افتراض تحول الزمن لنقود في المستقبل!
في المستقبل القريب عندما تتحول النقود لوقت وعندما يتوقف عمر الإنسان عند سن الخامسة والعشرين، تكون الطريقة الوحيدة للبقاء حيا في استعارة وقت إضافي أو في كسب الوقت أو سرقته! يعيش بطل القصة “ويل سالاس” دقيقة بدقيقة حتى تحدث مصادفة تكسبه زمنا طويلا (أكثر من مئة عام ) مما يؤهله لدخول عالم الأثرياء وملاقاة فتاة جميلة ثرية ليتفقان معا على تدمير “نظام الزمن ” الفاسد وإعادة توزيع أعمار الناس بالعدل!
هذه القصة السينمائية هي مزيج من الخيال العلمي والفنتازيا والحركة والمغامرات، والفيلم من بطولة كل من “أماندا سايفرايد ، جوستين تايمبيرلاك ، سيليان مورفي ، فنسنت كاتهيسر واو ليفياوايد”، ومن إخراج النيوزلندي المولد “أندرو نيكول” .
يستفيد كاتب ومخرج الفيلم “أندرو نيكول” من افتراض تحول الزمن لنقود في المستقبل، ويبني على هذا الافتراض قصة وحبكة سينمائية جذابة يدور محورها في أنك تستطيع الخلود إذا ما كنت ثريا بالوراثة أو شاطرا وفهلويا فاسدا وفيما عدا ذلك فانك قد تموت مبكرا و مقهورا في سن الخامسة والعشرين، وتخيلت مصير الثورات العربية المزعومة لو طبق هذا الخيال “الجامح” عليها: إذا لاشترى الطغاة والمجرمين وأمراء الحروب والزعران أعمار الخلق والعباد (بالفساد والسرقة والقمع والرعب) طمعا بالخلود والديمومة!
توقف الزمن عند سن “الخامسة والعشرين”!
الفيلم مصنوع ببراعة من لقطات سريعة متتابعة تجعلك تركض لاهثا ملتقطا الأنفاس لسبر أغوار القصة التي تكشف عن غموضها شيئا فشيئا …مستعينا بالمؤثرات والديكورات المستقبلية المدهشة، مقابل المشاهد ” الكالحة ” لجيتو أو وكر معزول مقارنة مع مشاهد الثراء البراقة والنساء الجميلات في الحي الراقي الذي يحتكر “الثروة الزمنية”، والمخرج متمرس بهذا النمط من الخيال العلمي فقد سبق وان قدم في تسعينات القرن الماضي شريطين متميزين وهما “جاتاكا ” و”عرض ترومان” كسيناريو ثم عاد ليقدم فيلم سيمون في العام (من تمثيل استحواذي لآل باشينو) في العام 2002، لكن هذا الفيلم بالرغم من” فنتازية ” قصته الغريبة فهو يطرح مجموعة تساؤلات ولا يجيب عليها بشكل مقنع أهمها: لماذا يتوقف الزمن عند سن “الخامسة والعشرين”؟ ثم يجد الأبطال أنفسهم فجأة مرعوبين وقد تبقى عام لهم لينجزوا أهدافهم الحياتية؟ ومتى بدأ ذلك ولماذا وما المغزى؟ ولماذا تضيع الشخصيات أوقاتها في “التسكع والجيم الرياضي والملاهي” ما دام زمنها في الحياة محدود؟ ولكن بالرغم من هذه الهفوات فقد استطاع المخرج والمصور البارع “روجر ديكنز” تقديم شريط شيق يستحق المشاهدة، حيث يبدأ بقصة “ويل سالاس” الذي يعيش فقيرا في جيتو بالقرب من دايتون ويحلم مع امه الشابة للانتقال للعيش سويا في منطقة “جرينويش” الجديدة، وحيث تظهر امه بحكم معضلة ” سقف الزمن ” أصغر بثلاث سنوات من ابنها..ولكن ويل لا يستطيع إيقاف عجلة امه الزمنية الراكضة باتجاه النفاذ، فتموت بين أحضانه في مشهد محزن، ومؤثر وقد عجز عن مدها بثواني إضافية، مما يدعوه للذهاب منتقما لحي الأثرياء المجاور لسرقة سنوات من أعمارهم بغرض إعطاءها للفقراء، وتحدث هنا الصدفة التي تجعله يتعرف على ابنة الثري “فنسنت كارتهيزر” واسمها “سليفيا وايس” ( تقوم بالدور أماندا سايفرايد )، وحيث يدور سيناريو تقليدي يبدأ بخطفها كرهينة وينتهي بقصة حب ومشاركة حماسية طريفة في مشروع سرقة وتوزيع الزمن! باقي القصة هي عبارة عن ملاحقات ومطاردات ساخنة في السيارات حافلة بالبطولات الخيالية، وحيث تتطابق فكرة القصة مع أفلام سرقات ومطاردات ناجحة وشهيرة مثل بوني وكلايد و روبن هود وغيرها.
يلعب الممثل القدير “سيليان مورفي” دورا لافتا “كحافظ للوقت ” بشخصية الشرطي الحريص على عدم اختلاط السكان، حيث يتنقل مع مجموعته لملاحقة سارقي الدقائق والساعات والأيام ويبدو مميزا بمعطف جلدي أسود وسحنة روبوتية باردة، كما يظهر هنا زعيم عصابة بريطاني مع رفاقه الأشرار متنقلا في الأحياء والحانات والنوادي، ساعيا لنشر الرعب وسرقة السنوات من ضحاياه. تبدو الشخصيات الرئيسية هنا بطلعة وسحنة مميزة وبملابس أنيقة كنتيجة حتمية لمشاركة مصمم الأزياء البارع “كوين أتوود” ( الحائز على الأوسكار )، وخاصة مع التركيز على أناقة “أماندا سايفرايد” التي بدت مميزة وكأنها فتاة غلاف بهية الطلعة بملابس جذابة، ولكنها مع ذلك تبدو هي و”تمبرليك” كثنائي ظريف مغامر تنقصهما الكيمياء اللازمة التي تقنعنا بخطورتهما وتماسك علاقتهما!
فكرة السطوعلى بنوك “الزمن”!
تبدوالقصة مثيرة للجدل وخاصة عندما يتطرق الأبطال للحديث عن مغزى الخلود كما أنها تعيد صياغة فكرة المجتمع الرأسمالي القائمة على سؤ توزيع الثروة الوقتية (كبديل للثروة المالية ) ، ما بين الأثرياء المتبجحين والفقراء المحشورين في “غيتو وأوكار” لا يجوز لهم مغادرتها (كما في ممارسات النظام العنصري في جنوب أفريقيا سابقا، وممارسات إسرائيل بحائطها العنصري التعسفي حاليا على سبيل المثال).. وخاصة عندما يتمكن البطل من سرقة “مليون عام” من خزنة والد الفتاة الثري ويقوم بتوزيعه عشوائيا على الفقراء… ثم تنتهي القصة بنية مدروسة للسطو على بنك كبير للزمن، ويكون الهدف دائما إيجاد توازن وتكافؤ في عدد سنوات العيش ما بين الفقراء والأثرياء، طبعا كل الشخصيات التي نراها شابة لا يتعدى عمرها الخامسة والعشرين، وهذه الفكرة لم يعالجها السيناريو بعمق ولم يتطرق لكيفية العيش من حيث انعدام أمراض العجز والشيخوخة، فالأشخاص لا يموتون هنا إلا لسببين عندما تتوقف ساعتهم الزمنية فجأة عند الخامسة والعشرين، أوعندما يقتلون أو ينتحرون نتيجة للإدمان السائد بأنواعه!
الفيلم يزودنا بجرعة رشيقة مسلية من الخيال العلمي وربما يحمل في طياته بعدا “ماركسيا-جدليا” لمجتمع رأسمالي متشدد، مسلطا الضوء ولو من طرف خفي على صراع الطبقات بين من لا يملك إلا عمره المحدود، وبين من يسعى للخلود بثرائه واحتكاره لبنوك الزمن أو باختلاسه لعشرات أو لمئات السنوات، كما أنه يحمل في طياته طرحا ” فلسفيا-دينيا ” للحياة والموت من أن الإنسان لا يرحل إلا عند انقضاء أجله، وحيث يكون رحيله قاطعا وسريعا وبلا معاناة مرتبطا بالعد التنازلي لثوانيه الأخيرة على وجه البسيطة!
ثم إن التعامل بالوقت كبديل للنقود يدعو لتقديس عنصر الزمن وهذا ما لم نشاهده هنا، فمعظم الشخصيات تعيش بشكل نمطي، كما وأنها لا تعير الزمن اهتماما يذكر، بل ونجد وكأنها تهدر وقتها، وحيث يتم التعامل معه كنقود بشكل ميكانيكي صرف: ففنجان القهوة ثمنه أربع دقائق والجنس السريع ذي العشر دقاثق ثمنه يومان! هنا تتحول هنا كل تكاليف الحياة اليومية لقيمة زمنية تخصم من عمرك الافتراضي، حتى ركوب الباص حيث يثبت معصم الذراع على كاشف رقمي زمني لتنزيل القيمة من الساعة البيولوجية الرقمية المنحوتة على المعصم ، وتبدوالمفارقة في هذا الفيلم جلية عندما نكتشف أن معظم الممارسات الحياتية تهدف لشراء أو بيع الزمن، سواء الممارسات الغير حميدة كتناول الكحول والطعام غير الصحي المليء بالدهون وتعاطي التدخين، او الحميدة المحبذة كالامتناع عن التدخين والكحول وممارسة الرياضة اليومية والتواصل الاجتماعي … وكذلك القراءة واليوغا والصلاة اليومية!
تبدو اللقطة المحورية في هذا الفيلم مؤثرة وذات طابع فلسفي وتتلخص في إنقاذ ويل “لهاملتون” مخلصا إياه من العصابة التي ترغب بسرقة مئة عام من ساعته البيولوجية، وحيث يدور بينهما حوار فلسفي في مكان مهجور يعلن فيه هاملتون (الممثل مات بومر) بأنه قد سئم من الحياة والخلود الذي لا معنى له، ويستغل هذا الأخير انغماس ويل في غفوة عميقة ليشبك معصمه ويفرغ المائة عام لساعته الرقمية البيولوجية (كهدية)، ثم يذهب لينتحر بإلقاء نقسه من على الجسر فوق النهر، ولكن “ويل” يسعى جاهدا لإنقاذه دون جدوى وعندئذ لا ينجو من عدسة الكاميرا الأمنية المعلقة التي صورته ليصبح مشتبها في مقتل “هاملتون”! هذا هو تحديدا العمل التفصيلي الدقيق اللازم لبناء حبكة درامية مقنعة، هو ما ينقص معظم الأفلام العربية فلا يمكن توقع فيلم جيد دون حبكة محكمة مفصلة وسيناريو بارع انسيابي وخيال ابداعي محتمل، وهذا هو ربما المطلوب تحديدا من العاملين في السينما العربية بدلا من إغداق النقاد العرب للثناء والمديح المجاني لكل شريط يشاهدونه، مهما كانت قيمته الفنية والسينمائية! أما اللقطة الأخرى التي تحبس الأنفاس فهي تركزعلى الرهان في لعبة البوكر حيث الخاسر هنا يمكن أن يفقد حياته بدلا من إعلان إفلاسه (بسبب نفاذ نقوده الزمنية)!
الفيلم يجسد نمطا مستقبليا “للرأسمالية الداروينية”…
ومن مفارقات الفيلم أنه بالرغم من انه يتحدث عن مستقبل قريب إلا أن البطل يتجول في سيارة قديمة من طراز ” لنكولن كونتنتال”، تبدو وكأنها موديل سبعينات القرن الماضي، كما أنه لا يتم التطرق لآلية نقل الزمن بيولوجيا، ولا لكون عملية تنزيل الوقت غير متوازنة زمنيا فتنزيل العشر دقائق يوازي زمن تنزيل الشهرين!
الفيلم يجسد نمطا مستقبليا ” للرأسمالية الداروينية ” حيث البقاء للأفضل والأقدرالذي يبادر بشحن ساعته الزمنية قبل فوات الأوان، سعيا للخلود وإطالة العمر في شباب دائم بعيدا عن مفهوم إطالة العمر التقليدي المرتبط بالعجز والأمراض والشيخوخة، فيما ينتهي العمر عند الفقراء عند سقف زمني محدد لا مجال لرفعه، ولكنه بالمقابل يقدم حلا ساذجا للخلاص والعدل يكمن في سرقة الوقت من الأثرياء وبنوكهم الزمنية وتوزيعه بعشوائية لعامة الناس!
لقد نجح المخرج وطاقمه في تقديم فيلم خيال علمي/فنتازي ممتع وبسيط وأنيق نسبيا مبتعدا عن التعقيد والتشابك، ربما بهدف النجاح التجاري، وفضل بقصد أن يبتعد عن أسلوب “نولان ” المعقد المتداخل في فيلم “الاستهلال” الشهير.
أخيرا تكمن جرأة هذا المخرج في تناوله الإبداعي الجدلي لمعضلة ” الزمن ” الذي يسيطر على حياة الإنسان ( وجميع الكائنات ) من مولده لمماته والذي لا يستطيع أي كائن الهروب منه!
كاتب وباحث وناقد سينمائي
[email protected]