22 نوفمبر، 2024 3:39 م
Search
Close this search box.

في الذكرى/59 لأول إنقلاب عسكري تركي القدر الذي أتى بـ”جمال كُورْسَل” ليكون قائد إنقلاب مايس/1960

في الذكرى/59 لأول إنقلاب عسكري تركي القدر الذي أتى بـ”جمال كُورْسَل” ليكون قائد إنقلاب مايس/1960

مقدمة
إستعادت “تركيا” في هذه الأيام الذكرى السنوية/59 لباكورة إنقلاباتها العسكرية الأربعة التي وقع أوّلها يوم (27/مايس/1960)، وما أُلصِقَ من مزاعم بحق “الجنرال جمال كورسَل” كونه قائداً له.
ولكثرة الأخطاء التي تلمّستُها عند تصفّحي المعلومات المتاحة باللغة العربية عن هذا الإنقلاب فقد وضعتُ المراجع الـمُعرّبة المنقولة من مثيلاتها التركيّات جانباً، وإعتمدتُ عدداً من المصادر والمراجع التركية الرصينة، كونها تمتاز بوافر الدقة من الحقائق التي نأت عنها مثيلاتها العربيات لأسباب أو لأخرى، ناهيك عن ركاكة التعريب في الأسماء والأحداث والوقائع وحتى التواريخ، وتوصّلتُ إلى أن “الجنرال جمال كورسَل” لم يكن قائداً لهذا الإنقلاب ولا يعلم به مطلقاً بل أن أحداث الساعات الأولى هي من قذفته إلى الساحة من حيث لا يعلم ولا يدري؟؟!!
وذلك ما أحاول تسليط بعض الضوء عليه في هذه الدراسة.
الإنقلاب والثورة
والآن فلأخصّ (القارئ العربي) بمفهوم الـ(إنقلاب/iNKiLAP) -الذي إستخدمتُه عنواناً لهذه الدراسة وكررته بكثرة- كونه لدى الأدبيات السياسية التركية يتعاكس تماماً عن مرادفه باللغة العربية، لأن “الإنقلاب التركي” يشير إلى (ثورة إصلاحية) على عكس المفهوم العربي لـ(الإنقلاب) الذي لا يأتي سوى بحكومة عساكر يتبعون أساليب دكتاتورية في الحكم… أما المصطلح السياسي التركي (ضربة/DARBE) فهو المرادف للـ(الإنقلاب العربي) الذي يكمن في خلجاته نوعاً من الغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد والوعد.
الأحزاب بعد تأسيس الجمهورية التركية
وقتما تفكّكت الدولة العثمانية الكبرى وتشكّـلت “الجمهورية التركية” عام (1923)، فقد أسّس “مصطفى كمال آتاتورك” بزعامته “حزب الشعب الجمهوري” المعروف إختصاراً (C.H.P) بمثابة حزب سياسي أوحد حتى وفاته عام (1938)، بل وظلّ من بعده على ذات النهج تحت زعامة خليفته “عصمت إين ئونو-ISMET IN ONU ” –(وليس إينونو)- لغاية أواخر (1945)، قبل أن يقدم “محمود جلال بايار” -رئيس الوزراء الأسبق في عهد “آتاتورك”- وإلى جانبه النائب الشاب “علي عدنان أرتـَكين مَندَرَس” (وليس مندريس) -وبصحبتهما أصدقاء آخرون في ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية- على الإنشقاق من حزب (C.H.P) مؤسّسين حزباً سياسياً مرخّصاً أسمَوه “الحزب الديمقراطي/D.P”، والذي علا صيته بسرعة غير متوقعة لطروحاته التي إستساغتها قاعدة عريضة من المجتمع حتى أحرز (62) مقعداً بإنتخابات عام (1946) رغم كونه في أوّل الطريق… ولكن ما أن آن أوان الإقتراع التعددي العام لسنة (1950) حتى إكتسح هذا الحزب مقاعد مجلس النواب التركي بواقع (318) مقابل (32) فقط لصالح منافسه (C.H.P) ليرأس “عدنان مَندَرَس” يوم منذ (22/مايس/1950) حكومة ذات أغلبية كاسحة أجرى عن طريقها تغييرات جريئة وجوهرية على الواقع الذي فـُرِضَ على “تركيا” طيلة (ثلاثة) عقود إنصرمت، والتي نالت إستحسان معظم الجماهير، حتى حلـّت إنتخابات (1954) ليتعاظم عدد مقاعده إلى (326) مقابل تراجع (C.H.P) إلى (24) مقعداً فحسب!!!
خطوات “مَندَرَس” للإصلاح
كانت نظرة “عدنان مَندَرَس” نحو السياسة الأفضل للجمهورية التركية، أنها يجب أن تعود إلى جذورها الإسلامية وتـُحَسِّن وشائجها مع جيرانها العرب ودول الإسلام، إلى جانب ضرورات الحفاظ على مبادئ “آتاتورك” العلمانية ومواصلة فصل الدولة عن الدين ولكن من دون إمحاء الدين عن نفوس المواطن التركي… ولذلك أعاد الأذان باللغة العربية للصلوات الخمس إلى مآذن الجوامع والمساجد، وسمح بإرتداء أي لباس شرقي وسواه من دون التحدّد بالمرتديات الغربية، وأجاز تدريس الدين الإسلامي وتلاوة المصحف الكريم باللغة العربية حتى المرحلة الثانوية، وأمر بإعادة إعمار الجوامع والمساجد المهمَلة وإنشاء المزيد منها وإخلاء تلك التي حُوِّلَت إلى مخازن للحبوب وإرجاعها إلى الحياة، وفتح معاهد لتخريج الوعاظ والخطباء ومعلـّمي أمور الفقه والدين، وإصدار مجلات وكتب ذات صبغات دينية وتوجيهية، فضلاً عن تقاربه المضطرد مع الدول الإسلامية والعربية، وتحقـيق ديمقراطية وتعددية مشهودة كانتا مبعث إرتياح الشعب التركي بعد تسلـّط الحزب الأوحد طيلة (3) عقود، ولكن من دون الإبتعاد عن التحالف مع الغرب الآوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، إذْ شارك الجيش التركي ميدانياً بتشكيلات برية عديدة في أتون “حرب كوريا” منذ (1951) وقدّمت المئات من الشهداء والجرحى على الأرض الكورية فكانت سبباً رئيساً لقبول “تركيا” مطلع (1952) عضواً فعالاً في “منظمة حلف شمالي الأطلسي” -المعروفة إختصاراً بـ(N.A.T.O)- قبل أن تغدق “واشنطن” مساعدات عسكرية ضخمة على “تركيا” لتغدو صاحبة ثاني أضخم قوات مسلحة على مستوى ذلك الحلف الإستراتيجي الأعظم في تأريخ الكرة الأرضية، فيما إعترفت “تركيا” بـ”دولة إسرائيل” كواقع حال، وأقدمت على تشكيل “الحلف البلقاني” عام (1953) كمبادرة صداقة ورأب صدع حيال عدد من دول البلقان -ومنها اليونان ويوغوسلافيا الإتحادية- والتي رضخت تحت الحكم العثماني لقرون عديدة، قبل أن تبرم “تركيا” “ميثاق/حلف بغداد” الخماسي عام (1955)- إلى جانب “العراق، إيران، وباكستان” -بزعامة “بريطانيا العظمى” ودعم الولايات المتحدة الأمريكية، وتزعّمت مقارعة الشيوعية والمدّ اليساري في الشرق الأوسط.
ولكن “مَندَرَس” أبدى نوعاً من التقارب مع الإتحاد السوفييتي، وبالأخص بعد وفاة زعيمه “جوزيف ستالين” (1953) وبروز الإصلاحات المضادة للدكتاتورية الستالينية التي أطلقها الزعيم الجديد “نيكيتنا خروتشوف”، وكان عازماً على زيارة “موسكو” عشية الإنقلاب.

إصلاحات “مَندَرَس”
كان من بين أهمّ الخطوات والإصلاحات التي أقدمت عليها حكومة “مَندَرَس” -بالإفادة من أموال “مشروع مارشال” الأمريكي- مكننة الزراعة وتربية المواشي والخيول والصناعات التراثية الشعبية اليدوية، وإنشاء السدود والنواظم في عموم البلاد حتى أمست “تركيا” خلال فترة قياسية من أعاظم أقطار العالم المنتجة للقمح، الحبوب، القطن، العنب، الشاي ومعظم الفواكه والخضراوات، إلى جانب اللحوم ومختلف المواشي والخيول والدواجن والطيور وتصدير الفائض منها إلى العديد من البلدان المستهلكة، ناهيك عن التقدّم الملحوظ في صناعات الجلود والأحذية والنسيج والدهون والمنظفات.
تعثّر “مندرس”
ولكن المنجزات الديمقراطية والإجتماعية والإقتصادية تلك قابلها نفاد المبالغ المخصصة لتركيا من “مشروع مارشال” فضلاً عن الصرفيات الهائلة على تطوير القوات المسلـّحة وتفاقم مشكلة البطالة جراء المكننة في غضون النصف الثاني من الخمسينيات، فأُتاحت تلك المعضلات للأحزاب الصغيرة -وفي مقدمتها الخصم المعارض (C.H.P)- لتسيء إلى شخص “عدنان مَندَرَس” وحكومته وحزبه، مُضيفة إليها تـُهَم ((الإبتعاد عن مبادئ “آتاتورك” المسطـّرة في الدستور التركي وإقحام الدين في الدولة والخروج على الثورة الكمالية))، فنظمت بإنقضاء الأيام مظاهرات وإعتصامات وإضرابات خلخلت أمور البلاد وتسببت في تفاقم المشكلات.
نظرة القادة العسكريين
أما قادة القوات المسلـّحة التركية وضباطها ومراتبها فقد كانوا ينظرون نحو شخص الزعيم “آتاتورك” والعلمانية بقُدسية بالغة، متشبَعين بشعارات ثورته وإصلاحاته ومبادئه ووصاياه، لـِما كانوا يتلقـّونه من محاضرات توجيهية صارمة بهذا الخصوص منذ نعومة أظفارهم في المعاهد العسكرية، في حين يخوّلهم الدستور و”قانون المهمات الداخلية للجيش التركي” لعام (1935) ضرورة الحفاظ على “الإنقلاب الكمالي/الثورة الكمالية” وحماية النظام العلماني والتدخل لإستعادة مسيرته وقتما يرون في ذلك ضرورة، وذلك عن طريق “رئاسة هيأة الأركان العامة للقوات المسلحة” وتحت إمرته جميع قادة القوات المسلـّحة الأقدمين (البرية، الجوية، البحرية، قوات الحدود) الذين كانوا في الواقع ذوو سطوة، ليس بالدستور والقانون فحسب، بل بما يمتلكونه من عناصر فرض الرأي بقوة السلاح متى ما تطلـّب الأمر ذلك.
الإعداد سراً للإنقلاب
لم يعتمد إنقلاب (1960) على رئيس هيأة الأركان العامة للقوات المسلحة وقادته الأقدمين، بل كان هناك تنظيم شُكّل سراً في صفوف القوات المسلحة التركية -شبيهاً بـ”تنظيم الضباط الأحرار” في كل من “مصر والعراق” خلال الخمسينيات- تحت مسمّى “هيأة الوحدة القومية/Milli Birlik Komitesi”.. ومختصره (M.B.G) -ومعظمهم من رتبة “عقيد” فما دون- هو الذي أسس الخلايا وأعد للإنقلاب وخطّط له وإستحضر لتنفيذه.. ولم يكن من بينهم -بالطبع- رئيس هيأة الأركان العامة للقوات المسلحة “الجنرال مصطفى رشدي أردَل هون” (وليس “روستو إيرديلهون” –كما يورد إسمه معظم المراجع باللغة العربية– المتبوّئ لمنصبه الرفيع منذ عام (1958)، والذي رفض -وبكل إباء- عرضاً سخياً قـُدِّمَ له قبل يوم واحد ليكون على رأس الإنقلاب الـمُزمَع إجراؤه باليوم التالي، معتبراً ذلك خيانة لمن وضعوا كامل ثقتهم بشخصه والقوات المسلحة، ونكثاً بالوعد والعهد… فما كان من قادة الإنقلاب سوى إرغامه على تسليم نفسه فجر (27/مايس/مايو/1960) وجرّدوه من قيادته وقادوه للمعتقل.
طارئ لم يأتٍ على بال
ولكن، حالما ألقى “العقيد آلب آرسلان توركَش” البيان الأول للإنقلاب صبيحة ذلك اليوم فقد إنبثق موقف خطير في أقصى الشمال لم يدُر ببال أحد… فما أن إستمع قائد الجيش التركي الثالث “الجنرال (فريق أول) راغب كوموش بالا” إلى ذلك البيان حتى أعلن من مقره قيادته في “أرضروم” رفضه القاطع لتسلـّم أية أوامر تصدر إليه من أي ضابط أدنى منه منصباً أو رتبة، حتى إن كان “جنرال” يليه بالقِدَم العسكري ولو بالإسم، مُهدداً بالزحف بجيشه من بقاع مسؤولياته نحو “آنقرة” لوأد الحركة الإنقلابية.

التشبّث بـ”جمال كورسَل”
لم يكن بإقتدار قادة تنظيم (M.B.K) إنتظار الأدهى والأمَرّ، حتى هرعوا في تلك الساعة المحرجة إلى “إزمير” حيث كان قائد القوات البرية “الجنرال (الفريق أول) “جمال كورسَل” -(وليس “كورسيل” كما في معظم المراجع)- قد ترك منصبه قبل أسابيع إثر تقديمه إستقالته الخطية إلى الرئيس “جلال بايار” لعدم رضاه عن الإدارة القائمة لحكم البلاد، متشبثين بشخصه مترجّينه ليكون فوراً على رأس تنظيم “حركة الوحدة الوطنية” (M.B.K) القائمة بالإنقلاب -والتي هي أشبه لمفهوم “مجلس قيادة الثورة” لدى الإنقلابات العربية- فيحلّ محل الجنرال (الفريق) المتقاعد “جمال مادان أوغلو” الأدنى قِدَماً، ويتزعم جميع السلطات ومقاليد البلاد… ولـمّا قبل “كورسَل” هذا العرض بشروطه التي رضخ لها الإنقلابيون سراعاً، فقد حُلـّت معضلة “الجنرال (الفريق أول) راغب بالا كوموش”، قبل أن يتم تعيينه رئيساً لهيأة الأركان العامة خلفاً لـ”الجنرال رشدي أردَل هون”.
إتفاق وراء الكواليس
كل إعتقادي -حسب سير الأحداث- أن هذا الإنقلاب كان -لربما- بإتفاق ثنائي بين قادة (M.B.K) و”الجنرال عصمت إين ئونو” -الذي يعدّه حتى الجنرالات الأقدمون (الفرقاء الأوّلون والفرقاء) قائد قادتهم وأستاذ أساتذتهم، كون “إين ئونو” قد تبوّأ منصب رئيس أركان الجيش التركي الحديث (1920-1921) -إثر إعادة هيكلته أثناء “حرب الإستقلال”- قبل أن يغدو رئيساً للوزراء ويؤلـّف (سبع) وزارات في غضون (14) سنة، (خمس) منها متلاحقات لغاية عام (1937) في عهد الزعيم “مصطفى كمال آتاتورك”، حتى خلفه -ويُقال بوصية من “آتاتورك”- إثر وفاته سنة (1938) رئيساً للجمهورية وقائداً أعلى للقوات المسلحة التركية لـ(12) عاماً متلاحقاً (1938-1950)، وقتما كان جميع هؤلاء القادة المخططين والمنفذين لإنقلاب (1960) إما أطفالاً أو فتياناً أو ضباطاً في مقتبل أعمارهم يحملون رتباً صغيرة ومناصب دنيا، ناظرين إلى “عصمت باشا إين ئونو” بقدسية وإعجاب وإجلال ما قبل (30-40) سنة.

الإنقلاب السهل
وإعتماداً على توجيهات وتوقيتات مُسبَقة لتحركات تشكيلات محددة وحسب خطة مفصلة ومُعدّة سلفاً، لم يكن إطلاق وحدات المشاة المحمولين على العجلات من معسكراتهم مع حلول فجر (27/5/1960) بصحبة الدبابات والمدرعات وإنتشارهم في الشوارع سوى أشباه تمارين خاضوها لعشرات المرات وسط جيش عريق أضحى يحتل المرتبة الثانية وسط جميع جيوش الـ(N.A.T.O)… لذلك -ومن دون أية مقاومة- أحكموا سيطرتهم على مفارق الطرق وطوّقوا مبانٍ تعود إلى قيادات سياسية وتشريعية ودوائر حساسة، فيما توجّهت مجموعات مكلـّفة بمهمات خاصة لتلقي القبض فجراً على رئيس هيأة الأركان العامة “الجنرال رشدي أردلهون”، وبأسهل من ذلك وأيسر على رئيس الجمهورية “جلال بايار” ورئيس الحكومة “عدنان مَندَرَس” وعدد من الوزراء وكبار المسؤولين، حتى إستتبّ كل شيء خلال ساعة واحدة أو تزيد، وقتما كان كبير المخطّطين “العقيد الركن آلب آرسلان توركَـش” يلقي على مسامع الشعب بياناً مُعَدّاً بهذا الخصوص من دار الإذاعة التابعة للدولة.
وزير الداخلية ينتحر
لم يكن وزير الداخلية “نامق كَديك” أشجع المعتقلين فحسب بل كان أعظمهم إعتزازاً بالنفس، وقتما أقدم على الإنتحار قاذفاً ذاته من إحدى نوافذ الأكاديمية العسكرية وسط سجن مؤقَت بجزيرة “ياصي آدا” التي كان معتقـَلاً فيه، وأنه لم يرضَ المهانة والإذلال وراء القضبان على يد أفراد شرطته السابقين الذين كانوا -قبل أيام معدودات- يتمنون مجرد إشارة منه كي ينفّذوا فوراً ما يبتغيه ويرتضيه، فيما مَثـُلَ الآخرون أمام القضاء الذي أصدر حكم الإعدام -بعد محاكمات إستغرقت (14) شهراً- بحق “جلال بايار وعدنان مَندَرَس، ورئيس الأركان الجنرال رشدي أردَل هون” ووزيرَي الخارجية “فطين رشدي زورلو”، (وليس “فاتن روستو زورلو” كما في البعض من المراجع)، والمالية “حسن بولات قان”، والذي نُفـِّذَ بثلاثة منهم صبيحة (16/أيلول/1961)، حيث أُستـُثنيَ الرئيس “محمود جلال بايار” و”الجنرال رشدي أردَل هون” وأُستـُبدِلَ حكمهما بالسجن المؤبد، قبل أن يصدر رئيس الجمهورية اللاحق “جمال كورسَل” قراراً رئاسياً بالعفو عنهما عام (1964).
وفاة وزير الصحة
لوزير الصحة الدكتور “محمد لطفي عبدالصمد قيردار” -(وهو إبن مدينة كركوك العراقية العريقة، وقد تجذّر فيها أبناء عمومته بحيث أن معظم أفراد عائلته ما زالوا يعيشون في ربوعها)- قصة محزنة مغايرة، وقتما وافته الـمَنيّـة أثناء مثوله أمام المحكمة جراء جلطة آنيـّة جعلته يترنـّح قبل أن يهوي على قواطع قفص الإتهام الخشبية إثر تلقـّيه عبارات لم يستطع تقبّلها من رئيس المحكمة الخاصة لمجرد إستئذانه بالجلوس جراء مُعاناته من مرض في القلب وذبحة صدرية موجعة ألـمّت به في تلك الدقائق أثناء الجلسة.
تنصيب “جمال كورسَل” رئيساً للجمهورية
وبعد إنقضاء شهر واحد على ذلك الحدث غير المسبوق في “تركيا الحديثة”، فإن “الجنرال جمال كورسَل” -الذي أضحى رابع رئيس للجمهورية التركية- مترئساً حكومتين عسكريتين مؤقّتَتَين متتاليتين لإدارة البلاد، تم في غضونهما تعديل الدستور خلال (1961) وفقاً لرؤى القادة العسكريين، معزّزين دور القوات المسلحة في التدخّل السريع لتغيير أمور السلطات المدنية متى رأوا لذلك ضرورة.
تركيا تعود للحكم المدني
وبعد أن أيقن الحكّام الجدد مدى سطوة “العين الحمراء” والذراع الأقوى، وبعد التأكد من كون الأمن مُستتباً في عموم البلاد فقد أعيدت سلطات الدولة بين أيدي المدنيين، حيث أُستـُدعي “عصمت إين ئونو” ليشكّل (ثلاث) وزارات متتابعة (1961-1965)، قبل أن يفوز “حزب العدالة (A.P)” الذي تزعّمه “سليمان دَميرَل” ويرأس (ثلاث) وزارات متلاحقة (27/10/1965–26/3/1971)، في حين أمسى السياسيون يخشون الإقدام على أية تصرّفات لا يرتضيها قادة القوات المسلحة، وإلاّ سيكون مصيرهم السياسي والشخصي مشابهاً لـ”عدنان مَندَرَس” ورفاقه.
منجزات “كورسَل”
وإذا ما إستثنينا تلكم الإعدامات المؤسفة الثلاثة، فإن الإنقلاب لم يكن دموياً، إلاّ أن المئات من الضباط والقضاة والأساتذة والمعلمين والآلاف من مراتب الجيش المتديّنين أُحيلوا على التقاعد أو سُرّحوا أو فـُصِلوا جراء حملة تطهير إشتملت مؤسسات الدولة من الملتزمين بفرائض الإسلام، ولو كان مجرد أداء الصلوات وبعض التسابيح.
ويسجّل لصالح “جمال كورسَل” إنتباهه لخطورة إقحام السياسة وسط القوات المسلحة بأي عذر وحجة، ولذلك أقدم على خطوات جريئة قبالة كل من أصرّ على إستمرار بقاء الحكم بيد العسكريين لأعوام مضافة، وإتخذ إجراءات تميزت بالصلابة حتى تجاه أقوى أعضاء (M.B.H) الذين جاءوا به ليكون على رأس سلطات الدولة، ومنعهم من العمل السياسي داخل القوات المسلحة بصرامة وقضى على تنظيمات الضباط الذين خططوا لإنقلاب (1960) ونفذوه، بل وأمضى على تنفيذ حكم الإعدام بحق “العقيد طلعت آي دَمير” الذي شكّل تنظيماً سرياً جديداً لتنفيذ إنقلاب آخر عام (1963).

أحدث المقالات