منذ سقراط و «اعرف نفسك بنفسك»، وصولاً الى غوغان في لوحته الكبرى «من أين جئنا؟ من نحن؟ والى أين نسير؟» وربما حتى الى حيرة إيليا أبو ماضي قائلاً: «جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت» التي كانت من بين أروع ما موسق وغنى محمد عبد الوهاب، لم يتوقف الإنسان عن طرح سؤال الذات على نفسه. غير أن الأدب لم يتمكن من أن يجعل ذلك السؤال قاسياً وعبثياً، بل مستحيلاً، بأفضل مما فعل ذات لحظة مدوية في أواسط سنوات الخمسين من القرن العشرين، حين عهد به الى المسرح، فن الخشبة وفن الحيرة بامتياز. ففي تلك اللحظة تكثّفت أسئلة نيتشه وفرانز كافكا لتتجسد على خشبة باريسية صغيرة وموغلة في النخبوية. خشبة خجولة بديكورها المجرد وصمتها المدهش وشخصياتها النادرة التي سنعرف أنها ليست هنا لتعرف أي شيء، لتفعل أي شيء، لتقول أي شيء. لاحقاً سوف تعمّ العالم تلك العبارة اليائسة القاسية: لا شيء يحدث، لا أحد يجيء. وكان ذلك كله، في ذلك الحين، نوعاً من إعلان مثلث، سرعان ما سوف تكون له أصداؤه ودويّه ومحاكاته طوال العقود التالية: الإعلان عن ولادة كاتب كبير من كتاب القرن العشرين الحقيقيين؛ الإعلان عن ولادة واحدة من أكثر مسرحيات ذلك القرن تعاسة وبؤساً وحتى إثارة للسخرية والضحك؛ على الرغم من أن شيئاً بالكاد يقال فيها، وأن ذاك الذي يقال، كان بالكاد يمكنه أن يعني شيئاً. ثم أخيراً، وربما يكون هذا هو الأهم، ولادة ذلك التيار المسرحي الذي سيحمل، في نوع من التبسيط القاسي اسم «مسرح العبث» أو بالأحرى «مسرح اللامعقول». أما الكاتب فكان يحمل اسماً إرلندياً- إنكليزياً، مع أن النص مكتوب بفرنسية أنيقة بالغة التقشف والنقاء، صمويل بيكيت. وأما المسرحية فتحمل ذلك العنوان الذي صار بين ليلة وضحاها عنواناً ورمزاً وشعاراً «في انتظار غودو».
> لقد حدث ذلك كله في مساء واحد مع أن من المستحيل عادة وليس بالأمر الطبيعي، تحديد يوم معين باعتباره اليوم الذي ولد فيه تيار أدبي أو فني، إذ من المعهود أن يتخمر أي تيار على مدى سنوات عدة، وتكون ولادته متعددة التواريخ. ومع هذا يمكن القول، من دون أية مجازفة، إن يوم الثالث من كانون الثاني (يناير) 1953، كان اليوم الذي شهد الولادة الحقيقية لـ «مسرح العبث» وفي شكل أكثر عمومية ولادة ما يمكننا أن نطلق عليه اسم الحداثة الحقيقية في فن المسرح. ففي ذلك اليوم، أقيم العرض الأول لمسرحية صمويل بيكيت «في انتظار غودو»، تلك المسرحية التي سوف تؤسس لحداثة مسرحية في الوقت الذي تعكس قلق الإنسان المعاصر الذي كانت حروب القرن العشرين، والفلسفات قد رمته عارياً وسط صحراء الجدب وفراغ الذهن.
> كانت «في انتظار غودو» العمل المسرحي الأول الذي يقدم من أعمال بيكيت الكاتب الإرلندي الأصل، الذي عاش معظم سنيه في فرنسا، وكتب العدد الأكبر من أعماله فيها ومعظمه باللغة الفرنسية. وكتابة بيكيت هي التي ستخيم على الفكر المسرحي، بل وعلى كثير من عوالم الشعر والقصة، خلال الربع الثالث من القرن العشرين، متواكبة في هذا مع نصوص يوجين يونسكو وآرثر اداموف وت. اس. اليوت، على اختلاف مشاربهم ونزعاتهم. إذ في حين عبّرت كتابة يونسكو عن أقصى درجات العبث عبر اللجوء الى استخدام التباسية اللغة والمواقف، وفي حين ربط اداموف عبثيته بنوع من الفكر التقدمي المستقى من ماركس وبريخت في آن معاً، وفي حين جعل اليوت نصوصه صورة لإيمان عميق بالالهي عبر نزعة كاثوليكية واضحة، عبّر بيكيت في مسرحه عن عبثية الشرط الإنساني، ولكن بأسلوب مخالف تماماً عن الأسلوب الذي عبّر الفكر الوجودي به عن تلك العبثية. لدى بيكيت كل شيء خواء وفراغ وانتظار لا جدوى منه. لكن، ما الذي يعنيه يا ترى أن نستخدم الكلمات وصور الذكريات كمبرر لحياتنا؟ وماذا ننتظر في هذه الأرض اليباب؟ وهل نحن حقاً قادرون بعد على أي فعل؟
> تلك هي الأسئلة التي طرحها بيكيت من خلال مسرحه ولا سيما من خلال مسرحيته الكبرى والمؤسسة «في انتظار غودو» التي يطالعنا فيها الشريدان استراغون (غوغو) وفلاديمير (ديدي) واقفين قرب شجرة عارية في أرض عارية ينتظران وصول «غودو» الذي وعد بالمجيء. في الفصل الأول سيتواصل انتظارهما حيث يزجيان الوقت في محاولة تذكّر ماضيهما، وفي محاولة تلاوة سطور من الكتاب المقدس، أو في مناقشة الشجرة القائمة عارية بالقرب منهما، أو مناقشة حضور غودو و «تصوير» مفهومها عنه، ناهيك بروايتهما للفكاهات المختلفة وأحلامهما. قبل نهاية النهار يصل السيد والعبد بوزو ولاكي، حيث يعبّران عن علاقة حادة بينهما. وعند نهاية الفصل، يأتي رسول من لدن «غودو» يقول انه لن يأتي اليوم لكنه سيأتي غداً.
> الفصل الثاني يدور في اليوم التالي، حيث يتابع ديدي وغوغو الانتظار، بينما نلاحظ أن الشجرة قد ارتدت بعض الأوراق. وتغيرت العلاقة بين بوزو ولاكي فعمي الأول وازدادت بلاهة الثاني. ينتهي هذا الفصل أيضاً برسول يأتي من لدن غودو ليقول انه لن يحضر اليوم، لكنه سيحضر غداً بالتأكيد. أمام هذه الوضعية غير المجدية يقرر ديدي وغوغو الانتحار بشنق نفسيهما على الشجرة، لكنهما لا يفعلان وتنتهي المسرحية. هذا العرض الذي أسس لشهرة بيكيت كما أسس لمسرح العبث كله، قُدّم من إخراج روجيه بلان، في مسرح بابل في باريس. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد المسرح هو المسرح ولا صورة الشرط الإنساني كما يعبر عنها الفن هي الصورة القديمة نفسها. فالإنسان الآن لم يعد ذاك الذي غرق في المادة وارتضاها وسيلة وصورة لتقدمه. بل صار الإنسان الذي يجد نفسه عارياً في عالم نسي إلهه. وما الانتظار في المسرحية سوى انتظار عودة هذا الرب، الذي من دونه لن تصبح حياة الإنسان سوى فراغ وعدم. تلك هي الرسالة التي حاول بيكيت بمسرحه وقصصه وعباراته القصيرة وصمته الطويل أن ينقلها الينا. ونجح في ذلك، لأن مسرح بيكيت مثل أقسى يقظة طالت إنسان قرننا العشرين هذا من طريق الفن، يقظة جاءت أشبه بالصدمة: الصدمة التي شكلت أساس وعي جديد كان أحد عناصر فكر الإنسان خلال الخمسينات والستينات، حتى جعل لمسرح العبث تلك المكانة الأساسية في الحياة الفنية والفكرية.
> لقد قلنا أعلاه أن ذلك التيار الذي خلقته «في انتظار غودو» ولد وبيكيت والمسرحية نفسها في ليلة واحدة. لكن هذا ليس، في الحقيقة، دقيقاً تماماً بالنظر الى أنه إذا كان كل تيار أدبي أو فكري أو فني، يتخمر طوال أزمان كما أشرنا، لا بد من القول أن «مسرح العبث» بخاصة ما أتت «في انتظار غودو» لتقوله، إنما كان يتخمر منذ فجر وعي الإنسان المفكر على شكل قلق والأسئلة الحائرة. وكان كل ما فعله بيكيت في ذلك الحين، إنما تكثيف تلك الأسئلة السرمدية، في عدد محدود من السطور والحوارات. هو الذي سيظل ذلك هو دأبه في كل ما كتب وسوف يكتب، معبّراً، ربما أكثر من أي كاتب آخر عن التمازج «المرعب» بين حياته وكتابته.
> ولد صمويل بيكيت، الذي يعرّف عادة بأنه «كاتب فرنسي – إرلندي، كتب في النقد والشعر والرواية والمسرح» العام 1906 في بلدة صغيرة غير بعيدة من دبلن. وهو تخرج من «ترينيتي كولدج» في العام 1927 حائزاً ديبلوماً جامعياً في تخصص اللغتين الفرنسية والإيطالية. وبعد أن درّس عاماً في بلفاست نزح الى باريس حيث انضم الى صديقه جيمس جويس الذي مارس عليه تأثيراً كبيراً، وفي المقابل ساهم بيكيت في ترجمة العديد من فقرات «يقظة فينيغان» الى الفرنسية. وفي العام 1930، كانت بداية بيكيت الأدبية حين نشر نصّه الأول «هوروسكوب» ليعود بعد ذلك الى إرلندا حيث حصّل ديبلوماً جديداً من «ترينيتي كولدج» ودرّس الفرنسية. وعاد بعد ذلك الى باريس التي ستصبح مكان عيشه منذ ذلك الحين وينشر فيها نصوصاً إنكليزية قصيرة قبل أن يخوض الكتابة المسرحية… إنما باللغة الفرنسية. ولئن كانت نصوص مهمة له قد نشرت قبل «في انتظار غودو»، فإنه انتظر عرض هذه الأخيرة ليُعرف على نطاق عالمي وتتتالى مسرحياته من «انتهت اللعبة» الى «شريط كراب الأخير» ونحو دزينة غيرها صارت علامات حتى رحيله في العام 1986.
نقلا عن الحياة