17 نوفمبر، 2024 5:39 م
Search
Close this search box.

في الشعر والسوسن وترتيب الأيام

في الشعر والسوسن وترتيب الأيام

وحدك، أو صحبة أصدقاء لك، تقتطع من خيلاء روحك لحظة، ترزم حقائبك فيها وتمضي، بعضُهم يدعوك لتقول شيئاً في الشعر والرأي والغواية، طويلة هي الطريق الى هناك، تبدأ بالنخل والأنهار ثم تنفتح في بريّة بعيدة، مضاءة بالرمل والجياد، لتصل النخل ثانية، ليس نخلك، وليست مياهك التي تضيق أنهارها، هي بين الجبل الصاعد والسفح المنفتح، بلاد واسعة تلك التي تنتمي لريحها وأمطارها الآن. أكانت الحكاية مطراً ؟ أكان الشعر غواية ؟ ربما. لكنه السوسن بكل تأكيد.
تقترح على قلبك صمتاً يطول، تلجم كفيك، وتسميه زهداً، وهي تندفع وتحترق، لكن لا عليك، إن هي إلا لحظة أنت صانعها، لا محالة، سيهجر الواقفون على الشعر المنصة، وترفع السلالم القصيرة عن المسرح الذي سيظلم الليلة، ويعبث بالكتب من هو عابث، وستسير المركبات عائدة، فارغة من أصحابها، وسيتخذ صديقك، الذي شاركك الرحلة الممتعة طريقاً الى الأودية والرمل والجياد، وسيهطل مطر كثير، يبلل الاسفلت إمعاناً في النسيان والنأي، فلا تحمل على الساعات إصراً، هي لك ما حييت، هي ضالتك من الليل، وهي قلقك الذي لن تفر منه إلا إليه.
نسيت خطاك التي عبرت الستين بها، ذات يوم، وكنت جاهدت تفتح أدراجاً كثيرة، للثياب مرة، وقد خذلك خصرك في قميص تحبّه، وللبحث عن وثائق أضعتها، مرة أخرى، وعن صديق ضاع في باحة الأمل أو العودة منه، ومثل قلبك الذي خذلك ذات يوم، وقفت، تنتظرُ في الشارع الطويل عن من سيأتيك بالمفتاح، الذي إنْ زوّلته في قفله، انفتحت لك اسارير الكون، ووقعت بين يديك خزائن المعنى. هل في الحقيبة ما ستتخلى عنه من الورق والثياب، أيما والله. هل في الجسد ما يخذلك، هل في المرآة إمراةٌ غير التي تطوّقك؟ أزح وسادتها، واقتطع لها من السرير حقلاً، هي سوسنتك التي إن لمستها تضوّع عطراً، وفرّت جبال، وتداعت اودية .
أغلقت الباب بمفاتيحه الثلاثة، وقلت: لكِ المفاتيحُ كلُّها، سلسلة المعدن وحلقات الجمع بين الأقفال، فأخذتْها، ولكي تفتح وتغلق أبواب قلبك الكثيرة، كان لزاماً عليك أن تغفو قليلاً، وهذا الليل تنامه الناس، لا أنت، أتنام عين ليس لها من ليل الناس إلا سوسنة واحدة ؟ فصرت الى حافة السرير نصف نائم، ذئب عميق الطويّة نائم في عينك، لم تنم، وما ينبغي لك، ها قد أخذت السوسنة السرير كله الى غابتها، شدّت شعرها القمحي بفراشاته وأوديته البعيدة وشقائق نعماه ونامت.
كان الفجر صوت مسجد بعيد، وكانت الأنهار، لا أنهارك الكثيرة، هناك، نهرَ بغداد الوحيد، اقصد، نائماً، نائمةً، لمّا تلذ بين الماء والطين حمائُمها بعدُ، ومن عطل في الستارة تجيئك ريح باردة، سكرانة، من أكرة باب الغرفة، يتسلل نور مصباح بعيد، لعله الذي نسيتُ عند مشجب الملابس. ومن ثلاثة أزرار في قميص نومها يندلق نصف كأس من نبيذ أبيض، هذه المرة، فيما الكأس الآخر ما زال محجوباً، يحاول، فامدُّ يدي مستعينا بما ظل في أصابعي من سكْر وجنون، فينسرح شعرٌ وتبرق مقلة، وترتفع ذراع، فتطير عصافير ثوبها لتحط مع بلابل قميصي، فتشرأبُ غابة، ويندفع جدول، وتحاولُ غيمة وينخسف سلّم، ويأرُّ ديك وتموء قطة، لا أنا بقادر على استباقها الى ذلك، ولا هي عاجزة عن اللحاق بي، حتى ادركتنا شهرزاد بحكايتها الأخيرة، حيث نودي أنْ سيطوي الأميرُ كتابه، وستنتظرُ السوسنة سنة، سنتين، لا أدري!! فالسوسن منشغل بترتيب الأيام، يعجزها صبرٌ.
نقلا عن المدى

أحدث المقالات