في أواخر سبعينيات القرن المنصرم ، عاد الى بغداد في زيارة عمل الاخ عبد الرزاق محمد لفته ، طيب الله ثراه ، سفير العراق في لبنان ..وفي جلسة احتفاء بمقدمه ، اقامت نقابة الصحفيين العراقيين ، ندوة حوارية مصغرة بمقرها ، حضرها عدد من الصحفيين ورؤساء التحرير .. وقد ادرتُ تلك الندوة باعتباري عضوا في مجلس ادارة النقابة … اعطى الرجل صورة لحالة لبنان وهي تعيش في اتون حرب ضروس ، مبيناُ اهم بؤر الصراع الذي ساد البلد الشقيق ، وتعدد مراكز القوى ، واستعمال السلاح الثقيل الذي اتى على البنية التحتية للبلد الجميل ..
واتذكر ان احد الزملاء سأل المتحدث ، عن ابرز ما لفت انتباهه في يوميات الحرب الطاحنة في بيروت وبقية المدن اللبنانية ، قوله ان اهم ما لفت الانتباه هو اتفاق القوى المتحاربة والمتصارعة على عدم المس بعمل البنك المركزي اللبناني ، كما اتفقت الصحف والمجلات والتلفزيون والاذاعة اللبنانية ، على عدم الخوض في آليات العمل الاقتصادي والمالي ، واخذت وسائل الاعلام اللبنانية تنشر مقالات لمتخصصين في الشأن الاقتصادي تدعو الى معاضدة الليرة اللبنانية ، امام الانفلات الامني الحاصل في البلد .. وقد نجح البنك المركزي اللبناني بمؤازرة الاعلام والسياسيين ( المتخاصمين ) في امتحان الاستقلال المعنوي باعتباره بيضة القبان في استراتيجية الدولة ، واي انتقاص من هيبته والتشكيك في عمله ، يعني ميلانه الى هاوية بلا مستقر .. واستمر البنك المركزي اللبناني ، في اداء عمله اليومي ، ولم يتعرض موظفوه وادارته لأي سوء او تشكيك !
صور هذا الحديث وهذه الندوة ، تقافزت نحو سطح ذاكرتي، فكوت فؤادي وحرقته ، وطفرت من عينيّ بعض الدموع ، بعد ان تلمستُ كمواطن وصحفي ، حملة يقودها البعض للتنكيل بالبنك المركزي ، بيت المال العراقي ، والغريب ان هذه الحملة لم يسهم بها اقتصاديون عراقيون لأن هؤلاء يعون خطورة هذه الحملة على الوضع العام في البلد ، لاسيما ونحن نخوض حرباً ضد عدو شرس ، يبحث مؤيدوه عن اية ثغرة في جدار الوطن ، بل قادتها شخصيات تمثل اجندات بعيدة عن الاقتصاد ، قريبة الى المنفعة الذاتية .
وقد لفت انتباهي ، ان الحملة المذكورة ، جاءت في اعقاب اعلان البنك عن انجازه التقييم الدوري للمصارف العاملة بالبلد من حيث مدى التزامها بقانون مكافحة غسل الأموال وقواعد وتعليمات التحويل الخارجي والتي اعتمدها البنك منذ ١/١/ ٢٠١٧ وفقاً لمعايير تم وضعها بالاستشارة مع مكتب تدقيق دولي ، ومعروف ان تطبيق تلك المعايير ادى الى تحفيز كبير للمصارف لإنشاء تشكيلات وتطبيق قواعد جديدة بالاستعانة بمكاتب دولية متخصصة لتطوير اجراءات المصارف ، لاسيما ان البرنامج الذي يطبقه البنك المركزي حظي بإشادة من المؤسسات المالية الدولية لما يحققه قراره من رقابة فعالة وشفافية عالية في المعلومات والبيانات التي يقتضي على المصارف توفيرها لتعزيز وتوثيق عمليات التحويل ..كما ان قرار البنك وضع نافذة بيع العملة على سكة المصلحة العامة انطلاقا من أسس وقواعد قانونية وعلى وفق معايير دقيقة ، انطلاقاً من دوره في تعزيز الرقابة والإشراف، ورغم ان البنك المركزي اعلن عن قيامه بمراجعة دورية لإعادة تقييم المصارف وفقاً لمؤشرات الالتزام بالمعايير ، ودعوته الى المصارف بإبداء ملاحظاتها على درجات التقييم ، للنظر فيها من اجل تصحيح اي فقرة يثبت استحقاق المصرف لها ، إلا ان البعض ممن لم ترق لهم اجراءات السلامة المالية وشفافية العلاقة بين البنك والمصارف ، هيأ اصوات عديدة للنيل من البنك ، وهي معروفة الدوافع ، والمضحك المبكي ان عدد النواب الذين صرحوا ضد تقييمات البنك التي اشرنا اليها ، وسياسته بتصنيف المصارف في الايام القليلة الماضية ، كان اكثر عددا من المستنكرين لجرائم التفجيرات التي شهدتها بغداد ، علما ان الحدثين كانا في ذات الفترة ..!
ان البنك المركزي العراقي من منطلق الثقة بالنفس التي هي روح البطولة ، بقى صلدا ، لم ينسحب الى ردود الافعال .. وتلك لعمري هي من صفات الصمت المقتدر !