في أحدى عصريات صيف العام 1980 كنتُ (أنا.. هادي حسن عليوي.. كاتب هذه المقالة) أتمشىٌ على شاطئ ليدو دي أوستيا الجميل في وسط روما.. وكان صيف روما في تلك السنة حاراً.. وقد امتلئ الشاطئ بعشرات الجميلات على بلاجات الشاطئ.. وإذا بأحدٍ يسحب يدي.. ويحدق في كفي.. نظرتُ إليه فإذا هي عجوز.. حدقت بوجهي أيضاً.. وقالت بلا مقدمات: (سترشح لمنصب رفيع.. وأمامكً طريقين: الأيمن.. أحمر.. والأيسر أخضر.. فان وافقتً بالمنصب فمصيركً الإعدام.. وان رفضتً المنصب تصل إلى الكيلو 86).. أي يصل عمري الى 86 سنة..
نظرتُ إليها وقلتٌ ونفسي: إنها دجالة.. وهؤلاء هم فتاحو الفال.. وقراء الكف.. يفتشون عمن يَشكونً من هيأته وملابسه انه غنيٌ ليوقعونه بحبالهم.. مع ذلك سألتها بلا اهتمام: متى يتم ترشيحي؟.. أعادت النظر بكفي.. ثم حقدت بوجهي ثانيةً.. وقالت: بعد ستة أيام أو ستة أشهر.. وسحبت من حقيبتها كارتها ودسته في يدي.. وقالت قد تحتاجه.. وتركتني..
في مساء اليوم الرابع بعد هذه الحادثة اتصلً بيً هاتفيا صلاح البزاز (الموظف في السفارة العراقية في روما).. وأبلغني: (يريدوكً في الوزارة غداً في بغداد لأمرٍ هام).. وبعد وصولي إلى بغداد ذهبتُ إلى بيت صديق ليً.. عائلتهُ من أقطاب النظام الملكي.. حكيتُ لهم القصة بكاملها.. فسألتني الأم: وما هو رأيكً ؟.. قلتُ لها: يمكن أرفض.. إن كنتُ فعلاً مرشح لمنصبٍ رفيع.. ردت عليً قائلةً: عليكً أن لا ترفض فيعدمونكً.. بل اطلب طلباً كبيراً وحقيقياً.. يجعلهم هم يرفضون ترشيحكً..
في صباح اليوم التالي (أي اليوم السادس.. والذي حددته قارئة الكف).. كنتُ في القصر الجمهوري.. وفعلاً كما قالت.. وخلال المقابلة: بينتُ إنني لا أصلحُ.. ولن أنجحُ سوى في مسؤولية الحقل الإعلامي أو الحقل الخارجي.. فهما اختصاصي وخبرتي.. وطبيعياً لا يمكن أن أكون في أي من هذين المنصبين.. فهما للقيادات الحزبية.. وأنا موظف تكنوقراط.. وانتهى الموضوع..
بعد أسبوع عدتُ إلى روما.. والتقيتُ قارئة الكف (كاميرا) في مكتبها.. فوجئتُ بصور معلقة على جدران مكتبها لرؤساء معظم الدول.. وهي مع كل واحد منهم.. فتبين إنها عالمة تنبؤ معروفة.. والتقت هؤلاء الرؤساء والملوك لقراءة مستقبلهم..
المهم: قالت ليً: عندما كنتً أمامي في منطقة أوستيا شعرتُ بانجذاب نحوكً.. وعندما نظرتُ إليكً عرفتُ انكً في خطر.. لهذا قمتُ بما أملاه عليً ضميري وواجبي الإنساني.. ضحكنا.. وسحبت يدي أيضاً.. وقالت بعد مدة قصيرة ستنقل إلى بغداد معاقباً.. فاحذر أن تقبل هناك منصباً.. وهذا ما حدث فعلاً.. فقد عوقبتُ من دون سبب.. ونقلتُ إلى بغداد.. وبعد مدة صدر أمر تعيني مديراً عاماً للدار الوطنية للتوزيع والإعلان في وزارة الإعلام.. لكنني اعتذرتُ ولم أباشر.. وبعد فترة أحلتُ على التقاعد مجبراَ.. وكان عمري 43 سنة.. وخدمتي كانت 17 سنة فقط..
في حزيران العام 1984 عينتُ مديراً للبحوث والتدريب في مركز التوثيق الإعلامي لدول الخليج العربي (والمركز منظمة إقليمية تابعة لجامعة الدول العربية.. مقره بغداد).. وبعد أشهر.. وبالضبط في أواخر تشرين الثاني من نفس العام أوفدني المركز إلى تونس لأمثله في مؤتمر الشبكة العربية للاتصالات بمقر الجامعة العربية هناك.. ومن هناك اتصلتُ هاتفياً بكاميرا لأتأكد من وجودها حتى ألتقيها في روما بعد انتهاء المؤتمر.. ضحكت وقالت: أنا سأكون في تونس بعد يومين.. وسألتقيكً في فندقكً (انترناشنال أفريكا).. الذي تبين إنها تنزل به كلما ذهبت إلى تونس..
خلال لقائي بها في الفندق: نظرت إلى كفي.. وحدقت ملياً في وجهي.. وقالت: لا تخف بعد أبداً لن تعدم.. لكن ستمر في ظروف صعبة.. وقلق شديدين.. وأضافت قائلة: (سيمر بلدكم في خطر كبير.. وستلتف حوله الأفاعي من كل مكان.. وبحار من الدماء ستسيل في بلدكم).. قلتُ لها: (نحن الآن في حرب مع إيران.. وبلدنا بحر من الدماء).. قالت أبداً: (أنا انظر الى المستقبل وليس الآن).. وأضافت قائلةً: (سيمر بلدكم في سنين عجاف وحرب مدمرة.. ويستمر بحر الدم في بلدكم.. ولن يتوقف إلا بقتل العفريت.. الذي دخل بلدكم)..
ومرت السنين.. وتوقفت الحرب مع إيران.. وتنفسنا الصعداء.. وفرحنا بالسلام.. ونسيتُ أنا كاميرا.. ومرت علينا سنتين يسودها السلام.. ولا حرب ولا قصف جوي.. لكن بساعة هوجاء.. وبالضبط في صبيحة الثاني من آب العام 1990.. كانت غزوة صدام للكويت.. التي صفق لها السراق.. والقتلة.. وكانت نتيجة مغامرته الهوجاء هذه.. ذبح جيشنا.. وسفكت دماء شعبنا.. وتدمرت مدننا.. وعاد نزيف الدم من جديد..
ـ وتبدأ الصفحة الثانية من هذه الغزوة الملعونة بالتنازل عن 650 كم2 من أراضينا.. وسلب نصف مياهنا الإقليمية.. والاستيلاء على حقولنا النفطية المشتركة..
ـ وحصارٌ اقتصادي.. وثقافي .. وعلمي.. واجتماعي.. حتى الدواء منع عنا.. ومنع شعب بكامله من السفر الى خارج العراق..23 سنة.. كان الحصار الشامل المقيت على كل عراقيي الداخل.. وليس حصار على نظام صدام..
ـ ولم تنتهي غزوة صدام.. بالتعويضات المالية لكل من كان في الكويت.. باستثناء العراقيين المقيمين في الكويت.. تعويضات هائلة بمليارات الدولارات.. وندفع.. وندفع.. وأخيراً نتوسل بتأجيل الباقي من التعويضات بسبب انخفاض أسعار النفط والحرب على داعش..
ـ ماتت كاميرا.. وانتهت الغزوة باحتلال أمريكا للعراق في نيسان 2003.. ودخل الإرهاب بلدنا.. بإشكال متعددة وأسماء مختلفة..واستمر نزيف الدم تحت يافطة (الحرب على الإرهاب).. ثم اندلعت الحرب الطائفية.. واستمر بحر الدماء في العراق دون توقف.. ثم دخلت داعش في حزيران 2014.. واحتلت الموصل.. وصلاح الدين.. والانبار.. ومناطق أخرى.. وما زال بحر الدم يجري في العراق بغزارة من دون توقف..
وشمرً العراقيون عن أذرعهم.. واستطاعوا حتى الآن من تحرير70% من الأراضي والمدن التي احتلها داعش.. ومسيرة التحرير من داعش مستمرة..
فهل حقاً سنحرر عراقنا كاملاً ؟.. ونقتل العفريت (الإرهاب).. ويبقى بلدانا موحداً ؟..
وهل حقاً يتوقف بحر الدماء ؟؟ أسئلة تراودني بلا إجابات مؤكدة..
أم قبل أن نستكمل قتل العفريت.. تبدأ صفحات شرذمة العراق وتقسيمه.. ويشارك العفريت في قتلنا.. ونزيف دماء شعبنا يستمر ؟؟ ربنا أنقذنا من القوم الظالمين!!
أين أنتِ يا كاميرا ؟.. لماذا متِ ؟ لماذا لم تنتظرينا ؟ لتشاهدي ماذا عمل العفريت بنا؟؟ وماذا عمل حكامنا الجهلة بنا ؟ حكامٌ لا يستحون.. ما زالوا يتباهون.. وهم الذين سلموا مدننا الى العفريت بلا قتال..
أين أنت يا كاميرا ؟؟ ما العمل ؟؟ بالتأكيد سنقتل العفريت الذي جاءتنا من الخارج؟؟.. لكن كيف نقتل العفاريت التي جاءت مع الدبابة الأمريكية.. أم التي ظهرت علينا من الداخل ؟
أين نجد كاميرا أخرى.. كي تنبؤنا بمن يوقف نزيف الدم ؟؟؟؟؟؟