26 نوفمبر، 2024 7:13 م
Search
Close this search box.

في بيتنا جاسوس !!

عصر أحد أيام الخميس العام 1987 ذهبنا الى بيت أخي الكبير (جلسة سهرة).. وقبل تناول العشاء قررنا العودة الى بيتنا.. فقد انتابني قلقُ دون معرفة السبب.. وما أن دخلنا بيتنا حتى وجدنا الباب الخلفي مفتوحة.. وقد كسرت أقفالها وأثاث البيت مقلوباً رأساً على عقب.. طلبتُ من زوجتي وأبنائي عدم لمس أي شيء والخروج الى حديقة البيت.. واتصلتُ هاتفيا بصديق ليً في مديرية الشرطة العامة وأبلغتهُ بالحادث.. فأرسلً على الفور ثلاثة من ضباط الجريمة وكشف الدلالة وصوروا كل الاماكن.. التي يعتقد ان الجناة لامسوها.. ثم طلبوا مني تثبيت ما سرق.. وقد تبينً إن الجناة لم يسرقوا أي شيء !!
وإزاء ذلك تركت الشرطة الموضوع.. وحاولوا التهرب من القضية بشتى الطرق.. وذكر ليً حارس بيت محافظ اربيل المجاور لبيتي.. ان سيارة نصر المصرية الصنع كانت تسوقها شابة توقفت في المساء امام بيتي.. ونزلً منها شابان.. وبعد اكثر من ساعة خرجا الشابين من بيتي.. وانطلقت السيارة بسرعه تاركةً المنطقة.. وهو لا يقرأ ولا يكتب لهذا لم يستطع معرفة رقم السيارة ..
المهم في اليوم التالي أبلغني جاري عبد المنعم السامرائي مهندس الكترونيات وصوتيات ان مثل هذه العمليات تقوم بها الاجهزة الامنية لنصب كاميرات (صورة وصوت) غاية في الدقة والصغر وفي أماكن يصعب اكتشافها.. وقد أثار حديثه فزعي (خاصة انني كنتُ محالاً على التقاعد اوائل العام 1984.. وأنا في عنفوان نضجي الفكري والإنتاجي.. وكنتُ في الاربعينيات من عمري.. وعينتُ بعد ستة أشهر في مركز التوثيق الاعلامي لدول الخليج العربي على الملاك الدائم .. وبعد سنتين فرضوا على مدير عام المركز الدكتور جاسم محمد جرجيس.. انهاء خدماتي تحت ذريعة انني غير حزبي.. على الرغم من ان غالبية موظفي المركز غير حزبيين.. لأن هذا المركز منظمة اقليمية وليست عراقية.. عندها قدمتُ شكوى الى وزير الاعلام العراقي لطيف نصيف جاسم باعتباره رئيس مجلس ادارة المركز شارحاً فيه بأن انهاء خدماتي من المركز مخالف لنظام المركز.. أحال الوزير الطلب الى وكيله نوري المرسومي الذي هددني باعتقالي من قبل الامن العامة.. نظرتُ اليه وقلتُ له: (قطع الاعناق ولا قطع الارزاق).. فصرخ بوجهي : (تهددني) .. قلتُ له: نعم.. اهددك بالله وليس بغيره).. تركته ورجعتُ الى مكتب الوزير لأقابل .. فحدثني المرحوم الصديق طارق القيسي مدير مكتب الوزير بصوت منخفض: (دكتور اترك الموضوع.. والزرق بيد الله وليس بيد غيره).. تركتُ مكتب الوزير وفوضتُ أمري لرب العزة ..
اذن هناك جاسوس غير منظور في بيتنا يسجل كل كلماتنا وهمساتنا ودقات قلوبنا.. فعشنا في قلق دائم.. ولم نعد نتكلم داخل البيت في أي موضوع (وتصوروا انتم الحالة).. أخفينا الامر على أبنائي كي لا يرتعبوا.. وينعكس ذلك على دراستهم وحياتهم.. كما لم نبلغ أي أحد من أقرباءنا في هذا الموضوع.. فكرنا في بيع البيت وتغيير المكان.. لكنً ذلك لن يحل المشكلة.. فالذي نصب فيه كاميرات يستطيع أن ينصب في غيره ايضاً ..
وأخيراً جاء أخي بالحل السحري.. فبعنا كل أثاث البيت وكل شيء.. واشترينا اثاثاً بسيطاً.. وقمنا بتغليف أرضية البيت ودرجات السلم بالكاربت.. وتغليف الجدران بالورق اللاصق.. وجدران صالة الضيوف بالخشب الصاج.. وتغليف السقوف جميعها بالفلين.. وكل الحيطان الداخلية للحديقة بالإسمنت.. وبالرغم من كل هذه التغييرات بقيً الخوف يساورنا.. فما زال الجاسوس يعيش في بيتنا.. ولا نعرف مكانه ويلتقط لنا صورة وصوت ..
وهكذا انعزلنا عن العالم.. وحاولنا التهرب من زيارات الاهل والأقرباء الينا.. وكرهنا بيتنا (الجميل وفي أرقى مناطق بغداد).. وكنا نفر منه يومياً الى الحدائق العامة.. او التجوال في الشوارع والأسواق ..
وخوفاً من أن ينعكس هروبنا اليومي سلباً على دراسة أبنائي أجرتُ البيت لشركة مقاولات.. وأجرنا لنا بيت ليس بعيداً عن منطقتنا.. لكن ذلك لم يمنع قلقنا في كل شخص ينظر الينا.. أو من أية سيارة تسير خلفنا.. وعشنا فترة عصيبة لا يتصورها العقل ..
بعد سنتين عدنا الى بيتنا لانتقال شركة المقاولات الى مكان اخر.. وعلى الرغم من التحديثات الكبيرة التي أجرتها شركة المقاولات على البيت بناءً على موافقتي.. لكننا منذ الساعة الاولى لعودتنا الى بيتنا أخذ القلق والخوف ينتابنا من جديد ..
وزاد قلقي عندما سافرتُ الى ليبيا في أيلول العام 1997 للعمل كأستاذ جامعي هناك.. وأبقيتُ عائلتي في بغداد لإكمال الابناء دراساتهم.. فكنتُ كل يوم أتصل في البيت هاتفياً.. لأذكرهم بالجاسوس ويكونوا حذرين في تحركهم ..
وفي تموز العام 2001 عدتُ الى العراق كعادتي لقضاء العطلة الصيفية مع الاهل.. لكنني وجدتُ عائلتي في وضع نفسي يفرض بقائي معها.. فلم تعد العائلة تتحمل هذا الوضع البوليسي .. فأنهيتُ عقد عملي في ليبيا وبقيتُ في العراق ..
في ايار العام 2002 عينتُ عميداً للمعهد العربي العالي للدراسات التربوية والنفسية في بغداد.. وبعد شهرين أجبرتُ على ترك العمل بأمر من هاشم حسن شقيق علي كيمياوي.. الذي كان مسؤول الكليات الاهلية في حزب البعث.. وفرضوا خلف الدليمي عضو الجمعية التربوية والنفسية بدلاً عني عميداً للمعهد الذي يخرج ماجستير ودكتوراه.. وعميده الجديد لا يحمل لا الماجستير ولا الدكتوراه.. وليس تربوياً أو تدريسياً.. هذا هو الزمن الجميل كما يحلو للبعض تسميته ..
هكذا عشنا في قلق وخوف دائم ثلاثة وعشرون عاما !!.. لنبيع البيت واشترينا بيتاً أصغر منه حجماً.. وننتقل الى بيتنا الجديد قبل سقوط نظام صدام بعشرة اشهر ..

أحدث المقالات