23 ديسمبر، 2024 6:39 م

كان بناء بغداد الذي استغرق أربع سنوات (145-194ه) حدثا مِفصليا ليس في تاريخ الحضارة والتمدن الإسلامي وحسب بل في التاريخ الإنساني؛ فهذه المدينة التي أراد لها بانيها الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور (خلافته 136-158ه/ 754-775م) أن تكون عاصمة إدارية وعسكرية،بناها لهذا الغاية مدوّرة ليكون مقره في مركزها دانياً من ثُكنات ودواوين الدولة؛ وسوَّرها بسور ذي أربع بوابات تحمل أسماء الحواضر: خراسان والشام والكوفة والبصرة..ومن المفارقات الاجتماعية هو أن أهل الزهادة من الفقهاء والمتدينين قد حرّموا استملاك الأراضي وأقروا بحُرمة الصلاة والوضوء بأراض مستملكة لاعتقادهم بأنها أراض مغصوبة! (الخطيب البغدادي؛ تاريخ بغداد ج1 المقدمة).

ومع توسع الدولة العباسية توسعت دارة الخلافة بغداد أيضا لتصبح أشهر عاصمة في العالم، تحفل بدور العلم المزدهرة وتصبح قِبلة للفقهاء والعلماء وطلاب العلم والشعراء وأرباب الفنون المختلفة من مغنين ومغنيات مقربين من الخلفاء اعتباراً من الخليفة أبو عبد الله محمد المهدي (خلافته:158-169ه/775-785م) الذي توسعت الدولة العباسية شرقاً وغرباً في حقبته.. نذكر هذا الخليفة لمفارقات فيه، فهو الأكثر تشدُداً على “المارقين” من الدين والملحدين حيث كان القتل بالمجان -على الشبهة- حماية للدين الحنيف؛ ومن ناحية أخرى ففي عصره كانت بداية عصر الجواري والغلمان والشعر المكشوف فما الغرابة؟ وهو نفسه شاعر ومحب للغناء والدنيا (ومن يقرأ: تاريخ الخلفاء للسيوطي، سيرى من أمر هؤلاء الخلفاء عجبا!)، فلنسمع لهذا الخليفة الغيور على الدين ماذا يقول في جارية له تتمنع دلالاً (م.الرمل):

ظفرت بالقلب مني- غادةٌ مثل الهلالِ

كلّما صحّ لها ود- ي جاءت باعتلالِ

لا لحب الهجر منّي- والتنائي عن وصالِ

بل لإبقاء على حب- ي لهاخوف الملالِ

أما مايقوله (أي المهدي) في نديم له عبد الله بن بزيع الذي عاش معه في نعيم ما بعده من نعيم (م. الرمل):

ربِّ تمم لي نعيمي – بابي حفص نديمي

إنما لذة عيشي – في غناء وكرومِ

ولا أود الاستغراق وإنما أردنا تسجيل بداية عصر الغناء والشعر والجواري والغلمان والتي انعكست في الشعر والشعر المغنّى.. وسيستمر هذا الحال وتُصرف الأموالُ الطائلةُ عبر ابنه هارون الرشيد وولديه الأمين ثم المأمون … حتى تبدأ حالة التمزق منذ نهاية المتوكل المأساوية والمعتز وابن المعتز الشاعر الناقد (الخليفة ليوم وليلة) حيث تشهد تمردات الجيش الذي يشكل إغلبه الأتراك المتحكمون من عشير وصيف وبغا.. الى النهاية الكارثية بسقوط بغداد عام (656ه/1258م) الذي كان خليفتها المستعصم في لهو وبغداد تضرب بالمنجنيق وكان هو في لهو وغناء مأخوذا بالراقصة الصبية الأثيرة لديه التي جاءتها ضربة منجنيق فحزن عليها وأمر بتغطية النوافذ بالحديد ظنا منه بأن الحديدَ عاصِمُه.

ومن ناحية اخرى ازدهر الشعر بانواعه وكان زاداً للملحنين الكبار من أمثال إبراهيم وإسحق الموصليين ومن ثم زرياب الذي هاجر الى الأندلس، كما نبغ نقاد ومنظرون للموسيقى والغناء أمثال إسحق الموصلي “الإيقاع والنغم” وأبي الفرج الأصبهاني “الأغاني” والفارابي (ت339ه) “كتاب الموسيقى الكبير”، وكان عصر المامون فاتحة للثقافة عموما وقد أنفق الكثير من أجل ازدهار التأليف وفتح أكبر مكتبة في عصرها هي دار الحكمة والتي كانت دار تأليف وترجمة وتوثيق وتجليد الكتب والوثائق وفهرستها وحفظها، وبفعل ترجمة الفلسفة الإغريقية ازدهرت الفلسفة وأعطت أكلها في حركة المعتزلة وبدأت الفلسفة تدخل الشعر والأدب وظهرت أمهات الكتب في شتى العلوم والمعرفة..

ولبس الشعر والغناء والموسيقى ألوانا جديدة فقد تأثرت الموسيقى واغتنت نظرياتٍ وتطبيقات، فلم يعد الغناء ارتجالا وتنغيما لقصار القصائد بل أصبح هنك شعر يغنى وأصبح الملحنون أنفسهم ذوّاقي شعر أو شعراء؛ وزاد الأمر تعقيدا بظهور أنغام جديدة لا قبِل للغناء العربي بها وأصبحت المعيارية بحاجة الى تدوين هذه الأنغام للمحافظة عليها ولأجل التثقيف بها ونقلها عبر تعاقب الأجيال، وكان لجهود أبوالفرج الأصفهاني (284-356ه/897-967م) مبينا في سفره العظيم “الأغاني 25 جزءً” أهمية عظمى لا في حفظ المُغنّى من الشعر الذي أدرجه كصوت وبيان لحنه وصفياً ثقيل أو خفيف.. وإنما في ذكر سيرة الشاعر وشعره وتغطية أخباره وعلاقته بزمانه من خلفاء وأمراء أو وزراء وما رافق ذلك من أحداث، أضافة لمغني هذه الأشعار وأخبارهم جوارياً كانوا أم مغنين!

وزاد العالم الموسوعي الأصفهاني على ذلك بكتاب هام جدّا وهو “الإماء الشواعر” وآخر هو “أدب السماع” مما يثبت طول باعه في الغناء والموسيقى والشعر (راجع لكاتب هذه السطور مقالتين: في رثاء الحيوان على عدة مواقع ونشرت في عدة صحف) ولا نُريد أن نشير الى تغطية مؤلفاته في مختلف المواضيع بما فيها التاريخ واللغة والنحو..ولكن من الضروري التشديد على أنه استخدم النظام الأغريقي) في تدوين الألحان، وقد اجتهد الراحل الدكتور داوود سلّوم في محاولة لتحليل الجانب النوعي لهذه الألحان مع دعوة الموسيقيين لتدوينها بالنظام الحديث للنوطة حيث جاء ذلك في دراسته في مجلة الأقلام في الثمانينات..

وفي نهاية العصر العباسي (750-1258) حيث قطع الشعر والغناء مسيرة حافلة حين غدت الذخيرة المعرفية ثرّة ولم يعد الغناء (والموسيقى) عربياً صرفا بل تاثر بالغناء الفارسي حيث دخلت أنغام لشعوب أخرى فمن الفارسية مثلاً دخل، شور، أفشاري (أوشار)، ودشتي (دشت) وجهاركاه وهمايون..اضافة الى العربية من حجاز وصبا، وبيات (مشترك بين العربية والفارسية والتركية). وستستوعب هذه الانغام/المقامات أولى القصائد المغنّاة من عيون الشعر العربي. وتماماً مثلما ظهرت في الغناء كذلك في الشعر مفردات دخيلة، وأغراض جديدة فيه كالغزل بالمذكر، وقصائد ذات وحدة موضوع في الخمر أو الغزل كما خرج الشعر عن مفهوم عمود الشعر وظهر صراع نقدي بين المطبوع والمصنوع…

في نهاية العصر ظهر عبقري ترك أيما أثر في مسيرة الموسيقى العربية وهو العالم الفذ صفي الدين الأرموي البغدادي (613-693ه/1216-1294م) الذي كان نديما لآخر خليفة من بني العباس المستعصم بالله، ويعتبر هذا العالم نابغة في الغناء والموسيقى والشعر والتاريخ والادب والخط… وقد وضع اسس التدوين الموسيقي وفق النظام الرياضي (الفيثاغورسي) ومن أعظم مؤلفاته “كتاب الأدوار” الذي يعَد أنفس كتب الموسيقى العربية، وكتابه الثاني المهم هو “الرسالة الشرفية”، وقد جاء في كتبه ذكر معظم المقامات العراقية المعروفة اليوم بشكل ارجوزة (راجع مقدمة كتاب دليل الأنغام للخبير الراحل شعوبي إبراهيم)، وقد وصفه العالم الاسكتلندي هنري جورج فارمر بالعبقري(مصادر الموسيقى العربية، تأليف: ه. ج. فارمر، ترجمة وتحقيق: حسين نصار)؛ واعتبر الإنكليزي هربرت باري سلّمه الموسيقي أكمل سلّم على الإطلاق (راجع: الموسوعة الموسيقية، حسين قدوري، بغداد 1987 ص96).

ولمعرفة حياة الغناء والمغنين ووصفها بشكل دقيق سأبدأ ببعض من رائعة ابن الرومي (221-283ه/836-896م) العاشق للمطربة وحيدة وكيف يصف غناءها الهادىء وتنقلها بالمسارات اللحنية جوابا وقراراً واشباعها للقفلات بوصف مذهل(الخفيف):

يانديميّ تيمتني وحيدُ – ففؤادي بها معنّى عميدُ

تتغنى كأنها لا تغنّي – من سكون الأوصال وهي تجيدُ

لا تراها هناك تجحيظ عين – لك منها ولا يدِّرُ وريد

مدّ في شأو صوتها نفَسٌ كا – فٍ كأنفاس عاشقيها مديد

فتراه يموت طورا ويحيا – مستلذ بسيطه والنشيد

وترُ العزفِ في يديها مصاهٍ – وترَ الزحفِ فيه سهم سديد

بينما له في مغنيّة أخرى رأي مغاير (البسيط):

شاهدتُ في بعض ما شاهدتث مُسمعةً – كأنما يومها يومان في يوم

تظل تُلقي على من ضم مجلسُها – قولا تقيلا على الاسماع ماللومِ

لها غناءٌ يُثيب اللهُ سامعَهُ – ضعفي ثواب صلاة الليل والصومِ

ظللتُ أشربُ بالارطال لا طرباً – عليه بل طلبا للسكر والنومِ

أما الشيخ الخطيب الحصكَفي (459-551ه/1067-1156م) من حصن كفيا من أعمال ديار بكر جاءت أخباره في ( سير النبلاء للذهبي، وطبقات الشافعية للسبكي) فرغم كونه خطيب جامع تتلمذ ايضا على الخطيب التبريزي في بغداد فكان مولعا بحضور حفلات الغناء فلنسمع كيف يصف المغني (م. الرجز):

ومسمع غناؤه – يبدل بالفقر الغنى

فقلت ن بينهمُ – هات أخي غنِّ لنا

فانشال منه حاجبٌ – وحاجب منه انحنى

وامتلأ المجلسُ من – فيه نسيما منتنا

وما اكتفى باللحن وال – تخليط حتى لحنا

وصاح صوتا نافراً – يخرج من حد البنا

وما درى محضره – ماذا على القوم جنى

فذا يسِّد انفه – وذا يسد الأذنا

وقلت ياقوم اسمعوا – إما المغني أو أنا

وحين ولّى شخصُه – قرأت فيهم مُعلنا

الحمد لله الذي – أذهب عنّا الحَزَنا

* للموضوع صلة