كثيرا نتحدث عن العدالة ونطالب بها، مع أن الكل لا يتفق على مفهوم واحد للعدالة. ورب سائل وهل للعدالة إلا مفهوم واحد؟ ومعروف أن ما تعنيه هذه المفردة من معنى لا يعني الكثيرين بالقدر الذي يعنيه ما يعود عليهم من فائدة إذا ما تحققت.
لا يتفق الناس في حالة ان تحققت العدالة إلى ما ستؤل إليه احوالهم. فبعضهم لا يرتضي أن تؤؤل الأمور إلى ضد ما يريد، فحينها لن يرى بتحقيقها عدل. إن المطالب العادلة كما يراها كثيرون هي التي تتوافق مع الأهواء في مثل هذه الحال وعلى هذا الأساس، وكذلك على أساس ان رضى الناس غاية لا تدرك لاختلافهم في كثير من الأمور، فهم لا يتفقون على مفهوم العدالة رغم أن الجميع يطالب بها. ويبقى ما في النفوس باطنا.
عدالة البشر كامنة في عقولهم، وإن كان من بينهم ذلك العادل الذي يؤمن بوجوب أن يأخذ كل ذي حق حقه بلا مغالاة ولا محاباة، فالأغلب أنه لن يجد تلك الفسحة ليعمل على ذلك المبدأ وتحقيقه، فما هو عدل بالنسبة له باطل بالنسبة للآخر. كم من الناس من ارتضى بحكم عادل، وكم منهم من ارتضى ان يحوز بالقدر الذي يستحقه، وأن يحوز الآخر بما يستحقه. غالباً يريد أن يحوز الأكثر والأحسن وان لم يكن يستحق، إن الأمر مرتبط بالحق، ولكن أكثرهم للحق كارهون. وهكذا، يبقى ميزان العدل البشري ميزانا وهميا لا يمكن العمل به، فالعامل به منبوذ، وهو ثقيل ومؤلم على من طبق عليه.
العدل صفة إلهية، وميزانه واحد يطبق على كل الخلق. لقد جعل الله تعالى العدل نقيض الظلم. فيعرف الظلم متى ما فقدت العدالة، وبفقدانها يسلب المرء حقه في أن يأخذ ما له من حقوق وتعطى للخصم، ما يحمل على الحقد والغضب، والقهر والمرض. وحتى نعي المفهوم الأدق للعدالة، فنحن نقف عند تكبر إبليس على خالقه، وتمرده عليه، وما ان طلب من ربه بقوله انظرني..جاءه الرد الإلهي العادل بالقبول، بل أمره وسمح له في ان يستعمل ويستخدم كل ما لديه من قوة وسلطان قد منحهما في حربه ضد الحق، بقوله تعالى ( واجلب عليهم بخيلك ورجلك..) كل هذا، مع أن الخالق قادر على سحق إبليس بما وكما ومتى شاء. إنما اقتضت إرادته ان تكون حرباً، ولا بد ان تكون الحرب عادلة، فسلطان الله تعالى أقوى، وقدرته أعظم وهو من خلق، إلا أنه العادل، الصبور، لا يقضي على إعدائه وهم أصغر وأضعف حتى يمنحهم الفرصة ليحاولوا أن يثبتوا ما يظنون ويحققوا ما يريدون، فيعرفوا بعدها أن كل ما حاولوا وأرادوا هو الباطل، وأنه لن يكون. لذا، من العدالة للبشر أن لا يتجاسر قويهم على ضعيفهم ولا ينازل إلا نظيره. فكيف يتصرف الخصوم من البشر، هل يعطون فرصة لعدوهم لتكون المعركة بينهم متكافئة عادلة. هل يعمل دعاة الحق على أن يمنحوا الآخرين فرصة ليثبتوا أنفسهم وإن كانوا يضنون أنهم على الباطل.
أنظمة الغرب التي ترى أنها الأقوى، كيف تواجه من تظنهم ضعفاء؟ كثيراً ما تبرر تلك القوى سطوتها وتطاولها على الأمم والشعوب وبشكل خاص الإسلامية على أنهم إرهابيون ولا يستحقون الحياة، فلإسلام بنظرهم أو كما يريدون ان يفهموا وليس كما فهموا، إنه دين إرهاب، ويدعون إيمانهم بمبدأ إلهي اخلاقي إذا ضربك أحد على خدك الإيمن فاعرض له خدك الآخر، ومن اخذ رداءك فاعطه ثوبك.. وهل أن مدعي هذا المبدأ يقبلونه على أنفسهم ويعملون به حقاً، وإلى إي حد يرتضونه؟؟.
نقول إن المسلم لا يكون مسلما إن لم يؤمن بمبدأ المسامحة. ولو ان أنظمة الغرب تؤمن بهذا حقا، فلماذا يهاجمون الضعفاء في كل بقاع الأرض، لماذا يسخرون قواهم الهائلة ضد من لا يملك قوتا ولا قوة، لماذا هذا التفرعن على شعوب أضناهم الجوع واهلكتهم الفاقة. لماذا يضربون كل من له تاريخ، كل من له كرامة. لماذا تستعمل أنظمة الغرب السياسة مع غيرهم ممن يملكون بعض القوة، والقوة مع مسلوبي القوة والإرادة.
لا نعتقد أن مبدأ المسامحة والصبر على عدوان الآخر يعني دائماً على طول الدهر وفي كل الاحوال، وإلا فهذا ليس بدين الله، إذ لا يرتضي الله لعباده الخضوع، ولن يقبله إنسان حر على وجه الأرض، إنسان أراد له خالقه الكرامة في الدنيا والآخرة. فإلى إي حد ومدى يصبر ويسكت من انتهكت حرمته، وسلبت حقوقه.. هل يكون رده خذ المزيد؟ كذلك لا نرى حقاً فيما يعرف من الحق بين عموم البشر على أساس القاعدة الآتية: إن العدالة التي تريد ان أمنحك إياها لن تتحقق إلا بعد أن أسلبك ما أظن انه حق لي، ولا أرى لك جدارة فيه، فحينها ستكون العدالة في أن ننظر إليك من أبراجنا، والنظر إليك من الأبراج العالية ستجعلنا نراك ضئيلا، وحينها أيضا لن نستطيع أن نحكم عليك إلا بالضآلة والضعف، ولا قبل لك عندنا. بل سنرى ليس من العدالة أن نجعل لك مكانا بيننا. هذا إن لم نفكر في القضاء عليك بسهولة وبشكل نهائي إذ نحن الأقوى، ولربما يأتي اليوم الذي تطالب فيه بحقوقك، وتنقلب علينا، فلا بد أن نتحلى بالشراسة والغلظة بحسب الحكمة! أو القول الشائع إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب.
هذه عدالة البشر وليست عدالة السماء. عدالة ترى أن على الإنسان أن يكون ذئباً في كل الأحوال. ونرى إن من العدالة أن لا نستقوي على الضعاف، بل على من يستقوون علينا، وان لا نمنح الآخرين ما يرونه حقاً وقد سلبونا إياه. لذا، وإن كان لا بد من ذلك القول، فالأجدر أن يكون إن كنت بين الذئاب فلا تكن إلا ذئبا.