23 ديسمبر، 2024 1:33 م

حسب أن القارىء سيعترض على عطف الشعر الى الغناء متسائلاً، أما كان حريّاً أن يُعطَفَ الغناء على الشعر فالأول نتاج الأخير؟! ويبدو أن السؤال وجيهٌ آملاً أن لا يعدم الجوابُ الوجاهة. فبالعودة الى نشأة الشعر العربي والوقوف على جذور الشعر سنكتشف لمعة أوردها الاخباريون والرواة، ولطالما مرّ عليها الدارسون خفافاً لطافاً، وهو أن الشعر في أقدمه كان حِداءً فرضته الطبيعة الصحراوية برمالها المنبسطة على مرمى البصر وبانسياب الجَمل (سفينة الصحراء) في مشيه الرتيب؛ ويضاف الى الحداء فنٌ قديم آخر يعتمد على المد الصوتي الرتيب وهو الركباني، وسواء كان الغناء حداء أو ركبانيا فلا بد من وجود شعر يُغنى!

ولما كان الشعرُ لغةً في مادته، فإن جذر اللغة هو التنغيم، أي هي مقاطع صوتية منغمةTonic syllable جهرا أو همساً ومابينهما من درجات صوتية تستدعيها الحالة، فالتحذير من الخطر له نغمته وصوته العالي و الحزن له صوت الندب، والألم له صوت التوجع والفرح له صوت التهليل.. كل هذا مشفوع بإشارات تعبيرية في الوجه أو اليدين Body language ما يُسّهل التواصل بين الناس؛ ولا نريد أن نستغرق أكثر بوسائل التعبير الأخرى كالرسم والنحت وما الى ذلك..

وما زال التنغيم يشغل مجموعة من اللغات Tonal Languages في شرق آسيا كالتايلندية والكمبودية (الخمير) واللاوية، والفيتنامية.. حيث يكون للمفردة الواحدة أكثر من معنى حسب التنغيم ففي التايلندية على سبيل المثال فإن كلمة “ما” بنغمة المد المتوسط تعني ” كلب” وبالمد العالي مع رفع النبرة تعني فعل الأمر ” تعال أو تعالي”؛ وحيث كنت أدرّس في هذا البلد وأحاول أن أجامل الطلبة بمخاطبتهم بلغتهم فطالما ناديت الطالب “كلب” بدلا من “تعال”، وما يُزيل الحرج أن الكلب محترم كسائر الحيوانات والنباتات وفق التعاليم البوذية!

وما أريد أن أخلص اليه هو تحول التنغيم في لغة الكلام الى غناء ولغة الجسد الى رقص مع تطور وعي الإنسان واكتسابه الخبرة الحياتية عموماً والاجتماعية خصوصا..

وعودة الى الشعر العربي نقول أن العرب قبل الإسلام عُنيوا بالشعر وجعلوا القصيدة تخضع للإنشاد أو الإلقاء، الذي سيطرب المتلقي الذي كان يتفاعل مع الشعر من خلال الفم والأذن، وإذا كان الفم ينشد فإن الأذن الخبيرة تميز وكانت أُذن النابغة الذبياني (ت18 ق.ه) حَكَما لها القول الفصل، ومن خلال الأذن جُعِل الأعشى (ت7ه) صنّاجة الشعر!

ولأهمية الإنشاد كان أبو تمام (188-231ه)الذي لا يُحسن الإنشاد – لتمتمة فيه- يختار صبيا حسَن الصوت وحسن الإنشاد يمرنه ليُنشد عنه قصائده؛ وسُمي شعر البحتري (206-284) بسبائك الذهب لِمَوْسَقة ورِقّة فيه.

مع الفتح الإسلامي، تكونت فئة جديدة من مُحدَثي النعم في الحجاز وتجلت بمالمترفين من الشعراء القريشين الشباب، الذين راحوا يشببون بالنساء ويقولون فيهن شعراً ماديا في غزله، رقيقا في ألفاظه ومعانيه وأشهرهم طراّ عمر بن أبي ربيعة (23-93ه)، شاعر قريش وفتاها المُترَف الوسيم، الذي سارت بأشعاره الرُّكبان وحدا بشعره الحُداة وغنى قصائده المغنون. كان هذا الشاعر كثير الاتصال بالنساء ولم يعدم فرصة إلا ويستغلها لنزواته، فكان يخرج أيام الحج ويعتمر ليتصيد النساء الحسان، حتى تمنى لو أن الأيام كلها أيام حج وعمرة:

ليت ذا الدهرُ كان حتماً علينا***كل يومين حِجةً واعتمارا

وله أيضا قصيدة ذائعة في إحدى مغامراته أثناء مناسك الحج، غناها العديد من المغنين قديما وحديثا ومنهم الكويتي عبد الله فضالة، والسعوديان طلال مدّاح ومحمد عبدة:

قف بالطوافِ ترَ الغزال المُحرِما***حجّ الحجيج وعاد يقصُد زمزما

بدراً إذا كشف اللثام رأيتُه***أبهى من القمر المنير وأعظما

عند الطواف رأيته متلثماً*** للركن والحجر المعظم يلثُما

أقسمتُ بالبيت العتيق لتُخبري***ماالأسم؟ قالت من سلالة آدما

الأسم سلمى والمنازلُ مكة*** والدار مابين الحُجون وغيلما

قلت عديني موعداً أحظى به***أقضي به ما قد قضاه المحرما

(ديوان عمر ابن أبي ربيعة/تحقيق محمد فايز، دار الكتاب العربي)

أما الشاعر الخليع العرجي (75-120ه) فإنه كان يشبب بمن يُريد من نساء الولاة والأعيان ويعطي قصائده للمغنين لتذاع وتصبح على كل لسان، ولأجل هذا دفع حياته ثمنا لنهجه هذا! وهو الذي ظل ينشد من السجن:

أضاعوني وأَّيَّ فتىً أضاعوا *** ليوم كريهة وسَداد ثغرِ

(ديوان العرجي، دراسة وتحقيق د.سجيع الجبيلي/دار صادر-بيروت98)

وتعمق هذا الاتجاه في الشعر الأموي حيث شجع الخلفاء هذا النوع من الشعر لأسباب سياسية تبعد الشباب عن الثورة على خلفاء بني أمية الذين هم أنفسهم كانوا بين شاعر وذوّاق مشجع للشعر، ومن يبحث في كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني سيجد ضالته من شعر هؤلاء، ولئن شجع خلفاء بني أميه هذا النوع من الغزل المادي(خلاف الغزل العُذري)، فإن العقوبة ستكون شديدة بحق من يتغزل بنسائهم المُخدّرات، ولعل في قصة الشاعر الأحوص (ت105ه) مثالا جليّا على ذلك حين تغزل بعاتكة بنت يزيد بقصيدته التي تُعَد من عُيون الشعر الأُموي:

يا دارَ عاتكةَ التي أتعزّلُ*** حَذَرَ العدى وبهِ الفؤادُ موكَّلُ

أصبحتُ أمنحُكَ الصُّدودَ وإنني*** قسماً إليكَ مع الصدودِ لأميَلُ

(ديوان الأحوص الأنصاري، تحقيق عادل سليمان جمال/أم القرى)، حيث جُلِد ونفي الى جزيرة دهلك بين اليمن والحبشة وظلّ منفيا هناك حتى إذا مات عمر بن عبد العزيز سُمح له بالعودة الى الشام حيث مات.( عن هذا الرهط من شعراء العصر الاموي يراجع ما كتبه طه حسين في حديث الأربعاء).

وكذلك من يبحث في “تاريخ الخلفاء” للسيوطي سيندهش لمجون الشعر من لدن خلفاء بني أمية من أضراب يزيد بن معاوية (26-64ه) والوليد بن يزيد (88-126ه) الذي جاهر بالكفر والسخرية من الدين! وفي هذا العصر حيث ازدهرت سوق النخاسة وأصبح للاغنياء جلساتُهم ومتعهم وأصبح ثمن الجواري والقيان يعلو ويغلو كلما كانت الجارية تحفظ شعراً وتضرب عوداً وتصدح غناء!! في حين غلب على الشعر في العراق الثائر المضطرب في هذه الحقبة الشعرُ السياسي متمثلا بشعراء الشيعة والخوارج ما وسم الشعر بميسم الخَطابة والدعاية للمذهب والتحريض على الخلفاء الذين انحرفوا عن جادة الدين القويم..

وفي العصر العباسي حصلت نقلة كبرى في المجتمع فلم تعد الخلافة عربية خالصة وأنما تزوج العباسيون من نساء الترك وأصبح للترك نفوذ كبير كما اختلط العرب بالفرس وبالروم، وتغيرت العادات وأصبحت الثقافة مختلطة ومعطياتها الحضارية متنوعة في المأكل والملبس والعمارة وبدأ عصر المدونات الكبرى والمترجمات ما انعكس في الشعر والغناء الذي دخلت به آلات ومعازف جديدة؛ واغتنى الشعر بقيم جديدة لا قبِل للعرب بها من قبل كالغزل بالمذكر وإقصار القصائد على الخمريات وعلى المجون.

واستفاد الغناء من الاشعار التي صيغت على الأبحر القصيرة ما سهل حفظها وتلحينها وغناءها من قبل الجواري والغلمان!! وظهر ملحنون بارعون في الموسيقى والشعر كإسحق بن إبراهيم الموصلي (150-235ه) الذي أخذ عن الخليل بن أحمد الفراهيدي

(100-170ه) أسرار العروض وتوج ذلك بكتاب هام هو “الإيقاع والنغم” وحين عرضه على ضريعه ومنافسه ومخالفه إبراهيم بن المهدي(163-224ه) فقال له إبراهيم: ” أحسنت يا أبا محمد وكثيراً ما تُحسن” فقال إسحق: “بل أحسن الخليل لأنه هو الذي جعل السبيل الى الإحسان” ( قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلاّم/محمود شاكر ص64).

ولم يكن الغناء مزدهرا في عصري السفاح وأبي جعفر المنصور بسبب الاضطرابات وكون الدولة العباسية لم تثبت أقدامها ولم يترسخ بنيانها بعد، وكذلك للطبيعة الدموية الصارمة لكل من الخليفتين، إضافة الى بخل معروف لدى أبي جعفر الذي لقِّب بالدوانيقي نسبة الى الدانق الذي هو سدس الدرهم فكان الخليفة لا يفلت من كفه دانق!

حتى أذا جاء المهدي بدأ الغناء والشعر المغنّى بالازدهار وأجزل العطاء للشعراء والمغنين، حيث يروي الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين):” كان الخليفة المهدي معجبا بجارية يقال لها جوهر، وكان اشترراها من مروان الشامي فدخل عليه ذات يوم مروان الشامي وجوهر تغنيه، فقال مروان:

أنت ياجوهر عندي جوهره***في بياض الدرة المشتهره

فإذا غنّت فنار ضرّمت***قدحت في كل قلب شرره

فأمر المهدي بطرده شرَّ طرد ثم قال لجوهر: أطربيني!

أما الغناء والشعر في عصر هارون الرشيد فحدِّث ولا حرَج، فقد لمع مطربون ومطربات، ولو استغرقنا وفصلنا لضاق المجال وهو ليس موضوعنا؛ إذ طبقت شهرة العصر “الذهبي” الآفاق شرقاً وغرباً وعرّفت به ليالي ألف ليلة وليلة خير تعريف رغم المبالغة فقد كان البذخ والثراء والعطاء للجواري والغلمان والشعراء عطاء مجزياً على حساب عموم الشعب الكادح الذي لم يصور معاناته المؤرخون ولا الشعراء!