22 ديسمبر، 2024 10:34 م

في باطن الجحيم وحشية الجلاّد .. اِنسانية الضحية

في باطن الجحيم وحشية الجلاّد .. اِنسانية الضحية

ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 صدرت للروائي العراقي ” سلام ابراهيم ” رواية ( في باطن الجحيم ) بعد سلسلة أعماله الروائية ( رؤيا الغائب 1996 ) ، ( الأرسي 2008 ) ، ( الحياة لحظة 2009 ) . 
ما يميز روايته الجديدة عن سابقاتها هي ِانها رواية تسجيلية ، وثقتّ فضائع وجرائم حملة الأنفال 1987 ـ 1988  وجرت فيها ــ بمهارة عالية ــ المزاوجة بين الوثيقة والفعل التخيلي بحيث نجح الروائي ” سلام ابراهيم ” من توظيفهما  ضمن بنية روائية متجاوزاَ بها تأطير الوقائع وتسجيلها فقط مما يجعل منها وثيقة تاريخية لانبض للحياة فيها .
مايستوقف القاريء في هذه الرواية ان ” سلام ابراهيم ” بالرغم من عودته الى اِرثه النضالي وتجربته الكفاحية المشرقة في حركة الأنصار الشيوعيين التي اِستفاد منها كثيرا في اشتغاله الِابداعي ( القصة ـ الرواية )  والتي جعل من تلك السيرة النضالية مادة رئيسية لرواياته الآنفة الذكر الاّ انه في عمله الروائي الجديد تجاوز القص الذاتي وانفتح على عوالم أخرى أثرت بنية روايته الجديدة فجاءت بانوراما ترى فيها الرصد والتدوين وتاريخ الأحداث وجغرافية المكان وسيرة الاشخاص باسمائها ليبلور من كل هذه الأدوات عالما روئيا جميلا في احداثه وحياديته .
تشكل المفارقة أو التضاد بين عالمين عنصرا واضحا في هذه الرواية ، فالروائي يدخلنا في ذلك منذ اول سطورها حيث تجد الضحية التي كانت ترزح تحت سياط الجلاد وطغيانه ترقص منتشية في حين يقبع الجلاد في قفص الاِتهام مهاناَ ذليلاَ بعدما كان آمراَ ناهياَ  ، وهو توظيف ذكي يشير الى دورة الزمن وتقلباته ، ( ننصت انا والطاغية .. هو في دهشة وامتعاض .. وانا في نشوة وطرب .. هو في قفص وأنا في فضاء ) وبطريقة الفلاش باك  يستحضر الرائي معاناته الطويلة مع الجلاد من خلال وجوده جنديا في ساحات حربه  وكذلك في معتقلاته الني ذاق فيها مرّ العذاب وصولاَ الى وجوده مقاتلا في صفوف حركة الأنصار وينسى كل ذلك في غمرة انتشائه وهو يرى الصورة مقلوبة ، فهو اليوم في قمة الهرم  والجلاد في اسفله .
لقد أبدع الكاتب في التركيز على تفاصيل الحياة اليومية لمجموعة الثوار التي شكلت الحركة حيث يدخلنا جحيمه فنرى الثوار وهم يعيشون حياة تعددت الصراعات فيها ، فهناك المقاومة لظروف الطبيعة الجبلية القاسية والوسائل البدائية للاحتماء منها وقصف الطائرات اليومي ومشاهد تساقط الرفاق حرقا بنيرانها ، الغازات الكيمياوية التي كان الرائي ــ سلام ـ احد ضحاياها ، شحة المواد الطبية والاضطرار الى بتر ساق المقاتل المصاب ( جابر هيجل ) لمرتين جراء التلوث باستعمال وسائل بدائية ،  الخيانات التي وجدت طريقها الى بعض المقاتلين الذين جندهم النظام للفتك برفاقهم عن طريق بث السموم في الأطعمة والأشربة والتي كان من ضحاياها ” ابو فؤاد ” أحد أبرز الثوار الأشداء والذي عندما نجا من السم بعد سنة من العلاج وعاد الى موقعه القتالي أردته الطائرات قتيلاَ بقصفها الوحشي ثم تضيع عائلته بعد ذلك في المقابر الجماعية، وبالمقابل نلمس صوراَ تقف بالضد من تلك الوحشية التي شكلت بمجموعها قاع الجحيم فهناك العلاقات الِانسانية التي سادت بين المقاتلين حيث الحميمية والصدق في التعامل اليومي ، روح العمل الجماعي ، الايثار ، سهر البعض على راحة الآخر  ، اهتمام العالم المتمدن والسعي الجاد لملاحقة المتسببين بالضربة الكيمياوية من خلال التحقيق مع الضحية في محكمة العدل في لاهاي ، النظام الاجتماعي في الدنمارك الذي يدين له الكاتب بالفضل حيث وفر ّ له ( فرصة تأمل الدنيا والتجربة ) لقد سجل الكاتب كل تلك الصور والمواقف بالاسماء والوثائق فيكون بهذا قد نفخ الروح في الوثائق بعدما كانت مجرد أوراق مليئة بالارقام والاحداث فجعلك من الصعب الفصل بين ماهو وثائقي وماهو جمالي .
لقد تجلت قدرةّ الروائي “سلام ابراهيم” على تجسيد التضاد بين الصورتين ( الوحشية ــ الانسانية ) من خلال مشهد زيارة أرملة الشهيد ( ابو فؤاد ) الى قبر زوجها الذي اعده واحدا من أكثر المشاهد الِانسانية المؤثرة والمستفزة للضمائر الحية وكان يصلح ان يكون عملا دراميا مستقلا ، جعلنا الكاتب في هذا المشهد نعيش ألم المرأة المحطمة وهي تسرد عند رأس زوجها الشهيد  ( كل ما جرى لها وللعائلة اثناء غيابه الطويل ، قصت الى ان انهكها الكلام والحكاية ، فصرخت صرخة واحدة طويلة حادة وارتمت على كومة التراب ، غطتها مولولة صارخة بأسمه ) هذا المشهد يعيد امام ناظريك صورة الجلاد وأفعاله المشينة مما يتفجر الحقد في داخلك على من تسبب بكل هذا الألم والخراب .
( في قاع الجحيم ) توثيق لحركة ثورية مهمة في تاريخنا المعاصر وتوثيق لبطولات ثوار ومواقف رجال لم يجعل منها الكاتب عملادعائيا لأيدلوجية معينة بل ساد فيها الجانب الآنساني على السياسي وصهر كل تلك المدونات في بوتقة ابداعه وادواته السردية المكتملة فقدم لنا واحدة من اهم وأجمل اعماله السردية ، وأضاف رواية مهمة ومميزة الى مسيرة الرواية العراقية والعربية .