22 نوفمبر، 2024 11:52 ص
Search
Close this search box.

في المرآة ..شكل آخر .. نظرة أخرى

في المرآة ..شكل آخر .. نظرة أخرى

هي صورة ، لكنها لاتعكس نفس الملامح ،هي انعكاس للآخر في دواخلنا ،هي تجسيد للذي نريد أن نراه ( المخفي) من شخصياتنا، تعري دواخلنا ،وتطرح صوراً نظنها مغايرة ،لكنها حقيقة ما نحن عليه. من أين تأتت الفكرة ل (حبيب السامر) ليفضح خبايا الأنفس ، ليرسم صورة الحقيقة بماء الزئبق ( المرآة)، والسؤال هنا ملح ، أيهما الأصدق مانرى أم مايراه الآخرون من صور.

أورد السامر ذلك الجواب الضمني ( أنا شكل آخر لايشبهني)، يحاول أن يجر القارئ للتيه في اجواء القصيدة المشحونة بالتخالف والتضاد، إلا أن طريقته الفائقة في توظيف الصورة التي رسمها بشكل خارج عن المألوف ولم يعتدها القارئ وفق تصور مشحون بالدلالة ( في المرآة ،أنا، شكل آخر، لايشبهني،التحديق، إلي،لايشبهها) لكن معظم ماجاء به السامر من دلالة مبهمة ( في المرآة ، شكل آخر، التحديق، لايشبهها) هذا الإبهام اضفى مزيد من الجمالية على النص وعلى الصور التي شكلها السامر ليفاجأ القارئ بهذا النص المهول بمعانيه وتشكيله وما أحتواه من صور.

في المرآة

أنا شكل آخر لا يشبهني

تطيل المرآة التحديق إلي لا أشبهها

حين نمعن النظر في هذا الجزء من النص، تتقافز إلى أذهاننا ابعاداًمترامية من مساحات الأفكار ، نقف عندها لنميز أو نفرز ماذا أراد السامر من توصيف ( مصقولة) المعنى الظاهر يقصد فيه ( المرآة) ،لكن ثمة معان أخرى تطرأ على البال حين تركز في المفردات التي وظفها الشاعر ودلالاتها وفيما تمثله من استبدال لفظي أو حتى (حركي) ، ونتسائل هل هي  (الحقيقة ،المدينة،الحياة) ، هل هي الأرض،أو الروح ، أم النفس وما تحمله من خلجات، أم تراها المرأة وما تمثله من تقلبات في حياة الرجل ( السامر أو أي رجل آخر من معشر الرجال) .

(أنها مصقولة) وهنا نتكلم عن المرآة ،أي أنها تعكس الصورة بشكل حقيقي لاشائبة عليه ، أو أنها تنقل صورة الشخص بتفاصيل وجهه نقاء ومشاعر وما أحتواه الوجه من تجاعيد وإن كان الرأس أشيب ،أم أصلع أو ما أحتوى من أوصاف ، لماذا دخلنا في تفصيل التوصيف ،لأن السامر أرادها موصوفة فدفعنا بشرح ما تعني ( مصقولة) التي وظفها في النص وأراد منها  أن يلاعب المتلقي ويأخذه من يده نحو دروب التيه في النص.

الأغرب والذي يضفي الدهشة ،بل الحيرى على القارئ حين يتناول هذا البيت من  نص السامر تتمثل في ( بلا أذرع) ، وهي تمثيل لصورة انعدام الحركة وتأصيل الفعل، فهي (مصقولة) لكنها (بلا أذرع) أي أن الفعل تم نلكن نفى عنها صفة الحركة،والسؤال هنا كيف تم الفعل دون حركة، هل هي قصدية ، أم حالمة ،أم من وحي الخيال، أم تراها واقعة فعلاً أي حقيقة  تتمثل في ذاتية الحركة.

نص غريب فعلاً ، احتوى من الدهشة ما يظهره وكأن السامر يهزأ بالقدر ، ويحاول أخفاء ذلك التفسير عن القارئ حتى يكتشف طلاسم النص دون أن يفك حبيب السامر تلك الطلاسم، الغرائبية التي يكتب بها كثير من الشعراء تحتمل الإنطباعية ،ومنها تصوير المشهد الشعري ساعة الفعل ( تكريس الحبكة) على تأويل ما حدث، ليكون النص مرآة ناقلة لمجريات الحدث بشكله الفعلي الذي تمثله الحركة.

أنها مصقولة تماما

لكنها بلا اذرع

ربما قسى علينا السامر في هذه ، (مصقولة) تعبير عن السهولة عن البساطة بعيدا عن التعقيد ،أراد السامر أن يقول ( وجهة نظر) إن الحياة بقدر ماتحمله من مشاق وتعقيدات وتتطلب الركض والمعاناة، فهي بسيطة بقدر ما تشبه الماء ببساطته ،والمرآة وهي ( مصقولة) بشكل جميل يعكس للناظر الصورة التي هو عليها ببساطة ودون تعقيد.

أي نحن الذين نضفي على مجريات الحياة  من تعقيد ما يجعلنا نتعكز على مختلف الأعذار التي تهبط الهمم ولا تشحذها ،فنراها ( بلا اذرع) فنعيش هم المعاناة ووهم عدم القدرة وتفاصيل التعقيد ، ومنها نخلق لأنفسنا صوراً غير محببة من التعقيدات والعلل.

الجمال هو الحياة بما فيها من زهو الألوان والصور، جمعها السامر في قوله ( مصقولة) ،وجاء ب ( تماما) للتأكيد و لثبات الصورة ، لكنه نفى فعل التأكيد بما جاء به من عدم القدرة مورداً ( بلا أذرع) كحالة جزم لفعل الحركة ، والحركة لا تتم إلا بأذرعها، ومن لا أذرع له فهو عاجز ، صورة شاملة للعجز القاتل والمدمر للإنسان تنهي كل فهل ( الصقال) الذي أراد منه السامر أن يورد الجمال الذي عليه الحياة بصوره المختلفة ،ولكن ليس بشكل لامنتهي ،بل إلى حدود معينة تعمل فيها الأذرع فعلها،وما كان بل أذرع ، فلا عزاء له.

شمولية النظرة التي جاء بها السامر في هذا البيت كرسها للدلالة على الحياة بشكلها العام،ومنح القارئ مساحة من لانهائية من التساؤل المفتوح على أفق المشهد ، اعتمد حبيب السامر على تشتيت الكلمات وتناثرها مستخدماً عنصر الزمن للتأثير على القارىء ، وهي لعبة ذكاء أراد منها المطلق في الزمن ليكون فضاء كلماته غير ساكن عبر تحريك المشهد باختلاف الرؤى وتجذر مفهموها عند المتلقي ( 1 ) .

غرفة

مرآة تتوسطها، على حائط أملس،

تفضح، أم تكتم خيباتي لأنني عالق”.

يخط حبيب السامر مساحة الحدث بتأني حتى أنه يباعد بين الوصف والتوصيف ،فيأخذ مقاسات الصورة من بعد الحدث نفسه، فنرى أن الموصوف قد تجسد بوضوح في أبعاد صوره الشعرية، يتلاعب على الحقيقة بدراية فيأتيك بها كاملة حتى حين تظن أنك لامست أطرافها ،أحالك إلى لاشيء ( تفضح أم تكتم خيباتي) ،وأنت ،(أقصد القارئ) تبقى بين الحيرى

الصورة الشعرية التي يجسدها حبيب السامر في نصوصه قادرة على ايصال مضمون الفكرة المستوحاة من القصدية الدلالية التي يضمنها النص لتبدوا وكأنها رسمت عن دراية واتقان فعلي  مثلها السامر بألفاظ دلالية تحمل في طياتها عمق الحق ودلالة المعنى. هي تجسيد للحبكة بصورة ناطقة قد أبالغ إن قلت عنها ( صورة مرئية) ذات دلالة واقعية ، هي فلسفة أخرى أنطوت عليها نصوص السامر  فأبدع في التوصيف الدلالي الذي من خلاله جعل القارئ وكأنه يلمس الأشياء الدالة فتتعمق الفكرة ويتنامى الأثر وتسمو الصنعة الشعرية باكتمال أركان الصورة النص والتي تشكل ذات الدلالة والعمق الذي يأتي به السامر في قصيدته وكأنه يداخل فيها سحر الكلمة وجوهر المضمون وتأثيرات الصورة ممزوجة بنكهة موسيقى النص وألوان مايرسم من صور ،وتلك ميزة فلسفية تتسامى في نصه الذي يأخذ طريقه نحو الإبداع.
يرسمُ السامر لوحاته بصدق وصفاء ذاتي ويعطيها إيقاعا” يزف به منارة الوجدان الإنساني في دواخله ، وقد ينتهي بلون يختلطُ مع التراكيب الجمالية ، أو أنه يبرز صورة مجسمة واضحة لواقعنا في ترنيمة متموجة كصخب البحر أو عاكسةٍ للنور كهدوء الشطآن ، فيظل بدراية شفيفة يسهب في رسم الحقيقة كما هي ، ويلج في ثنايا الحياة كأهزوجة حبٍ على أبواب العشق ويرنو كساحر أوشك على مسك الورقة الرابحة ، وينجو في فلك مترف دافيء بمعانيه ، فيضمن للوحته مزيجا” من ألوان مشاعر الحب أو المرارة والألم( 2 ) .

عمل حبيب السامر على تداخل الصور والمضامين في ثنايا النص ،وأفرد أبعاداً تصويرية مدعمة بمساحات وزوايا وصفية للغرفة التي تحتوي المرآة ، فجاء ب(الوسط  والحائط) كدالة مكانية ، وثم كتب في البوح والكتمان تضادان يكمل بعضهما البعض خلق منهما صورة التناقض والترادف ، ثم آتى على التوصيف ( خيباتي) توصيف الحالة التي عليها المتكلم  سواء الشاعر أو من كان المشهد على لسانه، فربما يكون السامر قد نقل عن لسان شخص أخر واصفاً (خيباته) ،ثم جاء بالتحديد ( لأنني) مقرون بالحال (عالق)، وهنا ربما تحتمل مفردة (عالق) الزمان أو المكان.

هذا التداخل يبين قدرة الشاعر على التحكم في مفردات النص ، وتقدير الصورة التكوينية أو التشخيصية للحدث  عبر توظيف الدلالة الزمانية والمكانية، ومنها كما ذكرنا استطاع أن يرسم حدود نصه بدقة، كما تمكن من مزج الوصف والدلالة بقالب الشكل لتظهر الصورة مكتملة الأبعاد جزيلة الوصف رائعة في تكويناتها الموسيقية المرافقة للنص ودقيقة في تفسير الأسباب، لماذا (تفضح) لانني ( عالق).

وربما يقال أن تلك الصورة مبسطة ومستهلكة في النص الشعري وحتى في الأداء، نقول نعم ،ذلك لمن ينظر  بفوقية ومن بعيد للنص الشعري ولايبحث عما وراء الكلمة من معنى قد يصل حد ( النظرة الفلسفية) لتوظيف الكلمة أو المصطلح ، أنا لا أقول أن حبيب السامر فيلسوف وله أراء فلسفية أو نظريات ،ولايدعي الرجل ذلك ،إلا أني ومن خلال نظرتي الخاصة للنص الشعري الذي يكتبه السامر أرى أن هناك ومضة فلسفية في تفسير نصوصه ،والفلسفة في الشعر ميدان فسيح وغني وفيه الكثير من شعر الحكمة والتبصر.

نلمح آثار أقدام ممحوة

توا

بفعل جنون الموج أو ربما.

ثمة تصورات أخرى تلتقي فيها الشاعرية بالفلسفية منها الثنائية الضدية للوجود، والحتمية التي تعني في بعض معانيها كسرا منطقيا للأشياء، وذلك في بحث الفيلسوف عن سر جبروت الزوال والعدم وانعكاساته في سلوك العبث وتصور الاجدوي ، فالحتمية  دون شك وفي ابسط تعريفاتها هي علاقة السبب بالنتيجة ، وقد قدمها الفيلسوف علي وفق منظور منطقه ليحل به إشكالية الحيرة إزاء الموت ، موت الفصول والاشياء والانسان في تصور خال من المرجعية الي نظرة الدين وتفسيره لها . ولذلك وجدنا صورتين فلسفيتين عميقتين احدهما صورة وتصوير لفعل الحتمية، في تصور تشاؤمي ، عدمي وهذا الذي فعله  شوبنهاور ، ومن اثر فيهم من بعده ، او تفسيرها بحالة طبيعية واقعية يلتقي في تصورها الفيلسوف مع القدر الإلهي . وهنا قدمها الفيلسوف محاول في تصور فهم الزوال علي انه حالة طبيعية تمر بها لكائنات حيث تافل وتتلاشي من اجل ولادة جديدة و تحدد وتطور في هذا العالم(3) .

وللسامر القدرة على التحكم بأدوات النص وبمجمل عناصر البناء الشعري والتشكيلي سواء على مستوى المفردات من ناحية أختيارها وتوظيفها أو استخدامها الحسي  وتوظيفها بتوافق مع موسيقى النص وبناءه الصورة واستخدامات الصورة وقدرتها التعبيرية عن النص بشكل كامل ومافيه من حبكة  وتصور وحتى بناء الصور الفلسفية في مضامين النص وتكوينات السرد والتناول الشعري.

استطاع السامر التحكم بمفردات النص الشعري عبر التنقل مابين الممارسة الى الانضباط الذي تتحكم به أدوات الشعر الرصينة ، فالشعر هو نتاج الواقع ، وأن أبلغ الأدب هو الواقعي الذي يتماشى مع التغييرات الطارئة وليس المعزول عنها أو عن بنيته المحددة بأدوات لا يتجاوزها الى غيرها( 4 )   .

1-سعد الدغمان، حبيب السامر شمولية النظرة عبر مرآة الحياة،صحيفة كتابات،25-11-2015.

2-سعد الدغمان، مرجع سابق.

3سعاد خليل، فلسفة الشعر،صحيفة رأي اليوم، 13-8-2013 .

4-ناظم عبد الوهاب المناصير،الشاعر حبيب السامر سموكلماته برؤى خلاقة في الإبداع،موقع المرسى نيوز، البصرة،21-jul – 22.

أحدث المقالات