أهميّة كبيرة في حياة الفرد والمجتمع، وبما يلعبه الدين فيهما من دور حيويّ مؤثّر- نرى ثمّة علاقة متداخلة وقوية بين الدين وسائر مجالات الحياة، حتّى يظنّ أنْ لا تمايز بينها.

ونحن نعلم أنّ كلّ أعمال الإنسان، في الرؤية الإسلامية، تعتبر بمثابة عبادة – إنْ هو أدّاها لله، وفي سبيل الله – وهو ما تحدّده ما عرف في المصطلح الإسلامي بـ (النيّة) . فبدون وجود (النيّة) تغدو أعمال الإنسان، وأقواله، أشياء لا روح فيها، ولا فائدة منها، بالنسبة لمصيره بعد الموت. وعندما نقول كلّ أعمال الإنسان، فذلك يشمل حتى تلك الأكثر ماديّة، والأبعد – في ظاهرها – عن الروحانيّة والدين، كالرياضة، أو التعليم والدراسة، أو العمل اليومي لاكتساب القوت، أو أيّ عمل ينجزه الإنسان، بحكم أنّه كائن حيّ.. وليس هناك من يدّعي أنّ هذه الأعمال دينية في ذاتها، أو يجادل مدّعياً أنّها جزء من الدين.. فهي أعمال دنيويّة، يستطيع أيّ إنسان أن يمارسها بوصفه كائناً حيّاً، دون أن يقصد بها معنى دينيّاً، وما يعطيها ذلك البعد الروحي، والمعنى الديني، هو (النيّة).. فإن كانت نيّته فيها أنْ تكون لله، فهي عبادة، يؤجر عليها، وإلا كانت أعمالاً لا علاقة لها بالدين.. وهذا التمايز بين الجانب الدينيّ والدنيويّ في أعمال الإنسان واضح، يلمسه كلّ أحد.

وتصح هذه النظرة بالنسبة للعمل السياسيّ أيضاً.. فالعمل السياسي – في حدّ ذاته – عمل بشريّ، دنيويّ، يمكن أن يؤدّيه الإنسان دون أن يقصد به معنى دينياً، ويمكن – على العكس – أن يؤدّيه، مبتغياً به وجه الله، وثواب الآخرة.. فنيّة الإنسان يمكن أن تضفي بعداً دينياً على عمله، مهما كان دنيويّاً، ماديّاً..

وهنا تنبغي الإشارة إلى أن هذا العمل الذي يمارسه الإنسان، مصحوباً بالنيّة، لا يتحوّل بذلك إلى عمل دينيّ، ولا يكتسب قداسة في ذاته، بل يظلّ عملاً بشـرياً، ويكون الجزاء عليه، والتمييز بين ما كان لله وما كان لغيره، للحساب الأخرويّ، وعند الله – سبحانه – وحده..

وبالطبع فلا حاجة إلى التأكيد بأن هذه الرؤية ليست شيئاً غريباً، أو جديداً، نقول به([1]).. فهذا التمييز بين العمل الديني والدنيوي هو أمر مشهود ومعروف عند المسلمين. وقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يدركون ذلك على البداهة، وكانوا يميّزون بين أفعال الرسول – صلى الله عليه وسلم-، ويسألون فيما إذا كان هذا الفعل أو ذاك وحياً، أو هو من اجتهاد الرسول، وفعله البشريّ([2]).

ونستطيع أن نلحظ مثل هذا التمييز بين هذين المستويين، في القرآن الكريم، في تأكيده المستمّر على بشريّة (الرسول)، وأنه لا يمتاز عليهم إلا بوظيفة تبليغ الدين (الوحي).. وقد رأينا أن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يميّز بين هذين الميدانين في كثير من المواقف والأحوال، رغم التداخل الشديد الذي تفرضه طبيعة الدين!.. رأينا ذلك في (بدر)، يوم أنْ سأله الحُبَاب بن المنذر: أمنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟!.. فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.. فاقترح الحُبَاب آنذاك الانتقال من ذاك الموضع إلى موضع آخر، في الرواية المعروفة.. ورأينا ذلك في قصّة تأبير النخل المشهورة، يوم أنْ قال (صلى الله عليه وسلم): أنتم أعلم بأمور دنياكم! إلى غير ذلك ممّا يطول استقصاؤه. وهو الأمر الذي فقهه الصحابة جيّداً، يوم أنْ قدّموا أمر تدبير شؤون الأمّة حتّى على دفنه (صلى الله عليه وسلم)، فراحوا يبحثون أمر خلافته، وجثمانه لمّا يزل مسجّى بين أيدي المسلمين! ويومَ أنْ قاتلوا القبائل العربية المرتدّة، التي نزعت يد طاعتها للدولة الجديدة، بعد وفاة مؤسّسها الأول، حتى أعادوها إلى حظيرة الطاعة! ويومَ أنْ راحوا يوسّعون رقعة الدولة الجديدة شرقاً وغرباً، مع أنْ الدين لا يُفرض بالقوّة، وهو القائل: {لا إكراه في الدين}! وهكذا، نجد هذا التمييز واضحاً بين متطلّبات الدين، وضرورات السياسة، والدنيا، عند المسلمين الأوائل.

فهذان الميدانان، مع اختلافهما، وتمايزهما – فأحدهما مقدّس، وديني، والآخر دنيويّ، وبشـريّ- ولكنهما، في النهاية، يظلان في دائرة الدين، من حيث كون العمل الدنيوي نفسه يتحوّل عبادة يكتسب المرء من ورائها أجراً في الآخرة. ولكن العمل الدنيوي – مع ذلك – لا يكتسب بذلك قداسة، ويظلّ عملاً دنيوياً، قابلاً للصواب والخطأ، ولا ينبغي إلباسه لباس الدين، بل يجب التمييز بينهما..

لأنّ العمل السياسي – على سبيل المثال، وكنموذج للعمل الدنيوي – لو ألبس لباس الدين، فإننا نكون بذلك قد أضفينا عليه طابع القداسة، وأخرجناه من دائرة الخطأ والصواب، إلى دائرة العصمة والتقديس، ونكون بذلك قد خلطنا بين دائرتي الديني والدنيوي، والمقدّس والبشري، وافتئتنا على الله، إذ نسبنا إليه ما هو من كسب أيدينا، وألبسناه لباس الدين([3])..

 

 

الرسول: أيقونة الوصل

اجتمعت عند رسول الله الوظيفتان الدينية والدنيوية، السياسية والدعوية، فكان (عليه الصلاة والسلام) نبياً، وكان في الوقت نفسه قائد المسلمين، وإمامهم.. وهو أمر كان طبيعياً، ومفهوماً، بحكم موقعه الديني والدنيوي، كرسول يوحى إليه من الله.. وكان الصحابة يدركون، ويميّزون، بين هذين الموقعين، ويحسنون التعامل معهما، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

وبعد وفاة رسول الله، اتّفق المسلمون على اختيار خليفة له، لإدارة شؤون المسلمين، والدعوة الوليدة. وكان المسلمون يدركون أن هذه الخلافة إنما هي خلافة للنبيّ في شؤون الدنيا، وليست في أمور الدين([4])، فقد انقطع الوحي، وتمّ الدين، بوفاته (صلى الله عليه وسلم). وخلفاؤه (رضي الله عنهم) إنّما كانوا يخلفونه في قيادة المسلمين، ورعاية أمورهم الدنيوية، وليس في موقعه الديني، الذي كان شأناً خاصّاً به – عليه الصلاة والسلام-.. وهذا يدلّ – بوضوح – أنّ العمل السياسي للمسلمين، بعد وفاة النبي كان عملاً دنيوياً، ولم يكن عملاً دينياً، ولم تكن له قداسة من أيّ نوع، ولم يعتبر جزءاً من الدين، بل كان صورة من ممارساتهم الدنيوية، وبحسب الفقه والإدراك السياسي الذي كانوا يتميزون به آنذاك.

كما أنّ ذلك التمايز أخذ منحى الاختصاص بعد دولة الخلفاء الراشدين، حين استقلّ الخلفاء والسلاطين بشؤون السياسة والحكم وإدارة الدولة، وظلّ (الدين) متمثّلاً في العلماء، واجتهادهم، وفتاواهم، فكانت سلطتهم مستقلّة، وعصيّة على تدخلات وإملاءات السياسيين.. مع إنّ ذلك – بحكم العلاقة القوّية بين الدين والسياسة – لم يمنع الخلفاء الأمويين، ومن أتى بعدهم، من التدثّر برداء الدين، كي يبرّروا أفعالهم وممارساتهم، لأنّ الشـرعية الدينية كانت هي الأقوى والأقرب إلى كسب قلوب الناس، وسيوفهم.. وقد ازداد ذلك وضوحاً وقوّة في عهد الخلفاء العباسيين، الذين اعتبروا أنفسهم من أهل بيت النبوّة، وأضفوا على سلطتهم وشخصياتهم طابعاً من التأليه الديني لم يعرفه المسلمون في العصور السابقة، ولكنّه بحكم الأرضيّة الثقافية([5])، وبحكم قوّة العلاقة بين الدين والسياسة، وجد قبولاً وسكوتاً عليه من قبل العامّة والخاصّة، وأصبح جزءاً من تراث المسلمين([6]).. وقد استمرّت هذه العلاقة، وهذا التلازم القوي بين الدين والسياسة، في جميع مفاصل التاريخ السياسي للمسلمين بعد ذلك، حتى العصـر الحديث، وسقوط الخلافة العثمانية، وما تبعه من ظهور الدول القومية القطرية الحديثة، التي نادت بالليبرالية والعلمانية، ولكنها لم تتخلّ عن استغلال الدين، والتدثّر بردائه..

العلاقة بين الدعوة والسياسة:

بوفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) انتقل واجب تبليغ الدين إلى المسلمين أنفسهم. وهذه الدعوة، وهذا التبليغ – كما هو واضح – ليس تشريعاً جديداً، أو استكمالاً للدين، فالدين قد تمّ، والبناء قد اكتمل، ولكنّه نشر وتبليغ لأحكام وهداية هذا الدين إلى العالمين؛ إلى كل من بلغته دعوة الإسلام، في مشارق الأرض ومغاربها.. وقد تحدّد هذا الواجب صريحاً في العديد من آيات القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)آل عمران/104.

(قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)يوسف/108.

(فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)التوبة‌/122.

واجب التبليغ هذا – بحسب آيات القرآن الكريم – هو واجب على المسلمين جميعاً؛ كلّ حسب قدرته، وعلمه، ولكنّه واجب كفائي – كما قال علماء المسلمين –، بمعنى أنّه لو قام به البعض، سقط عن بقيّتهم، وليس من الواجبات العينية، التي لا تسقط عن الفرد المسلم إلا بتأديتها.. وآنذاك، فإنّ قيام بعض المسلمين بواجب الدعوة إلى الله، يعني أن غيرهم في حلّ من الانصراف إلى شؤون أخرى، من شؤون الحياة العديدة والمتنوعة، بما في ذلك شؤون السياسة، والحكم.. وعلى هذا، فلا إشكال شرعيّاً في أن ينصـرف بعض المسلمين إلى واجب الدعوة، وينصـرف آخرون إلى شؤون الحكم والسياسة..

وهنا نقول: إذا كان واجب الدعوة إلى الله واجباً على جميع المسلمين؛ بحيث إنهم إنْ لم يقوموا به، ويؤدّوه على وجهه، أثموا.. وإذا كان لا يمكن، ولا يجوز، وليس من طبائع الحياة أن ينصـرف المسلمون جميعاً إلى الدعوة ونشـر علوم الإسلام، لأنّ واجب الدعوة نفسه – كما ذكرنا – هو من الواجبات الكفائية، التي تسقط عن الباقين، إن قام بها البعض.. وإذا كانت كلّ حياة المسلم، وأعماله، يمكن أن تكون له بمثابة عبادة يؤجر عليها، إن ابتغى بها وجه الله..

إذن، وبناءً على المقدمات السابقة، فإننا نستطيع القول بأن كل أعمال المسلم يمكن أن تكون من باب الدعوة إلى الله، إنْ أخلص النيّة فيها لله، وقام بها إيماناً واحتساباً.. بمعنى أن الدعوة إلى الله ميدان واسع يشمل كلّ طرق الخير، وجميع ميادين الحياة، ولا يقتصر على الاشتغال بعلوم الدين، والدعوة إلى الإسلام (بالمعنى التخصّصي).. فالدعوة ليست شكلاً واحداً، أو صورة واحدة، وإنّما هي ميادين متعددة بتعدّد صور الحياة، تشمل كلّ عمل يؤديه الإنسان، إنْ قام به خالصاً لله، مبتغياً به وجهه([7])..

ومن هنا، نرى أن السياسة يمكن أن تكون وجهاً من وجوه الدعوة إلى الله.. وبهذا، فهما يمكن أنْ يتماهيا ويتّحدا.. ولكنّنا نعلم – من جهة أخرى – أن هذين الميدانين مختلفان: طبيعة، وأهدافاً، وميداناً، وحتّى أشخاصاً.. فهما مختلفان، من جهة، متّحدان متماهيان، من جهة أخرى.. وهذه هي الإشكالية التي يقوم عليها موضوع بحثنا: الاختلاف والتماهي بين الديني والسياسي، وهذا المزج والاشتباك بين الميدانين.. فهذه الطبيعة الدقيقة، والمتشابكة بين الميدانين الديني والدنيوي، الدعوي والسياسي، هي التي سهّلت المزج بينهما، تاريخياً، وجعلته من الإشكالات الفكرية، الحركية، المجتمعية، في العصـر الحديث([8])..

 

مشكلة الدعوة والسياسة عند الأحزاب والتيارات الإسلامية:

إذا نظرنا إلى تاريخ نشوء الحركات والتيارات الإسلامية الحديثة، سنجد أنه مرتبط بسقوط الخلافة العثمانية، وما ساد العالم الإسلامي بعدها من ذهول المسلمين بسبب ذلك، إذ افتقدوا المظلّة الإسلامية الجامعة، والكيان السياسي الموحّد.. وهكذا وجدنا أن (الإخوان المسلمين) هم أولى الحركات والتيارات الإسلامية الحديثة ظهوراً، حيث تأسست عام (1928)، بعد أعوام قليلة من سقوط الخلافة العثمانية..

وهكذا، فظهور هذه الحركات كان وليد ظروف وعوامل خاصّة، كان يعيشها العالم الإسلامي إذ ذاك.. ومن هنا، نجد أنّها اتّسمت بصفات وخصائص، بناءً على الهدف الذي تأسّست من أجله، وتأثّراً بالظروف التي نشأت فيها.

إن أحد الأسباب الرئيسة التي سبّبت نشوء إشكالية العلاقة الملتبسة بين هذه الحركات والتيارات، وبين مجتمعاتها، ينبع من نظرة هذه الحركات، للمجتمعات التي وجدت نفسها في ظلّها، والتي نشأت في أكنافها.. حيث رأت أنّها مجتمعات واقعة تحت الهيمنة الغربية الكافرة، وأنّ أصحاب السلطة فيها هم عملاء للأجنبي الكافر.. ومن هنا أفتوا بوجوب جهاد هؤلاء الحكّام، ومقاومتهم، لاستخلاص الحكم من أيديهم، والحكم بشـريعة الإسلام، التي أهملها هؤلاء، وعودة هذه الشعوب إلى التمسّك بدينها، وشعائرها..

وهذه الإشكالية لم تكن موجودة في عوالم المسلمين، قبل سقوط الدولة العثمانية، إذ لم يصنّف الحكّام المسلمون، مهما اقترفوا من ظلم وموبقات، على أنّهم موالون للأجنبيّ الكافر، وأنّ الجهاد ضدّهم جائز، أو واجب، لاستخلاص الحكم من أيديهم..

وهكذا وجدنا أنّ هذه الحركات والتيارات الإسلامية، تتّجه – شيئاً فشيئاً – إلى نوع من ادّعاء الطهورية، ولعب دور المخلّص والمنقذ، وحامل الرسالة الإلهية، في مقابل المجتمع الغافل، والمنحرف، والسلطة العميلة، والكافرة.. وذهبت إلى تجسيد الإسلام في جماعاتها، وإسقاط الآيات والأحكام عليها، دون أن تدّعي ذلك علناً، إذ من المعروف أن هذه الجماعات – في غالبيتها بالطبع – تقرّ بأنها جماعة من المسلمين، وليست جماعة المسلمين(([9]..

وبهذه الصورة أصبحت هذه الحركات والتيارات جزءاً من الحالة السياسية والفكرية والاجتماعية لمجتمعاتها، وأصبحت سبباً – من ضمن أسباب أخرى كثيرة بالطبع – في ظهور نوع من الصراع العنيف، والدائم، بينها وبين السلطات الحاكمة، والتيارات السياسية والفكرية الأخرى، التي لم تكن تؤمن بطريقة التفكير نفسها، من التيارات التي أصبحت تعرف بالتيارات الليبرالية والعلمانية، وغيرها..

وهكذا، أصبحت مجتمعات المسلمين تعاني من آثار هذا الصـراع، وتكاليفه الباهضة، بين هذين التيارين؛ اللذين تقاسما المجتمعات المسلمة، وجرّاها نحو الانقسام، والصـراع، ونوع من الحرب الأهليّة غير المعلنة..

ومثل هذه الحالة لم تكن موجودة من قبل عند المسلمين، إذ لم تعان مجتمعاتهم من تشرذم وانقسام فكري وحضاري بهذا الشكل في أيّ عصـر.. فلم يحدث قطّ أن انقسم المجتمع إلى جبهة إسلامية، في مقابل جبهة أخرى غير إسلامية.. فلم يكن علماء الدين، والمصلحون، وكلّ من يعمل في ميدان التوعية الدينية، ونشـر العلم الشـرعي، يعتبرون أنفسهم طبقة، أو جبهة مضادة، أو مخالفة لبقية المجتمع. بل على العكس، فإن هذه الفئات كانت دائماً على رأس كلّ حركة أو تقدّم، اجتماعي أو سياسي، وكانوا القادة والمقدّمين في كلّ ذلك([10]).

ويمكن إجمال الأسباب التي كانت وراء هذه الحالة فيما يلي:

1-      الهجمة الاستعمارية الغربية على العالم الإسلامي، وعدم وجود كيان إسلامي سياسي موحّد، بعد سقوط الخلافة العثمانية..

2- نشوء طبقة حاكمة في البلاد الإسلامية، تابعة للأجنبي، ومؤتمرة بأوامره، واتّباعها للقوانين والتشريعات الغربية، بدلاً من أحكام الشريعة الإسلامية.

3-  العاملان السابقان كانا الدافع لعدد من المخلصين للتفكير في كيفية الوقوف في وجه هذه الهجمة الاستعمارية، ووقف هذا التشتّت والانهزام الإسلامي، فكان ثمرة ذلك هو ظهور بعض الجمعيات والحركات الإسلامية، التي أخذت على عاتقها الدعوة إلى طرد الأجنبي، والعودة إلى الشريعة والتعاليم الإسلامية.

4-  وهكذا، تطوّرت هذه الحالة، شيئاً فشيئاً، إلى ما نراه اليوم، حيث نجد أنّ الذين ينادون بحكم الشـريعة، ويمارسون السياسة باسم الإسلام، يمثّلون أحزاباً سياسية إسلامية، محدودة – مهما كان عدد أتباعها كبيراً – مقارنة بجمهور الأمّة، وعموم الشعب، في أيّ قطر من الأقطار الإسلامية.. وهكذا نجد أنّ هذه الأحزاب والحركات التي تعمل تحت راية الإسلام، وتحمل اسمه، هي حركات لها تاريخها الخاص، ولها رجالاتها، وأعلامها، بل لها فنّها، وأدبها، واقتصادها، وعلومها، الخاصّة.. وفي المقابل، لعموم المجتمع: رجالاته، وتاريخه، وفنونه، وآدابه، واقتصاده..

وباختصار: أصبح الإسلام، والحالة الإسلامية، يتمثّل في قالب أحزاب وتيارات، بدل أن يكون ملكاً لجميع طوائف وأبناء الشعب.. ووضع الإسلام – بوصفه ديناً ورؤية للحياة – في قلب الصـراع السياسي، وأصبح يمثّل تياراً، وأحزاباً، في مقابل تيارات وأحزاب مضادة.. وهذا ما جعل الإسلام نفسه – أمام أنظار جماهير هذه الأحزاب، وأمام أنظار أصحاب السلطة- بمثابة الخصم والمنافس.. ممّا ولّد حالة غريبة: فبدلاً من أن يكون الإسلام، هو الدين والحاضنة الفكرية والروحية لطوائف المجتمع كافة، أصبح العدو والمنافس، والممثّل لطوائف معلومة، وأحزاب وتيارات خاصة، تدّعي تمثيله.. فكأنّنا أمام حالة انقسام للمجتمع والدولة إلى فسطاطين (بالتعبير الذي استعمله بن لادن)؛ فسطاط الإسلاميين، وفسطاط غيرهم، الذي يضمّ كل من لا يؤمن، ولا يسير على النهج والطريقة التي تدعو إليها هذه الأحزاب والحركات الإسلامية([11])..

أسباب هذه الحالة، كما ذكرنا، هي الأوضاع غير الطبيعية التي مرّ بها العالم الإسلامي، بعد سقوط الخلافة العثمانية، واحتلال الأقطار الإسلامية من قبل الدول الغربية الاستعمارية، وما نتج عن ذلك من ردود فعل، أدّت إلى هذا الاستقطاب المجتمعي الذي تعيشه البلاد الإسلامية لحدّ اليوم.. حيث ظهرت، شيئاً فشيئاً، حركات وأحزاب إسلامية، واتّجاهات، تدعو إلى حاكميّة الله، وجاهليّة المجتمع، وعودة (الخلافة)، ممّا نتج عنه هذه الحالة المجتمعية، التي لم ير لها المسلمون من قبل مثيلاّ لها في تاريخهم: انقسام مجتمعاتهم إلى طائفتين، أو فسطاطين: إسلامي، وغير إسلامي، وتحوّل الإسلام إلى ماركة وعلامة فارقة، لبعض الأحزاب، والتيارات، والحركات، دون بقيّة المجتمع والناس.. وهذه حالة غريبة – كما قلنا-، وغير مسبوقة من قبل، انقلب الإسلام فيها من أن يكون سبباً للحمة الأوطان والمجتمعات، إلى كونه بؤرة للانقسام، وموطناً للنزاع.. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الوجه القمعي، الأمني، للدولة القطرية الحديثة، وانسداد الأفق السياسي، وشيوع أجواء الاستبداد والدكتاتورية، هو الوجه الآخر للمعادلة.. وهو الوجه الذي يتحمل المسؤولية الأكبر عمّا آلت إليه الأوضاع في العالم العربي، والإسلامي، على كل الأصعدة.

العلاج وكيفية الخروج من هذه الحالة:

بالطبع ليس ثمة حلّ سحري عاجل للخروج من مثل هذه الأزمة المجتمعية – الحضارية، التي يعيشها العالم الإسلامي.. ولكن مجرد الإقرار بأننا نعيش أزمة على مستوى المفاهيم، وآليات التفكير، يمكن أن يعيننا على تلمّس آثار الحل.. وفيما يلي بعض الرؤى والأفكار التي أظنّها تساعد في تلمّس الطريق:

أوّلاً: إن الاهتمام بالشأن العام – بما في ذلك الوصول إلى السلطة، والصراع عليها، وكل ما يتعلق بذلك – هو أمر يخصّ أفراد المجتمع جميعاً، لأنه يمسّ حياتهم بكافة تفاصيلها. ومن هنا، فلا بد أن يكون ميداناً متاحاً، ومفتوحاً، لكلّ من يرغب، أو يستطيع المنافسة فيه، ولا بدّ من تحريره، وعدم احتكاره من قبل أحزاب معيّنة، أو طبقة، أو عائلات، محدّدة، بحيث يستطيع كلّ إنسان أن يدخل هذا الميدان، وينافس عليه.. أيْ أن تصبح السياسة شأناً عامّاً، وينتهي احتكارها([12]).. وعندما تتحرّر السياسة من الاحتكار والظلم والتسلّط والدكتاتورية، وتصبح ميداناً مفتوحاً لخدمة الوطن والمنافسة فيه، فإن الدين آنذاك سوف يتحرّر أيضاً، ولا يعود يستغلّ من قبل السلطة، ولا من قبل غيرهم، ويعود من جديد تلك الأرضية التي يقف عليها الجميع، واللحمة الاجتماعية التي تربط الكافة..

إن المشكل التاريخي الحضاري الذي واجهته جميع الأديان، هو أنها على أرض الواقع، وبحكم مفارقتها للسلطة السياسية، غالباً ما تصبح سلاحاً بيد هذه السلطة، ووسيلة لها، تستغلها لتثبيت أركانها، وتغييب الشعب عن حقوقه وحرياته.. ولن ينتهي هذا الإشكال الحضاري إلا في ظل استغناء السلطة عن خدمات الدين، وهو ما لن يتحقق إلا في ظل أنظمة شرعية، لا تتوسل إلى البقاء في السلطة باستغلال الدين، أو غيره، وإنما تعتمد على رأي الشعب وإرادته، وتستمد شرعيتها منه..

إن السلطة السياسية إنما تتمسح بالدين، وتتفنن في استغلاله، بحثاً عن شرعيتها المفقودة، أو المهزوزة.. ويوم أن تعي، وتتيقن أن شرعيتها إنما تستمد من الشعب، لا من غيره، وأن تمسحها بالدين لن يزيد في عمرها، فإنها آنذاك لن تفكر في اللجوء إلى الاحتماء بالدين، والتستر في ظلاله، بل ستعتمد على برامجها، وإنجازاتها.. فهي علاقة جدلية بين السياسة، والدين، لن تنفك عن إنتاج آثارها سلباً، ما لم تنظّم عبر آليات تعود بالخير والنفع على الجميع.

ثانياً: معلوم أن الدين إنما أنزل لتحقيق مصالح العباد.. وأن الله أرسل الرسل، وأنزل الدين، لهداية الإنسان، والارتقاء به، وإعداده للقيام بمهمته في استعمار الأرض، وخلافته – سبحانه – فيها.. ولكن الشيطان، وأعوانه من شياطين الإنس؛ من الطغاة، والمستبدين، والفاسدين، وقفوا لذلك بالمرصاد، تحريفاً، ومعاداة، وقاموا بتشويه حقائق الدين، واستغلالها من أجل تحقيق أهدافهم، ومآربهم.. ووظفوا الدين في خدمة مصالحهم، بدلاً من أن يكون في خدمة مصالح الناس، وذلك عبر تسخير علمائه، وطرائق فهمه، ووضعها في ركاب سلطانهم.. فبدلاً من أن يقوم الدين بدوره في خدمة الإنسان، والارتقاء بروحه، وحياته – بجوانبها المعنوية والمادية- يتمّ تسخير الدين ليكون خادماً للملأ، والمتنفذين، وأصحاب السلطان.. وقد شهد التاريخ الإسلامي، وغيره، من قبل ومن بعد، فصولاً طويلة من استغلال الدين، وزجّه في الصراعات، والحروب، التي لم يرد بها وجه الله..

ومن هنا، تأتي ضرورة الدعوة إلى النأي بالدين من أن يكون ميداناً للصـراع السياسي، ووقوداً له.. وضرورة إخراج الإسلام، والدعوة الإسلامية، من تحت هيمنة السياسة، واستغلالها.. بمعنى: تحرير الإسلام، والدعوة، من قبضة السلطة السياسية، وشباك مصالحها..

إن الله – سبحانه – لم يرد لدينه أن يكون في خدمة سلاطين الأرض، وطغاتها، ولا أوكل إليهم أمر حمايته، وتدبيره.. فالإسلام ملك للأمة كلّها، وليس اسماً وعنواناً لطائفة منها، وهي الموكلة به، والحفيظة عليه.. ولهذا تكتسب مسألة تحرير الدين من قبضة السياسة، وهيمنتها، أهميتها القصوى..

ثالثاً: إن الوجهين آنفي الذكر: تحرير السياسة من الوقوع في شرك الاستبداد، ومنعها من استغلال الدين، وذلك بتأسيس الأنظمة الشرعية، المشروعة.. وتحرير الدين من سطوة السياسة، واستغلال السياسيين، وذلك بوضع الدين، وعلمائه، ومؤسساته، في موقع الحصانة من الاستغلال.. هذان الوجهان يكملان بعضهما البعض، ولا بد من توفير الأرضية التي يمكن فيها تحقيق ذلك، وهو الأمر الذي يحتاج إلى الكثير من الجهود والتضحيات، لأن السياسة ما فتأت – على امتداد التاريخ القديم والحديث – تستغل الدين، ولن تكف عن ذلك، إلا إذا تيقنت ألا جدوى في ذلك..

رابعاً: كان الدين – وما زال – هو المتضرر الأكبر من عملية الاستغلال هذه، حيث حرّفت أهدافه، وغاياته السامية، وبدلاً من أن يكون الناس أخوة، يعبدون ربّاً واحداً، رحيماً، نجد أن السياسة ملأت الأرض بالدماء، والفساد، وجعلت من الدين نفسه راية وعنواناً لجرائمها، فهي تمارسها باسمه، وتحت رايته.. وهذه هي جناية الإنسان على الدين.. ولا بد من إنهاء هذا الاستغلال للدين، سواء من جانب من يتصدّون لتعليمه، وتبليغه، أم من جانب المؤسسات التي تقوم باسمه، أم من جانب السلطات الحاكمة..

خامساً: إن الحركات والأحزاب الإسلامية مدعوّة اليوم إلى الاختيار بين أمرين: أن تتحوّل إلى حركات ضغط اجتماعي، تعتني بشؤون الدعوة والدين، دون الدخول في سباق الصراعات السياسية، وتترك لأفرادها حرّية المشاركة السياسية، من عدمها. وبذلك تتحوّل إلى حركات غير أيديولوجية، جامعة لمختلف أطياف الناس، على اختلاف توجهاتهم السياسية، وذلك لخدمة أهداف الدين، في التوجيه والهداية..

أو أن تنصرف إلى العمل السياسي كليّة([13])، وتترك ميدان الدين، والدعوة، لأهله المختصّين به، من العلماء، والمصلحين، والدعاة، وكلّ من يجد في نفسه القدرة والأهلية على العمل في هذا الميدان([14]).. وليس هذا من باب الإيمان بالفصل بين الديني والدنيوي، ولكنّه من باب الضرورة العملية، والتخصّص الوظيفي، إذ لن تستقر المجتمعات ما لم يتم تحرير الدين من هيمنة السياسيين، وسطوتهم، ونزع قداسة الدين عن السياسة، ورموزها، وأعمالها، وبرامجها.

سادساً: إن العمل بهذين الاتجاهين: تحرير الدين من السياسة، وتحرير السياسة من الاحتكار والدكتاتورية، ونزع تدثّرها بالدين، هو السبيل أمام مجتمعات المسلمين للخروج من وهدة الاستقطاب المجتمعي، والصـراعات والانقسامات بين السلطة والمجتمع، بما يؤهّلها لمواصلة السير على طريق النهضة، واستعادة زمام التقدّم والتطوّر..

وإذا كان واجب الحركات الإسلامية في هذه المعادلة واضحاً ومطروحاً، ومطلوباً، فإن الواجب المقابل له – واجب السلطة، وأنظمة الحكم – يبدو أقلّ وضوحاً، وحضوراً، بل وعصيّاً على التطبيق، لأنّه يستند إلى تراث وتاريخ طويل من الاستبداد، والدولة السلطانية، فضلاً عن الدعم الغربيّ لهذا النوع من الأنظمة، الذي يحقّق لها مطامعها في الخضوع والتبعيّة، والوقوف في وجه كل نزعات الاستقلال الحضاريّ، أو الثقافيّ..

ولكن المبادرة، ونزع فتيل الأزمة، لا بد أن يبدأ من الحركات الإسلاميّة، إذ هي رائدة القوم، والحريصة على تحقيق التقدّم والتطوّر لبلدانها. فلا بدّ من أن تبادر إلى تبنّي حلول تحقّق مصلحة مجتمعاتها، ومصلحة الأمّة الإسلامية، على المدى الطويل..

وإذا كانت الضـرورة التاريخية، هي التي فرضت، وأوجبت، ظهور هذه الحركات، في لحظة تاريخية معينة، على الشكل والرؤية الحالية.. فإن الواجب التاريخي والحضاري اليوم، يدعوها إلى مراجعة هذه المسيرة، وإعادة تقييم حسابات الربح والخسارة، وفكّ الارتباط الذي وقع بين العمل الديني والسياسي، والانصراف إلى خدمة الأوطان، وكرامة الإنسان، ليس بترك السياسة لأهلها – كما يقال – ولكن بتوسيد الأمر إلى أهله، وتمييز ميادين العمل عن بعضها البعض؛ دون احتكار من قبل البعض، ولا استغلال للدين، من قبل آخرين..

إن العالم الإسلامي، ما لم يتمكن من معالجة آثار هذه الحالة من الانقسام المجتمعي بين أناس يعملون للدين، وباسمه، وآخرون يعملون للدنيا.. وما لم يوازن العلاقة الملتبسة بين السياسة والدين.. فإنّ حالة التعثّر الحضاري مرشحة للاستمرار طويلاً..

وعوداً على بدء نذكّر ببعض المسائل المرتبطة:

1-      ذكرنا أن السياسة من الأمور الدنيويّة البشريّة المتغيّرة، ولكن لا بدّ من التذكير بأن الدعوة إلى الله هي الأخرى من الشؤون الدنيوية المتغيّرة، بمعنى أن الدعوة إلى الله لا تكتسب – من حيث تعلّقها بالدين – أيّ قداسة، وتظلّ شأناً بشـريّاً دنيويّاً، لأنّها – في النهاية – عمل وجهد بشـريّ، يجوز فيه السهو والنسيان والتقصير، وليست له قداسة من أيّ نوع.. نعم، واجب الدعوة شأن ديني أوجبه الله سبحانه على المسلمين، ولكن تطبيقه، وتنفيذه، والقيام به، شأن بشـريّ بامتياز، ليست له قداسة الدين، ولا عصمته..

2-      الدعوة إلى الله – كما أشرنا من قبل – لا تتخذ شكلاً واحداً، ولا طريقة واحدة، وإنّما هي طرق متعدّدة، ووسائل متغيّرة، لا تقف عند شكل، أو أسلوب، أو طريقة معيّنة. فكلّ عمل بشريّ يؤدّي إلى هداية النّاس، وتقريبهم إلى الله سبحانه، والإيمان به، فهو دعوة في الصميم، بما في ذلك العمل السياسي.. بل إن السياسة، والعمل السياسي، والسياسيين، يمكن أن يؤدّوا ذلك الواجب، ويسهّلوا طريقه، بآليات ووسائل لا تتوافر لدى غيرهم، عن طريق القدوة، والتوجيه، ومناهج التربية، وغير ذلك..

3-      تختلف السياسة والدين، والعمل الحزبي والدعوة، وتتمايز، من حيث الوظيفة، وميدان العمل، وطرائقه.. وإلا فإن الدين والسياسة – كما ذكرنا من قبل – هما وجهان لعملة واحدة.. ولم يأت الدين إلا لهداية الإنسان، وتوجيهه، وتربيته، وتقويمه، ولا يهمّ موقع هذا الإنسان، أو مكانته، أو عمله، فإنْ كان ذا سلطة، ومكانة سياسية، فإن واجبه والتزامه الديني لا يزول، بل على العكس فهو مطالب – مثل غيره – بكلّ ما جاء به الدين، بل هو مطالب – بحكم موقعه – بالمزيد، ليكون قدوة للآخرين.. بمعنى أن السياسي ليس فقط غير معفى من الالتزام الديني، بل يجب أن يكون في المقدّمة، وذلك لأنه في موقع القدوة، والمسؤولية، والنموذج، عند الآخرين.. إذن، فالإنسان السياسي، يجب أن يكون صاحب خلق ودين.. وهو من هذه الناحية مطالب أكثر من غيره.. ولكن ميدان عمله، هو المتميّز والمختلف عن ميدان الدعوة (بالمعنى الاختصاصي).

4-      العمل السياسي هو عمل دنيوي بشـري، كما أسلفنا، وكل عمل يؤدّيه السياسي، ويقوم به، يجب أن يؤدّيه باسمه، وعلى ذمّته، وليس باسم الله، أو الدين.. فهو ليس موكّلاً من قبل الله، ولا ممثّلاً للدين، للقيام بعمله، وإنّما هو وكيل للمسلمين، وممثّل عنهم، وعليه أن يقوم بعمله باسمه هو، وهو المسؤول عن عمله أمام المسلمين في الدنيا، وأمام الله سبحانه في الآخرة.. فالعمل السياسي من هذا الوجه هو شيء غير الدين، وهو متميّز، ومختلف عنه.. وهذا المعنى معروف، ومشهور، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال: “فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك”([15]).

5-      عندما نتحدّث عن اختلاف، وتميّز، العمل السياسي عن الدين، نقصد أن العمل السياسي هو عمل وجهد بشري، متغيّر، لا قداسة له، ولا يجوز ربطه بالإسلام والدين، أو تحميلهما مسؤوليته، فهو مسؤولية أصحابه، والقائمين به، وهم المسؤولون عنه.. وهذا بالطبع لا يعني أن الدين والسياسة لا علاقة بينهما، ولا رابط، كما أوضحنا من قبل..

6-      أمّا الدعوة إلى الله، فهي الأخرى – كما ذكرنا – وإنْ كانت تنبع من الدين – كواجب -، وتدعو إليه، فإنها تظلّ عملاً بشـرياً، لا يتمتع بقداسة، ولا يعتبر جزءاً من الدين.. وبالتالي، فإن العمل الدعوي، وكذلك العمل السياسي، أو الحزبي، عملان بشـريان، متغيّران، يسأل عنهما أصحابهما، وليست لهما قداسة، ويمارسان باسم أصحابهما، والقائمين عليهما.. وإنْ كانا يختلفان من حيث ميدان العمل، وأساليبه، وطرائقه، والهدف منه.. ولا يجب الخلط بينهما، حيث إن ذلك يؤدّي دائماً إلى سيطرة السياسي على الدعوي، وتوجيهه، واستغلاله من قبل أصحاب السلطة والنفوذ..

7-      إنّ الفصل بين الميدانين الديني والسياسي هو إبداع إسلامي، وليس من نتاج الحداثة، أو الفكر السياسي الغربي، وتاريخ المسلمين شاهد على هذه الحقيقة، حيث لم يضفوا صفة القداسة على خلفائهم وحكامهم، ولم يحكموا باسم الله، أو الدين، بل حكموا بأسمائهم، وكانوا هم المسؤولين عن أعمالهم، وليس الله، أو الإسلام..

ولكن يجب أن لا ننسى أيضاً، أن المسلمين كانوا بشراً يعيشون بين البشر، ويتأثّرون بما حولهم، ولم يكونوا بمنأى – بحكم بشريّتهم – عن التأثّر بثقافة جيرانهم، وحضارتهم، والوقوع تحت تأثير جبر التاريخ، وإكراهات الواقع.. ولذلك نرى أن النزوع نحو تقديس السلطة، والقائمين عليها، وجد بين المسلمين، ولم يكونوا بعيدين عن ذلك.. وما تزال السلطات الحاكمة (العلمانية)، فضلاً عن الحركات التي تعمل في الميدان السياسي باسم الإسلام، تتمسح بالدين، وتحاول أن تلبس لبوسه، لكي تضفي على أعمالها، وبرامجها، شيئاً من قداسة الدين، وجاذبيته..

8-  وأخيراً، فإن هذه دعوة إلى الحركات والأحزاب الإسلامية، ليس لاعتزال السياسة، أو هجرها، وإنما إلى تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة.. وإذا كان الكلام موجهاً إليها، فلأنها حامل الراية، ورائد القوم، ولا بد للدخول أن يكون من الأبواب، إنْ أريد له النجاح والدوام..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1])  يتميّز الإسلام بوصفه ديناً يربط الجانب الروحي والمادي، في حياة الإنسان، وأفعاله، في وحدة واحدة، دون تمييز بينهما.. على عكس الأديان الأخرى، التي تقيم حداً فاصلاً بين ما هو ديني، وما هو دنيوي، فتعطي ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.. وأجمل من كتب عن هذه الوحدة التي تميّز الإسلام عن بقية الأديان هو المفكر البوسني الراحل (علي عزت بيكوفيتش)، في كتابه الرائع: (الإسلام بين الشرق والغرب)، حيث يسمّي هذا التميّز الإسلامي بـ (الوحدة ثنائية القطب).. انظر ص 271 فما بعدها من الكتاب، ط1، 1994، مؤسسة العلم الحديث، بيروت.

([2]) التمييز بين أفعال الرسول، وتصرفاته، إلى تصرفات تشريعية، وغير تشريعية، هو علم معروف، أشهر من كتب عنه من علمائنا الأقدمين: شهاب الدين القرافي، في كتابه (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام). وانظر في ذلك – إن شئت – كتاب (الدين والسياسة تمييز لا فصل)، للدكتور سعد الدين العثماني، دار الكلمة للنشر والتوزيع، مصر، ط6، 2015. ص12 فما بعدها.

([3])  تجدر الإشارة هنا إلى أن كلامنا في هذا المقال لا يستهدف إثبات الانفصال، أو الانفصام، بين الديني والدنيوي. فالإسلام -كما أشرنا من قبل- يتميّز بأنه جمع بينهما في (وحدة ثنائية القطب) – حسب عبارة (بيكوفيتش)- على عكس النظرة المسيحية، التي تتميز بوضع حدود فاصلة بين الجانبين، فهما شأنان: ديني وزمني، وتختص الكنيسة، ورجالها، بتفسير الدين، ورعاية شؤونه. وقد امتدّ ذلك، تاريخياً، واستبدّت الكنيسة لا بتفسير الدين فحسب، بل بالسيطرة على مجمل شؤون الدنيا كذلك.. وغدا الملوك يحكمون باسم الإله.. حتى تبلورت ردّة الفعل فيما عرف بحركة الإصلاح الديني، والتنوير، ومن بعدها الثورات التي اجتاحت أوروبا ضد سلطة الكنيسة، والدين..  انظر: في العلمانية والدين والديمقراطية، رفيق عبد السلام، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 1429هـ- 2008م، ص 99 فما بعدها.

([4]) عندما ننفي هنا أن تكون خلافة الرسول في أمور الدين، ونحصرها في شؤون الدنيا، فإنما نقصد أن الإسلام من حيث هو دين قد تم واكتمل على يد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكل من أتى بعده فهو تبع له، وليس مستقلاً في أمر الدين بشيء.. ولا ينفي ذلك ما جرى عليه الصحابة، والمسلمون بعدهم، من قيام الخلفاء بإمامة المسلمين في الصلاة، والخطبة فيهم أيام الجمعة والأعياد، وغيرها، فهذه وظائف قام بها الخلفاء الأولون بحكم بساطة الحياة، وعدم وضوح التمييز بين الوظيفة السياسية والدينية في بداية الأمر، وقد تخلى الخلفاء عن كثير من هذه الوظائف، فيما بعد، شيئاً فشيئاً.

([5])  والحقّ أنّنا يجب أن ننتبه إلى أن الخلط بين الديني والسياسي، قبل ظهور الإسلام، كان أمراً شائعاً، وكانت الملوك والسلاطين (كما كان عند فراعنة مصر، وأكاسرة الفرس، وغيرهم)، تدّعي أن لها مكانة مقدّسة، وأن سلالاتها هي ذات مكانة وارتباط بالآلهة، وكانوا يدّعون أنّهم أبناء الإله، بل كان بعضهم يدّعي الألوهية لنفسه، وكانوا يعتبرون أنفسهم من طينة أخرى غير طينة عامّة الناس. وبذلك كانوا فوق المحاسبة، والنقد، وكانت أعمالهم تتّصف بالقداسة، ولا تحتمل النقد والمراجعة..  وهذه النظرية، التي تبلورت فيما بعد في الفكر السياسي الغربي، فيما عرف بنظرية الحقّ الإلهي، هي التي كانت وراء ردّ الفعل العنيف الذي اتخذه الفكر السياسي الغربي إزاء مسألة الفصل الحادّ بين الديني والسياسي، فيما عرف بـ (العلمانية)، نظراً للدور السلبي السيء الذي قامت به الكنيسة المسيحية، ورجالها، في العصور الوسطى..

([6]) يشير المفكر الإسلامي المعروف (د. محمد عمارة)، في كتابه (المعتزلة وأصول الحكم)، إلى أن جذور هذا المزج الذي حصل بين الدين والسياسة قد تسرب إلى مفكري أهل السنة والجماعة تأثّراً بالفكر الشيعي، حيث كانوا في نزاع وصراع معه، ولكنهم تأثروا به من حيث لا يريدون.. انظر: المعتزلة وأصول الحكم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1977، ص 230 فما بعد.

([7]) وبهذا المعنى، فإن هذا يعني أن الفرد، أو الحزب، الذي يمارس السياسة بمعناها المعاصر، ليس بعيداً عن الدين، بل هو يمارس عملاً دعوياً في الصميم، إن أراد به وجه الله ورضاه.. نقول هذا لنثبت إننا من حيث نقول بالفصل بين الوظيفتين، عملياً، وعلى أرض الواقع، فإنهما من جهة أخرى، ومن حيث ارتباط العبد بربّه، ليستا منفصلتين، بل وكما أن الدنيا مزرعة الآخرة، فإن السياسة يمكن أن تكون طريق كثيرين إلى الجنة.. فهناك فصل وظيفي، من جهة، وهناك وصل ديني، أخرويّ، من جهة أخرى.. دون أن يعطي ذلك أيّ نوع من القداسة، أو الصبغة الدينية، للعمل أو الممارسة السياسية، التي تظل شأناً دنيوياً، متغيراً.. وهذا من الوضوح بمكان، حسب الرؤية الإسلامية.. وبعبارة أخرى: فإن الإسلام إذ يربط الدنيا بالآخرة، ويجعل من الدنيا جسراً وطريقاً إلى الآخرة، وإذ يجعل من الدنيا كلها مسجداً وطهوراً، ولا يحصر العبادة والصلاة في مكان مقدس، منعزل، بل يجعل من المسجد نفسه ميداناً للسياسة والحكم، وللتعليم وللتربية، فمنه تعقد البيعة للخلفاء، وفيه تعقدحلقات العلم والدراسة، وهكذا.. إن الإسلام إذ يربط الدين والدنيا معاً، فإنه – في الوقت نفسه – يرشدنا إلى أن أمور الدنيا هي شيء متميز عن أمور الدين، ومن هنا قوله عليه السلام: (إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ) (رواه مسلم).. فهي مستويات متداخلة، تلتقي في بعضها، وتتمايز في أخرى.. فالإسلام إذ يجمع بين الدين والدنيا، فهو يمهد للتمييز بينهما، وهو إذ يقول بالوصل بينهما، يهيئ للفصل.. بل لولا الوصل بين الدنيا والآخرة، لما أمكن التمييز، والفصل، بينهما.. بمعنى أن نظرة الإسلام التي تعتبر كل عمل ابن آدم عبادة، بل وتحصر مهمة الإنسان، ووجوده، في تحقيق العبادة.. هي التي تمهد، وتؤسس، لإمكان حصول التمايز، والفصل الوظيفي، بين الدين (بمعناه التعبدي النسكي)، وبين سائر نشاطات الإنسان، وأعماله.

([8]) ويمكن الإشارة هنا إلى تعريف (ابن عقيل) للسياسة، كما ينقل عنه (ابن القيم)، إذ يقول: “السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد ، وإنْ لم يشرّعه الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ولا نزل به وحي؛ فإنْ أردت بقولك (لا سياسة إلا ما وافق الشـرع)، أيْ لم يخالف ما نطق به الشـرع، فصحيح. وإنْ أردت ما نطق به الشـرع، فغلط، وتغليط للصحابة”.. فمن هذا التعريف يتّضح أن السياسة ليست هي الشرع (الدين)، ولكنها أفعال تتوخى المصلحة.. فهي شيء غير الشرع، ولكنها لكي تكون شرعية، يجب أن لا تخالفه..

([9])  ولذلك جمعت بين العمل السياسي والعمل الدعوي في مسيرتها، فكانت تعمل على الجهتين: تدعو إلى هداية الناس، وتطالب بعودتهم إلى الالتزام الإسلامي، من جهة.. وتنافس الآخرين على السياسة، والسلطة، وتحاول الوصول إلى السلطة والحكم.. فمزجت بين وظيفتين، وميدانين، وأوقعت الناس في حيرة من أمرها: أهم طلاب دنيا، أم طلاب آخرة؟.. وإذا كان الإسلام يجمع – على ما ذكرنا – بين الدنيا والآخرة، ويجعل من الدنيا جسراً وطريقاً إلى الآخرة، فهل يأتي ذلك بمعنى كسر الحواجز بين الميدانين، أم هو الجمع الإسلامي العبقري بينهما في وحدة واحدة، لا تناقض بينها؟.. وهل هذا الجمع الذي جاء به الإسلام، والذي أشرنا إلى بعض خصائصه فيما سبق، يعني أن يضفي حاكم المسلمين (أو قل: الأحزاب الإسلامية) على نفسه، وأعماله، وأحكامه، قداسة الدين؟.. أين – إذن – يبدأ هذا الجمع، والمزج بينهما، وأين ينتهي؟.. هذا هو ما نبغي الوصول إليه..

([10]) ربما تساءل البعض هنا: أنتم تنظّرون لتفرّغ علماء الدين لشؤون الدعوة، وعدم الزجّ بهم في شؤون السياسة، فكيف يستقيم كلامكم؟ فنقول: إن الدعوة إلى فصل أو تمييز العمل الدعوي عن السياسي، ليس بمعنى بناء جدار عازل بينهما، أو انتهاء أي علاقة، من أي نوع بينهما، فذلك غير عملي، وغير ممكن أصلاً.. ولكن المقصود هو أن يكون العمل السياسي عملاً بشرياً، دنيوياً، متغيّراً، ولا تضفى عليه قداسة الدين، ولا يمارس باسم الله. وأن يكون الدين بعيداً، ومصاناً، عن هيمنة السياسيين، وتدخلاتهم، ومحاولاتهم صبغ أعمالهم بصبغة الدين، وإصدار الفتاوى لصالحهم.

([11])  لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه الحالة الغريبة، التي قسّمت مجتمعات المسلمين المعاصرة إلى قسمين، وأجّجت الصراعات بينهم، هي أحد الأسباب الرئيسة في إنتاج الحالة المزرية، والتخلف الحضاري، الذي يعيشه العالم الإسلامي، في هذا العصـر.. وهي الحالة التي عبّر عنها مالك بن نبي بعبارته العبقرية الملهمة: القابلية للاستعمار.. هذه القابلية للاستعمار، وللتخلف، هي استعدادات مجتمعية، وثقافية، وحضارية، وليست جينات وراثية، وهي تجد بعض أسبابها العميقة في هذا الانقسام المجتمعي الحاد الذي تعيشه هذه المجتمعات اليوم.

([12])  عملياً لا يمكن التغافل عن أن حالة الاستبداد السياسي، والإرث العميق من الدكتاتورية، هي حالة راسخة يصعب تجاوزها، وخاصة أن القوى الكبرى في العالم اليوم تجيّر ذلك لصالحها، وتستثمره، في سبيل ديمومة مصالحها، وبقاء هذه المنطقة في تبعية دائمة لها.. ولكن ذلك – بالطبع – لا يعني الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع، بل لا بدّ من تغيير هذا الواقع، بكل ما يمكن من آليات العمل الحضاري، بمختلف صنوفه (فكرياً، وسياسياً، واجتماعياً، و… إلخ)..

([13])  إن ترك العمل الدعوي، والانصـراف إلى العمل السياسي، هو أحد الخيارات المتاحة أمام هذه الأحزاب التي تتبنى المرجعية الإسلامية، وهو خيار يرتبط بشكل مباشر، وقوي، بالضمانات الديمقراطية التي يمكن أن تكتنف الساحة السياسية، في العالمين العربي، والإسلامي، في ظل الدول (السلطانية) الحاكمة اليوم.. ومن جهة أخرى، فإن خيار الانصراف إلى العمل السياسي، هو خيار لم يكن متاحاً في السابق، ليس للبيئة الاستبدادية السائدة فحسب، وإنما لتعلق الأمر بأصل نشأة هذه الأحزاب، والأهداف التي قامت من أجلها.. فهناك تغيير جوهري قد طرأ على هذا الأصل، وتلك الأهداف، من حيث إن فكرة إعادة (الخلافة الإسلامية) لم تعد ذات جدوى أصلاً، وما عاد بالإمكان التفكير في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.. فهناك تغيّرات حضارية كبرى قد جرت في العالم الإسلامي، والعالم بأجمعه، بما يتطلب من هذه الحركات والأحزاب الإسلامية، مراجعة خطابها، وأهدافها، وآليات عملها.. وإذا كانت الفتوى تتغير زماناً ومكاناً، فلم تتمسك هذه الحركات والأحزاب بأفكار وآليات وأهداف كانت نتاجاً لظرف زمني وسياسي وحضاري معيّن، ومتغيّر؟!

([14])  لا بدّ أن نذكّر هنا بمفهوم الدعوة الذي أشرنا إليه من قبل: فكل عمل الإنسان هو دعوة إلى الله – بما في ذلك العمل السياسي نفسه – إن ابتغي به وجه الله، وكان خالصاً وصواباً.. وعلى ذلك، فلا يصح الاحتجاج علينا بالقول: ولماذا تريدون من الإسلاميين أن يتركوا ميدان الدعوة، وينصرفوا إلى السياسة؟ أو أن يقال: وكيف نترك السياسة، وإدارة الشأن العام، لغير الأيدي المتوضئة، وهل هي علمانية جديدة؟.. فنحن نطرح هذا كخيار، ومن باب التخصّص الوظيفي، وليس من باب الفصل بين الشأنين الديني والدنيوي..

([15])  صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، رقم الحديث 1731.