23 نوفمبر، 2024 4:54 ص
Search
Close this search box.

في المواطنة والهوية الوطنية

في المواطنة والهوية الوطنية

لم تعد الهوية الوطنية ومبدأ المواطنة قضايا رومانسية على وزن النشيد المعروف “موطني موطني”. مفهوم المواطنة في الانظمة الديمقراطية الراسخة في اوروبا الغربية يستند بشكل كبيرعلى مبدأ البرغماتية اي ان تصورنا وطبيعة علاقتنا بالوطن ماهو الاخلاصة تصورنا لما تعود علينا هذه الرابطة من نفع (منظور المنافع المتبادلة للطرفيين أي الوطن والمواطن), فهو امر يتعلق بالأخذ والعطاء, الحقوق والواجبات, واجب التزام المواطن بالقانون يقابله حق حماية الدولة للمواطن. المواطنة اذأ هي رابطة بين طرفين وليست فقط مشاعر وعواطف من جانب واحد. ومعادلة الحقوق والواجبات (الرابطة) هذه, المدنية والسياسية والاجتماعية, تبلورت بشكل تدريجي خلأل القرنيين الماضيين. في البداية تطورت بعض الحقوق المدنية للجميع كحق التملك وحق الأنتقال وحق الأحتكام الى القانون والمحاكم في المنازعات المدنية الخ.  وفي منتصف القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين تبلورت وسنت قوانين عديدة لتنظيم الحياة السياسية وتحديد حقوق الأفراد السياسية منها على سبيل المثال حق الرأي وحق الأشتراك بالأنتخابات السياسية وحق تاسيس الأحزاب وتشكيل التنظيمات المهنية وما الى ذلك. يذكر ان اغلب تلك الحقوق كانت تخص الذكور البالغين في البداية الأ انها شملت النساء فيما بعد.  واخيرا جاءت الحقوق الأجتماعية من خلأل تطور دولة الرفاه الأجتماعي كحق التعليم المجاني للجميع وحق العمل وحق الرعاية الصحية وحقوق التعويض عند البطالة ورعاية المسنين والتأمين الصحي وقوانين الضمان الاجتماعي والقائمة تطول. حتى وصل الامر في بعض الدول ان يكون المجتمع, من خلال مؤسسات الدولة, مسؤلا عن المواطن في الكثير من شئونه من المهد الى اللحد. ومن الجدير بالذكر ان كثيرا من هذه الحقوق لم تمنح بسهولة وانما انتزعت بفضل تطور الوعي الأجتماعي ونمو الحركات العمالية وصلأبة عود الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية واحزاب الوسط.
ماذا يعني كل ذلك؟ ذلك يعني بكل بساطة ان مفهوم المواطنة نمى وتطور بشكل متواز جنبأ الى جنب مع تطور الدولة القومية الحديثة. كلاهما, اي الشعور بالمواطنة و تطور الدولة القومية, عززا وأزرا بعضهما وبشكل متبادل دون ان يعني ذلك ان هذه المعادلة جرت بشكل متواز او متوازن دائمأ. ففي بعض الاوقات وتحت ظروف معينة يضحي المواطن اكثر وفي احيانا اخر يكون العكس اي ان الوطن هو من يكون المظلة الواقية للمواطن من محن الزمن. بهذا الشكل تجذرت فكرة المواطنة بهذا المخاض التأريخي قبل ان تلفها الرابطة الروحية والعاطفية. 
ومن جانب اخر فأن الوطنية والشعور بالانتماء الوطني, ومن خلال المنظور المثالي, معجونين بالعواطف والمشاعر الجياشة والفخر بالثقافة الوطنية وبالتأريخ والمصير المشترك. فالوطن الذي ترعرعنا ونشأنا فيه, وفيه لنا احلى ذكريات الطفولة والشباب هو اساس الذات والهويتين الشخصية والجماعية. ولهذا فأن الناس تحمل ولاءأ وطنيا صلبا رغم كل الظروف وبالرغم من الظلم والاضطهاد الذي يقع عليهم من ابناء جلدتهم والقائمين على امورهم. هذا المنظور يعتبر الوطن اغلى من كل شئ, اغلى من الحياة واعز من كل مانملك.
لكننا يجب ان نكون واقعيين وان نعترف بأن المعادلة مابين المنظور المثالي ومنظورالحقوق والمنافع المتبادلة مهمة ويجب ان تكون متوازنة او على الاقل شبه ذلك. ولكي اكون اكثر وضوحا اقول اننا نتكلم عن بشرمن لحم ودم وقدرتهم الطبيعية على الصبر والتحمل لها حدود والمثل العراقي يقول “من كثر الدكاك ينفك الّحيم”. أقول ماهي قيمة الوطن وماهو وزنه لدى مواطن يقهر ويذل كل يوم ويستغل ويحرم من ابسط حقوقه الانسانية طيلة حياته؟ ومامعنى الوطن اذا لم تستطع ان تجد فيه مأوى يسترك ويستر اطفالك وما هو طعم الوطن اذا كانت اقلية مارقة تسرق وتسيطر على خيراته وانت لاتستطع حماية نفسك ومالك وعرضك و فيه لاتستطع توفير الطعام ولقمة العيش لك ولاهلك؟ نعم ماذا يعني الوطن عندما تجبر ان تعيش فيه وبين ثناياه لاجئأ ومتغربا او ان تحلم كل يوم, او ان تجبر, بالاغتراب والرحيل الى المنافي البعيدة؟ وماهما مشروعية ومنطق الطلب من الناس ان تقدس جلاديها وتعيش عبيدا في اوطانها وهي تعامل كالقطعان بل كالجرذان وفي ذات الوقت نتوقع منها ان تكون صادقة في وطنيتها وتغني نشيد “موطني موطني” صباحا ومساءأ؟ هذا التحليل وكفانا المزايدات على وطنية وولاء الاخرين والغرق في وحل الحساسية المفرطة بهذا الخصوص.
الحقيقة التي لاجدال عليها هي ان الوطن يكون قويا وعزيزا وأن الانتماء الوطني يكون على اصلب حالاته فقط عندما يشعر المواطن بأن هذا الوطن يمنحه العزة والكرامة والاحترام وبأن انتمائه الوطني يمنحه حقوقا لايمكن ان يحصل عليها في بلاد الجواروبلاد الغربة والمهجر. فالوطن ليس محض ارض وماء وهواء وشجر. والمواطنة ليست انتماءا اجوف. نعم الانتماء هو حالة نفسية واجتماعية وثقافية وهو القواسم المشتركة بين ابناء الوطن الواحد من لغة ودين وما الى ذلك. ولكن الانتماء يعني ايضأ التضامن والتكافل الاجتماعي واشباع حاجات الانسان الاساسية, هو الامن والامان والاهم من كل ذلك هو الاحساس بانك جزء من كل, انت بحاجة اليه كما انه بحاجة اليك.
لقد طرحت موضوع الانتماء والهوية الوطنية من منطلق وظيفي (المنافع المتبادلة) لعلاقة ذلك بالحقيقة الاكثر مرارة وهي ان الانتماء الوطني و المواطنة في عراق اليوم يجهز عليهما ويذبحا من الوريد الى الوريد من خلال نهب ثروات البلد و سياسة التجويع والتجهيل والتهميش (ولكل الاطياف) ومن خلال جعل العراق فندقا قذرا يفتقر الى كل شئ ويحيطه الموت والدم والدمار من كل حدب وصوب وساكنيه, المؤقتين, محرومين من من خيرات وطنهم وهم كالغرباء فيه  يسكنهم الخوف والاحساس بالريبة تجاه بعضهم البعض, والشئ الوحيد المشترك بين هؤلاء الساكنين هو حلم الرحيل من هذا المكان الى اي مكان اخر.
وبالاضافة الى ما ذكر اعلاه فأن خلو الساحة السياسية من قوى وطنية تحمل برامجا سياسية رصينة هدفها تحقيق الامن والتنمية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين والاستغلال الامثل لثروات الشعب العراقي, اضافة الى زرع الفتنة الطائفية وتعميقها من خلال تشجيع الغلو في ممارسة الشعائر والطقوس المرتبطة بكل طائفة واعادة الروح القبلية المتخلفة والتفكير الجهوي او المناطقي بديلا عن الانتماء الوطني هي أليات ستؤدي, ان لم تكن نجحت الى حد ما, الى خلق هويات ثانوية تتجاوز الهوية الوطنية العراقية كخطوة اولى لتفتيت نسيج الشعب العراقي ووحدة اراضيه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات