23 ديسمبر، 2024 4:48 ص

في الركض خلف التكنوقراط، ضاع الخيط وداخ الخيّاط 

في الركض خلف التكنوقراط، ضاع الخيط وداخ الخيّاط 

لا تحس أن هناك أي أثر للدراسة والتخطيط خلف أي مظهر من مظاهر إدارة الدولة السياسية والإقتصادية، بل وحتى الأمنية والحربية بالرغم من أن العراق يعج بالعلماء المختصين والخبراء المهنيين، كما يقول أحد مُحَدِّثِيَّ الكرام على الفيسبوك صباح هذا اليوم الإثنين 14 آذار 2016.

هناك الكثير من العشوائية والقليل من الإنضباط والإلتزام، أما سلّم الأولويات فلا وجود له ألبتّة. عادة في أوقات الحروب والأزمات الوطنية سواء كانت سياسية أو إقتصادية، ينصب إهتمام الجميع على رص الصفوف وتوحيد الجهود وتمتين الجبهة الداخلية وتوجيه كل قوى وموارد المجتمع الى الوقوف في وجه المخاطر من أجل عبور عنق الزجاجة بسلام وأمان.

إسرائيل مثلاً منذ قيامها عام 1948، تلجأ ، في مواجهة التحديات، الى تشكيل حكومات وحدة وطنية أو تكتل وطني تشترك فيها كافة الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان لغرض عدم تشتيت المسارات والإستفادة من الجميع وتسخير كافة الطاقات المتاحة. قرأنا ذلك عند قيام الدولة “الكيان المغتصب”، قبل وإبّان حرب حزيران، في حرب الإستنزاف مع مصر، بعد دخول لبنان والأزمة الإقتصادية غير المسبوقة هناك وتسجيل معدلات قياسية في التضخم ، قبل الوضع المضطرب الذي وجدت إسرائيل نفسها فيه بسبب حرب الخليج ، وفي عدة مناسبات تعادلت فيها نتائج الإنتخابات أو تقاربت الى فرق الصوت الواحد بين الحزبين النافذين، مفضلةً عدم الذهاب الى إنتخابات مبكرة غالباً لما تحمله من تهديد للآليات الديمقراطية، وذلك في 1988 و1999 و2012، وربما فاتني غيرها.

في اليونان وصلت الأزمة الإقتصادية التي أعقبت الكساد العالمي الشهير 2007-2008، الى حد إعلان الإفلاس، ورأينا كيف أن الحكومات اليونانية استطاعت ضبط إيقاع الشارع المهتاج الذي شهد بعض الإحتجاجات العنيفة، بل أن حكومة تسيبراس اليسارية دعت الى تشكيل حكومة إئتلافية، وأكثر من ذلك، لجأت الى الإستفتاء الشعبي للمضي في سياساتها التقشفية والتفاوضية مع شركائها في الإتحاد الأوربي، بمعنى أنها أخذت موافقة الشعب على ما ستقوم به مقدماً وليس مثلنا، الشعب آخر من يعلم وتأتيته القرار من حيث لا يدري، وعندما تسلحت الحكومة بتأييد الشعب، راحت تفاوض بقوة وتمكنت من الحصول على عدة حزم إنقاذ كبرى، استطاعت بواسطتها أن تعيد بها بعض العافية لإقتصادها وجعلته يقف على رجليه على الأقل ويتفادى المزيد من الإنهيار، رغم أن اليونان إضافة الى أزمتها الخانقة أصبحت الواجهة الكبرى لمعضلة موجات اللاجئين التي تعصف بأوربا كلها.

إذن تحصين الجبهة الداخلية على الصعيد السياسي والشعبي هي المثابة التي يجب أن تنطلق منها الحكومات والأحزاب السياسية لمواجهة مشاكل البلاد الطارئة والتي تهدد مصالحه بشدة وربما وجوده، وهو عكس من يحدث لدينا بالضبط، رغم أننا نعاني من كل الأزمات المذكورة آنفا، السياسية والإقتصادية والأمنية والإجتماعية مجتمعة ودفعة واحدة، والمصيبة على رؤوسنا أعظم ما تكون.

رئيس الوزراء لديه حكومة وحدة وطنية تساهم فيها كل الإتجاهات السياسية والمكونات الأجتماعية والمناطقية، وهي حسب أعراف إدارة الدولة وقيادة الحكومة اللتين ضربنا لهما مثلين، توليفة مناسبة، نظرياً على الأقل للتعامل مع وضع البلد المضطرب من كل ناحية، لكنه بدلاً من توظيفها لتحقيق المنهاج الحكومي الذي يتضمن نفس الشعارات والأهداف التي يصدح بها الآن ويصدع ويعد ويمنّي، مثل إصلاح المؤسسات وإنعاش الإقتصاد ومكافحة الفساد ومحاربة الإرهاب وتحرير الأرض والمصالحة الوطنية، يزعم لنا الآن بع سنة ونصف أنه سوف يحققها من خلال حكومة التكنوقراط، ليدخل نفسه – أي السيد رئيس الوزراء – من جديد في متاهة تشكيل الحكومة وترشيح الوزراء وتشكيل لجان تقييم مؤهلاتهم وخبراتهم، وفتح باب المساومات وبيع المناصب المعروف، وكل من يظن أن العبادي يمكنه أن يتجاوز هذه المعايير الفاسدة واهم، وهو ذاته يعلم أي نفق مظلم متشعب طويل سلك قبل أن يستلم ورقته من الرئيس فؤاد معصوم، والعبادي الموهووس بتغييرات الحكومة لم يقل لنا في البداية أين توقفت أو تعثرت عجلة المنهاج الحكومي؟ وهل سوف يتمكن من تجاوزها بحكومة التكنوقراط؟، وهل جلس مع نفسه أو مع مستشاريه ناهيك عن رجالات كتلته وحلفائه، وبحث إمكانية تشكيل مثل هذه الحكومة، وقدّم لهم المبررات المقنعة والمسوِّغات الضرورية، هل شرح لهم رؤيته وخطته لتحقيق شعاراته وأهدافه، أم أنه إستيقظ من النوم وصاح مثل فيثاغورس، وجدتها وجدتها وأدخل العملية السياسية برمتها في متاهة.

سنة ونصف مرت من عمر حكومة العبادي وهو غارق في المتاهات السياسية مع حلفائه تارةً وشركائه تارة أخرى، ولم يتقدم في أي من ملفات المنهاج الحكومي، بل أنها جميعا تقريباً تراجعت بشكل خطير، والله تعالى وحده يعلم ماذا كان سيحل بالبلد لولا وجود وكلاء! (أمريكيين وإيرانيين) يتصدون لداعش.

وما زاد الطين بلّة، مودة المظاهرات.العراق لا يدار بإرادة الشعب لكي تفعل المظاهرات أفاعيلها ويكون للرأي العام دور في صناعة القرار مثلما لجأ رئيس الوزراء اليوناني في أوج أزمته الى الشعب وعرض عليه سياسته التقشفية الداخلية وجدول مفاوضاته الخارجية مع شركائه الأوربيين. نحن بلد متعدد المكونات ، متشعب الطوائف نسير وفق التوافق السياسي وليس الأغلبية السياسية، ما يراه أحد المكونات صواباً ليس بالضرورة أن يكون كذلك بالنسبة لمكون آخر، ولو كنا في نظام أغلبية سياسية لهان الأمر ووجب على الأقلية أن تمتثل لرأي الأغلبية، ولكن هذه المعادلة لا تشتغل في نظام التوافق السياسي. عدم موافقة مكون أساسي مثلا وانسحابه سوف يجعل العملية السياسية مشلولة وقد تنهار أو تفقدها الشرعية كأقل تقدير.

أخيراً، لا أدري كيف يستقيم أن يخوض بلد ما حرباً شعواء في مختلف الإتجاهات وثلث أراضيه محتلّة وخزينته خاوية والناس تريد تطويق الدولة وافتراش الشوارع، وزعاماته في تناحر محموم وتنافر شديد؟[email protected]