18 ديسمبر، 2024 9:54 م

في الذكرى/15 لغزو العراق

في الذكرى/15 لغزو العراق

كيف إنهار العراق أمام الغزو الأمريكي-البريطاني؟
في هذه الأيام تحلّ الذكرى السنوية/15 المؤلمة لإنهيار دولة العراق القوي أمام أمام الغزو الأمريكي-البريطاني وزوال حكم الرئيس الراحل “صدام حسين” وإختفاء قادته، لتضحى “بلاد الرافدين” سائبةً أمام الغزاة، مُعرِّضين إياها لأنكى جرائم النهب والسلب والحرق والتدمير والدماء المُسالة والأجساد المتناثرة بمعدّلات يومية على أيدي عصابات وفصائل مسلّحة ومجرمين عتاة وأصحاب سوابق، فضلاً عن العَوام والرعاع وأبناء الشوارع.
ومن غير المستغرَب تحقيق الغزاة لذلك النصر العسكري الساحق مقابل إخفاق عراقي إلى جملة اُمور إستراتيجية، نستطيع إيجازها ضمن العناوين الآتية:-

أولاً. السيادة الجوية
في عام (1925) قال الجنرال الإيطالي “دوهيت” – يوم كان العالم كله لا يمتلك سوى بضعة آلاف من الطائرات البدائية المتواضعة- أنه سيأتي يوم تستطيع فيه سلاح الطيران تدمير منشآت دولة بكاملها فتُجبرها على الإستسلام من دون خوض حرب برّية أو بحرية… تلك المقولة -المعبّرة عن بُعد بصيرة- إن لم تكن قد تحقّقَتْ بشكل مطلق على الحروب الحديثة، فإن سلاح الجو كان الحاسم الأهم في حرب “كوسوفو، وأفغانستان”، وقبلهما في “حرب الخليج الثانية” (1991)، وأخيراً الحرب على العراق موضوعة بحثنا.
فالسيادة الجوية التي تحقّقت، والدمار الهائل الذي أحدثته عمليات القصف بالطائرات المختلفة والصواريخ الدقيقة هما اللذان تسَبَّبَا ومَهّدا لإنهاء هذه الحرب بالسرعة التي لم يتوقعها أعظم الخبراء الإستراتيجيين والعسكريين، وجَعَلا القوات المتحالفة -بمختلف صنوفها- تندفع سراعاً نحو مدن العراق الكبرى في الجنوب والوسط، قبل أن تقتحم “بغداد” بسهولة.
تـُعَدّ “السيادة الجوية” أعلى درجات “التفوّق الجوي”، إذْ تكون طائرات القوتين الجوية والبحرية وطيران الجيش والمقذوفات الصاروخية بمختلف طرزها ومدياتها متمتعة بحرية مُطلقة في التحليق والمناورة، أينما وكيفما ومتى ما تشاء، ومن دون أن تواجهها أخطار مقابلة سواءً من الجو (بالطائرات المعترضة) أو من المقاومات الأرضية أو المحمولة على منصّات القطع البحرية.
وهذا ما تمّ تحقيقه في هذه الحرب التي شُنَّتْ على “العراق” وفقاً لما يأتي:-
قرار القيادة العراقية -قبل إندلاع الحرب- بعدم زجّ القوة الجوية وطيران الجيش العراقيّين في القتال، وإخفاء القاصفات (BOMBERS) والمقاتلات الإعتراضية (INTERCEPTORS) والسمتيات (الهليكوبترات) بين الأحراش والبساتين، بل وحتى تحت الرمال.
ولكن فيما لو كانت تلك القيادة قد قرّرت عكس ذلك، فإن الطائرات العراقية كانت تُدمَّر أو تحترق في قواعدها ومطاراتها قبل أن تقلع، وإن أقلعت وحلّقت فكانت تتساقط كالورق، فالفرق بين مستويات طائرات الطرفين وإمكانيات أدائها من الصعوبة بمكان خوض مقارنة بشأنه.
كانت أسلحة مقاومة الطائرات الأرضية على أنواع، أولها مقذوفات صاروخية (سام-2، سام-3) المنتشرة في عموم العراق (عدا بغداد)، قد أكل عليها الدهر وشرب، فهي من منتجات الإتحاد السوفييتي خلال عقد الستينيات وبعض السبعينيّات، وقد أثبتت فشلها حتى في حرب فييتنام (1965-1975)… وثانيها مدافع مقاومة الطائرات، وخصوصاً من عيار (57 ملم) والتي لا يتعدّى مداها (6,6) كيلومتراً، والاُخريات دون ذلك… وثالثها المقذوفات الصاروخية من الطُرُز الجيدة نسبياً (أفضلها الفرنسية “رولاند”) وذات أداء مُتمَيّز، ولكن مداها أيضاً كان محدوداً (5,6) كيلومتراً…ولمّا كانت طائرات التحالف تحلّق على إرتفاعات خارج مديات جميع الأسلحة المذكورة، وبأسلحتها المتاحة لضرب الأهداف الأرضية، فقد بات تأثير المقاومات الأرضية العراقية أشبه ما يكون لمستوى (الصفر)، بل أنّ عشرات الملايين من القنابل التي أُطلِقَت تنفيذاً لأوامر صادرة من القيادات العليا إنفلقت في السماء هدراً وكانت هباء منثوراً ولم تفد بتاتاً في إصابة أي هدف جوي.

ثانياً. التشويش الألكتروني الساحق
والذي إستثمر التحالف إمكاناته الهائلة، وخصوصاً عن طريق العديد من الطائرات الإختصاصية (E.C.M) المصمّمة لهذا الغرض وطائرات (A.W.A.C.S)، والتي أوقفت عمل الرادارات العراقية، سواءً على المستوى القطري (بعيدة المدى)، أو تلك التي تعتمد عليها قواطع الدفاع الجوي (متوسطة المدى)، أو المنصوبة قرب أو على منظومات المقاومات الأرضية (قصيرة المدى)… وبذلك شُلَّ عمل الأسلحة جميعاً إلاّ من رمي إطلاقات تعتمد على العين المجردة أو النواظير المقرّبة -وكان ذلك توجيهاً صادراً من أعلى المراجع- والتي لم تُجْدِ نفعاً سوى الكسب الإعلامي أمام أنظار مراسلي القنوات الفضائية، كي ينقلوا صوراً عما يجري في “بغداد” وبعض المدن الكبرى.
ويضافُ إلى كل ذلك التدمير الهائل الذي أصاب مقرّات قواطع الدفاع الجوي العراقية منذ الليلة الأولى من الحرب، والذي تواصل بإمعان في الأيام اللاحقات، بحيث لم يَبْقَ من يمكن أن يُدير شؤون أسلحة مقاومة الطائرات أو يقودها ويسيطر عليها ويوجّهها وفق المركزية المطلوبة في مجابهة هذا الكمّ الهائل من الطائرات المعادية المقتدرة.

ثالثاً. إنعدام التكافؤ
ليس من سبيل المغالاة إذا ما ركّزنا على هذه النقطة الحسّاسة ولكن من دون أي إستصغار من شأن القائد والضابط والجندي العراقي الذي تَمَرَّسَ على القتال ومجابهة الأخطار في حرب مع “إيران” طالت ثماني سنوات (1980-1988)، وحرب غير متكافئة حيال التحالف المناهض للعراق في “الكويت” (1991)، فضلاً عن عشرات المعارك وسط حروب أخرى داخل الوطن وخارجه… فالحقيقة التي يجدر ذكرها في هذا الشأن أن القوات المسلحة العراقية كانت مُهيّأة ومُدرّبة ومُجهّزة لخوض قتال مع دول الجوار والبعض من دول الشرق الأوسط، ولم تكن قد اُعِدَّت -بطبيعة الحال- لمجابهة قطعات أمريكية وبريطانية ضمن حلف (NATO) صُمِّمَتْ لمواجهة القوات السوفييتية وجيوش حلف (وارشو) في أوجّ عظمتهما.
وإذا ما وضعنا جانباً الأعداد المتوفرة لدى الطرفين لدى المواجهة الميدانية على أرض العراق من أسلحة ثقيلة ومتوسطة وخفيفة، لتوصّلنا الى اُمور مهمة عديدة:-
الفرق الشاسع بين المستويات الأساسية في مجالات الثقافة والكفاءة والإنتقاء وأساليب التدريب والإتقان لدى عناصر الطرفين والطوائف والأفراد.
التفاوت الكبير في نوعية المعدّات وكفاءتها وإمكانيات أدائها، بحيث أن المدى المباشر لمدفع الدبابة الأمريكية (إبراهام) -على سبيل المثال- الذي يبلغ (4000) متر، يقابله مدى أكفأ دبابة عراقية (تي-72) والتي كانت وحدات الحرس الجمهوري لوحدها مجهّزة بها لا يتعدّى (2200) متر… أي بمعنى أن الأمريكية تستطيع إصابة الدبابة العراقية بفارق (1800) متر دون أن تستطيع الأخيرة إستهدافها، ناهيك عن الفارق الشاسع بين معدات ومراقب وموجهات الدبابتين… فقِسْ على ذلك.
يضاف الى كل ذلك التفوق الجوي ومزاملة الطائرات المقاتلة/هجوم أرضي (F.G.A) والهليكوبترات المختلفة -وبالأخص “آباتشي”- المصمّمة لمقاتلة الدروع وضرب الأهداف الأرضية لصالح القطعات الحليفة المتقدمة في جميع المحاور، وهي محملة بمقذوفات صاروخية دقيقة الإصابة (جو-أرض) ذات مديات تبلغ (10) كيلومترات على الأقل، بحيث لا تسنح للقطعات العراقية -بشكل عام- فرصة المواجهة المباشرة أزاء قوات التحالف البرية.
معدّات الإستمكان عالية الدقّة المتوفرة لدى قوات التحالف، والمقتدِرة على تحديد أماكن المدافِعين ضمن (متر مربع واحد)، وخصوصاً مدافع الميدان والهاونات والراجمات… يصاحبها تشويش على المعدّات العراقية، فضلاً عن ضعف الأجهزة والمعدّات الأرضية المُتاحة تحت أيديهم، أو إضطرارهم لعدم تشغيلها خشية أن تُضرب في عقر مواقعها.
إمكانات الإستطلاع/التجسس الفضائي بإستخدام الأقمار الصناعية -والتي قيل أن (3) منها اُوقِفَتْ فوق العراق، تـُضاف إليها طائرات إستطلاع إختصاصية تعمل على إرتفاعات شاهقة من طرز (U-2/TR-1) و(SR-71) التي أمّنَتْ معلومات دقيقة على مدار الساعة لصالح القيادات الميدانية الأمريكية خصوصاً… وذلك في مواجهة إستخبارات عسكرية عراقية باتت -بعد ساعات من إندلاع الحرب- شبه عمياء عمّا يجري في كل أرض البلد وسمائه ومياهه.

رابعاً. خطط الطرفين
يقول “صن تسو” -أحد قادة إمبراطورية الصين (2500 قبل الميلاد)- ((أن الهجوم هو الذي يحقق النصر… والدفاع لا بدّ أن يُخْتَرَق ويؤدي الى الهزيمة))… ويؤيّده في ذلك معظم الإستراتيجيين الحديثين والمعاصرين.
وبينما صمّمت قيادة قوات الإئتلاف على “التعرّض” والأخذ بـ “المبادأة” من النواحي الإستراتيجية والعملياتية والتعبوية (التكتيكية)، فإن القيادة العامة العراقية إعتمدت على “الدفاع المُسْتَكِنّ”، دون أن تخطط لأية هجمات مقابلة مدبّرة كبيرة قد تؤدي الى إيقاف تقدّم الخصم، أو التأثير على مجريات الاُمور ميدانياً، أو جعله يتّجه الى “أماكن قتل” ضمن ما يسمى في المصطلحات العسكرية بـ”الدفاع التعرّضي”، أو بأسلوب “الدفاع السيّار”.
وفيما إعتمدت الخطّة العراقية على تصوّر غير واقعي -لعدم أخذها بنظر الإعتبار العقيدة العسكرية الأمريكية في أساليب القتال التعبوي/التكتيكي- بأن القطعات البرّية الحليفة سوف تقتحم كل مدينة عراقية جنوبية هُيِّئت للدفاع بشكلٍ أو بآخر، وسيخوض المدافعون فيها معارك وسط مبانيها وبين شوارعها، ما سيُطيل أمد الحرب أشهراً عديدة، ولربّما يؤدي الى تداخلات دولية يمكن أن توقف القتال، متفائِلة بأن نظام الحكم في “بغداد” سيظل قائماً كما حدث عام (1991)… فإن الخطة التحالفية نصّت على عدم إقتحام أية مدينة تقع على محور التقدم، إلاّ إذا كان ذلك لتحقيق أمر خطير ذي أهمية بالغة، سواء أكان للسيطرة على نقاط حيوية (مثل الجسور)، أو مواقع محدودة العدد ذات أهمية بالغة، مثل المطارات والقواعد الجوية ببقاع العراق الجنوبية والغربية، أو مواقع محدّدة ينبغي إقتحامها بغية تدميرها أو الإستحواذ عليها عنوة.

رابعاً. التحـشّـد
يُُعَرَّفَ ” التحشّد” -وهو مبدأ من مبادئ الحرب العشرة المسطّرة في محاضرات الكليات والمؤسسات العلمية العسكرية- بأنه ((إستحضار قوات متفوّقة في جميع نواحيها على ما لدى الخصم)).
وعلى الرغم من كون قوات الطرفين المتصارعين في هذه الحرب من ناحية النسبة العدديّة مائلة لصالح “العراق”، فإن ما حَشَّدَتْهُ قيادة التحالف لتحقيق التفوق النوعيّ – ناهيك عن السيادة الجوية- في مواقع المواجهة قاطبة، وبالأخص قبالة مدن العراق الجنوبية، وتحريكها لـ”القسم الأكبر” من قواتها نحو الهدف الأستراتيجي الأهم المتمثل بـ”بغداد”، كانت كافية لجعل المجمل العام للتفوق العددي العراقي المتمتمرس بشكل متفرق للغاية وسط العشرات من مدن الوطن محدود التأثير على مجريات الصراع.
ومن ناحية أُخرى، ونظراً لمحدودية المعلومات المخابراتية ذات الطابع الإستراتيجي، والمُعطَيات الإستخباراتية على المستوى العملياتي لدى العراق، فضلاً عن أُمور عديدة مهمة أُخرى لا مجال للخوض فيها، جعلت القيادة العراقية قبل إندلاع الحرب في موقف ميداني مُحرِج للغاية إضطرّت معه الى نشر قواتها البرية في عموم المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية، وبعض الغربية، بشكل متفرّق أدّى الى إضاعة مبدأ “التحشّد” وتجزئته، مودياً الى محدودية تأمين الحشد العسكري اللازم في المكان المستهدف، إذا ما إستثنينا “بغداد” وضواحيها.
أما مناطق العراق الغربية القصوى المتاخمة للحدود مع كل من “سوريا والأردن”، فقد اُخْلِيَتْ عملياً من أية قطعات عسكرية ذات ثقل وتأثير، وخصوصاً على محور (الأردن- الرطبة) لتحقيق بعض الإقتصاد في الجُهد العسكري بغية الإفادة منه في قواطع أخطر، ما أفسح المجال لفرقة من المعارضين العراقيين (الذين دُرِّبوا في “هنغاريا”) من التوغّل بسهولة في أعماقها، وتمكّنت من السيطرة السريعة ومن دون مقاومة تذكر على قاعدتين جويتين كبيرتين غربيّ العراق، إنطلقت منهما طائرات التحالف بيسر وسهولة، لتغدو “بغداد” وضواحيها ضمن مداها دون الحاجة الى طيران يستغرق وقتاً أطول من المعتاد، وبكامل حمولتها من القنابر والصواريخ.

خامساً. التقدم السريع
مما لا شك فيه أن القطعات الحليفة التي إقتحمت “العراق” كانت بمجملها إمّا مدرعة أو في متن عجلات قتال مدرّعة أو هي محمولة جوّاً بالهليكوبترات الضخمة أو بطائرات النقل التعبوي (C-130)، وذات قابلية حركة واسعة ومرونة مشهودة… ولما كانت المناطق الجنوبية والوسطى من العراق سهلة ومنبسطة محدودة الموانع الطبيعية، فإنها صالحة لإستثمار إمكانات الدبابات والمدرعات والعجلات العسكرية المصمّمة للعمل خارج الطرق في جميع مواسم السنة والتحرك السريع في معظم الإتجاهات وعلى جميع المحاور، لا سيّما وأن الغزاة وقـَّتوا عملياتهم مع حلول موسم الربيع الذي يندر هطول الأمطار في جنوبيّ العراق وبقاعه الوسطى.
وأُضيف الى تلك الخاصّية الطبيعية، إكتفاء القطعات العراقية بالتمركز داخل مراكز المدن والأقضية الكبيرة، وعدم تخصيص أية قوات لحماية الطرق الخارجية بتسيير دوريات آلية أو زرع نقاط ثابتة وتهيئة كمائن بغية إعاقة المتقدمين، وعدم إنشاء موانع اصطناعية أو تخريب طرق وجسور في نقاط مؤثرة وحسّاسة تعيق إندفاع الخصم، أو تفرض على قطعاته الأرضية وأرتاله الإدارية تأخيراً أو جهداً مُضافاً… ولذلك تمتّع المتعرّضون بكامل الحرية في تقدمهم من أقصى الجنوب وصولاً الى أواسط البلد، وحتى عند مواجهتهم قوات عراقية مدافعة عن الأماكن المتاخمة للعاصمة أو في ضواحيها.
وما يجدر ذكره في هذا الشأن، أن القوات المتحالفة -وخصوصاً الأمريكية- قد وضعت نصب عينيها جميع الخبرات العسكرية المتراكمة والمسطّرة في محاضرات كليات الأركان والقيادة والمؤسسات التعليمية العسكرية العليا، من المبادئ التي ينبغي مراعاتها في التقدم لتحقق أقصى ما يمكن من السرعة، وقد يكون أهمها:-
“المعلومات الجيدة والفورية، الإسناد الجوي، المباغتة، إِدامة الزخم، التوجيه الواضح، ردّ الفعل السريع، توازن القوة، التعرض المستمر، وتأمين الشؤون الإدارية (اللوجستية) الممتازة”.

سادساً. التخطّي بالمجازفة المحسوبة
يُعرّف ((التخطّي)) كونه:- ((ترك القوة المتقدمة لموقع/مواقع دفاعية معادية وجعلها تحت الرصد ومشاغلتها بنيران ذات مديات مناسبة، والإندفاع نحو الهدف التالي)).
وقد تَوَفَّقتْ قوات التحالف المتوغِّلة بأرض العراق مع فجر يوم (20/آذار/مارس/2003) في إتباع هذا الاُسلوب، وذلك بترك ميناء “أُم قصر” جانباً، والإندفاع بالفرقة البريطانية نحو “الزبير” فـ”البصرة” قبل أن تتوجّه التشكيلات الأمريكية نحو “الناصرية” مباشرة ثم”السماوة”، وصولاً الى “النجف وكربلاء” جاعلةً جميع تلكم المدن الجنوبية تحت الرصد ورحمة نيران الدبابات والمدرعات عن بُعد، فضلاً عن الطيران، مُتَخَطِّيَةً إياها في غضون الأيام الأولى نحو المناطق الغربية من “بغداد”.
ولو كانت القيادة العامة العراقية، وكذلك القيادات العملياتية، قد أيقنت اُسلوب” القَفْزات” الذي مارسته القوات الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية في أكثر من جبهة قتال، وبالأخص في ساحتي الشمال الأفريقي والغرب الأوربي حيال القوات الآلمانية المعروفة بكفاءتها، وكذلك في حرب “كوريا” (1950-1953) وسواها، لما تفاجأت ببلوغ الغزاة بقاع “الفرات الأوسط” وضواحي “النجف وكربلاء” خلال (4) أيام.
أما ((المجازفة)) فقد تَجَلَّتْ في ترك خطوط المواصلات، بواقع مئات الكيلومترات من أرض جنوبي “العراق”، من دون حماية مؤثرة… ولكنها -بالوقت نفسه- كانت مجازفةً محسوبةً، لكون تلك الطرق ظلت تحت الرصد الجوي من جهة، فضلاً عن تسيير دوريات آلية عليها من جهة ثانية، وتوفر معلومات شبه مؤكدة بأن المدافعين عن المدن لربّما لا يتركون مواضعهم خارجين عنها لمجابهة أعدائهم في العراء، حسبما تنص عليها الأوامر المركزية المشدّدة الى القيادات المحلية.

سابعاً. التدمير الهائل
إضافةً الى الدقّة المتناهية في ضرب الأهداف الإستراتيجية والقصور الرئاسية والقيادات العليا الميدانية بذلك الشكل المُريع الذي شاهده الكثير من العراقيين المدنيين، ناهيك عن العسكريين، فقد تَعَرَّضَتْ الفرق البرّية العراقية، -ونخصّ منها تلك التابعة لقيادات الحرس الجمهوري المتمركزة في ضواحي “بغداد”- لقصف ثقيل بمعدلات يومية، بإستثمار إمكانات القاصفات الثقيلة (B-52 و B-1) العملاقتين و (B-2 الشبح) بقنابل غير مسيّرة من زنة (3 طن، 7 طن)، وبلوغاً الى القنبلة الكبرى المسمّاة ( اُم القنابل/ MOTHER OF BOMBS) بوزن (5,9 طن)، والتي صُنِعَت بشكل خاص ليجرّبوها للمرة الأولى في التأريخ على رؤوس العراقيين في هذه الحرب، تلك القنبلة الهائلة التي كانت بإقتدار الواحدة منها جراء عصفها والحرارة الهائلة الناتجة لحظة إنفلاقها -حسب أقوال عدد من ضباط الحرس الجمهوري- أن تـُخرج جحفل معركة متكامل مؤلف من عشرات الدبابات والمدرّعات وعجلات القتال وعدد من مدافع الميدان ومقاومة الطائرات في ساحة القتال بِقَصْفَةٍ واحدة، تاركةً إياها مجرد أكوام من الحديد والصُلب المحترق، مصحوبة بتهرّؤ أجساد العشرات من مقاتليها داخل مركباتهم وخارجها، أو إصابتهم بجروح وحروق بالغة، في حين تتفجّر الأعتدة المُكدّسة وسط مواضعها تباعاً وبشكل متلاحِق ومُرعب، جاعلةً الجنود الذين ربما سلموا على حياتهم يهربون من حولها مُطرَشين ومنهارين أشبه بالمجانين، ومن دون أن يعود معظمهم الى ساحة القتال مجدداً.
أما أسلحة العراقيين الثقيلة التي لم تـُدمَّر بحكم القَدَر، فإن معدات التسديد والتوجيه والـمَراقب المنصوبة عليها تَتَكَسَّر وتتشظى أجزاؤها الزجاجية (العدسات) أو غير المعدنية، ما يجعلها غير قابلة للعمل بعدئذٍ مطلقاً.
لذلك بلغت القدرة القتالية -جراء القصف الجوي لوحده وذيوله وإرهاصاته النفسية- لعدد من فرق الحرس الجمهوري المتمركزة في محيط “بغداد” أقرب ما يكون الى “الصفر”، أو أنها أمست لا تزيد عن 15% في أفضل الوحدات، مّا جعلت المحاور الرئيسة أو الثانوية المتجهة نحو العاصمة مفروشة أمام القوات الأمريكية بأجزاء متناثرة من أبدان العجلات والمدافع المتروكة من بقايا الحرس الجمهوري… لقد كانت حرباً غير متكافئة بالمرّة.

ثامناً. الآمال الوردية
إعتمد نظام الرئيس الراحل “صدام حسين” -كعادته في معظم المواقف السابقة طيلة عهده- على إشاعة آمال غير منطقية وبعيدة عن الواقعية والظروف الموضوعية في نفوس الجنود والضباط، ولربّما تأسيساً على ما كان بعض المتزلّفين من القادة الحزبيّين والعسكريّين والإداريّين يعرضونه أمامه من عبارات وقصائد شعر وهتافات وأهاريج -قِيلَتْ أنها ضمن “سيناريو” كان مُهَيّأ سلفاً وقد دُرِّبوا على تفاصيلها- والتي كانت تـُعْرَض بشكل مُقرِف على شاشات التلفزيون أمام الشعب العراقي والعالم أجمع.
ولكن كانت هناك حقيقة أنكى من كل ذلك، فقد نَقَلَ “قصي صدام حسين” -القائد الأعلى المعيّن للدفاع عن “بغداد”!!!!- في حديث مخصص لهذا الغرض أمام قادة الحرس الجمهوري وضباط الركن الأقدمين، وبكامل الغرور:-
(( أن قيادتنا الموقرة قدّرَت الموقف الإستراتيجي العام وأيقنت بما لا يمكن أن يقبل الشك، بأن قوات العدوان لا يمكن أن تتقرب الى ضواحي العاصمة إلاّ خلال مدّة لا تدنى عن (6) أشهر، من حيث أن كل مدينة جنوبية عزيزة بدءاً من “البصرة” ثم “الناصرية” فـ”العمارة” و”السماوة” ثم “النجف” و”كربلاء” و”الكوت” و”الديوانية” قبل “الحلّة”، ناهيك عن الأقضية والنواحي، سوف تقاوم الأعداء -كل بمفردها وبشكل متلاحق- فترة تتراوح بين (15-30) يوماً، في قتال ضروس وسط المباني والشوارع… وذلك ما سَيُحَسِّن من موقف العراق الدفاعي ويعلـّي سمعته على مستوى العالم أجمع، ما سيُسْنِح الفرص لتدخّل دول عظمى صديقة أمثال “روسيا الإتحادية، فرنسا، الصين” فضلاً عن “آلمانيا” ودول اُخرى ذات ثقل سياسي عالمي بغية إيقاف الحرب، ليس لسواد عيون العراق فحسب، بل لمصالحها الذاتية والنفطية والإقتصادية)) .

كل ذلك قبل أن يضيف قائلاً :-
((المهمّ أيها الرفاق الأعزاء… أن المنتصر في هذه الحرب ،هو الذي سيظل وقوفاً على قدميه في أرض “بغداد” الطاهرة))!!!!؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ولا نزعم القول بأن كل أولئك القادة وضباط ركن الحرس الجمهوري الأقدمين ذوي المناصب العالية -ومعظمهم كانوا أصحاب خبرة وبصيرة عسكرية وبعد نظر- قد صدّقوا ما تفوّه به ذلك الشاب الذي لربّما أصابه الغرور وقتما وجد نفسه قائداً مسؤولاً عن حماية “بغداد” وتحت إمرته العديد ممن يحملون على كتفيهم رُتب الفرقاء والألوية الركن، ومسؤولاً عن أهمّ منطقة حسّاسة من العراق، ونقلوه الى مرؤوسيهم… ولكن حتى ما إذا كان بعضهم قد رَاقَهُ ذلك، أو إطمئن إليه، أو تمنّاه في قرارة ذاته، أو اُجبر على نقله الى مرؤوسيه خشية العقاب والمراقبة الشديدة، فإن ذلك تَسَبّبَ بتأثير بالغ في نفوس عديدهم وجعلهم غير مبالين، بل وربما مطمئنّين كثيراً خلال الأيام الأولى من الحرب.
ولذلك أيضاً -وإستناداً الى ضابط برتبة “عميد ركن” لدى هيأة ركن الحرس الجمهوري، جلستُ معه في مسكني لأربعة أيام متتاليات –بحكم الجيرة- فور إنتهاء الحرب- ذكر حقيقةً مفادها:-
((أن الإرتباك الذي حصل في “رئاسة أركان الحرس الجمهوري” منذ مساء اليوم الرابع من الحرب وقتما وصلتنا معلومات مؤكدة بأن الأمريكيين قد باتوا في صحراء “النجف وكربلاء”، وبالأخص عند معرفتهم عن التماس الذي حصل في ناحية “ذي الكفل”، كان بمثابة “القشّة التي قصمت ظهر البعير”، إذ ساد التخبّط جميع شُعَب تلك القيادة وأقسامها، وجعلها تتخبط في أوامرها وتوجيهاتها، ما أفقدها السيطرة المطلوبة والمتأنّية على وحداتها المتمترسة حوالي “بغداد”، والى تحريك فرق من هنا وألوية من هناك دون داعٍ، وتحت رحمة قصف الطائرات الحليفة)).
وصدق الرسول العظيم “محمد” (ص) حين قال “إنْ كان عدوّك فأراً… فإحْسِبْهُ أسداً “، في عبارة حكيمة تشير الى ضرورة عدم الإستهانة بالأعداء حتى إن كانوا ضعفاء.

تاسعاً. إتصــالات
يُعَـدّ صنف “المخابرة/الإتصالات/الإشارة” بمثابة العمود الفقري لأي جيش وقوة مسلحة، كونه يؤمّن الإتصالات السلكية واللاسلكية، والتي بدونها فإن من الصعوبة تسيير الاُمور وإيصال الأوامر بسرعة وتحقيق القيادة والسيطرة على المقرات المرؤوسة، وفي الوقت المطلوب.
وقبل إندلاع هذه الحرب أصدرت القيادة العامة العراقية توجيهات مُلزِمة بضرورة تطبيق “الصمت المطبق” على الأجهزة اللاسلكية التي عليها وأن تبقى مفتوحة بشكل متواصل للإستماع ليس إلاّ، فلا يُسمَح بالتحدث من خلالها مطلقاً الاّ عند الحاجة والضرورة القصوى إذا ما حصل التماس المباشر مع العدو ووقعت المعركة في مكان ما.
ولكن الذي حصل في هذا الشأن أن التشويش الألكتروني على جميع الأجهزة اللاسلكية المفتوحة ذات المديات البعيدة والمُتاحة لدى القيادات العليا، قد جعل منها مجرد كتلة من اللدائن والمعادن، لا تُجدي نفعاً يذكر… أما من شغّل جهازه اللاسلكي -قصير المدى- ولم يَنَلْهُ التشويش، فقد قـُصِفَ بعد دقائق من فتحه والتحدث به… أما المنتبهون الى تلك الحقيقة فقد آثروا السلامة وتركوها مُغلَقةً، لذلك لم يَبْقَ في الساحة سوى الإتصالات السلكية المعتمدة على هواتف البدالات المحورية (الخاصة)، أو المدنية الإعتيادية… ولكن، ومع اليوم الثاني من الحرب، اُستُهْدِفَتْ بدءاً من المدن الجنوبية ووصولاً مع توالي الأيام الى المحافظات الوسطى فـ”بغداد”، حيث لم تَبْقَ (عقدة إتصالات محورية) أو (بدالة مدنية) سالمة عند تقرّب الغزاة من العاصمة.
وكان هناك الهواتف النقالة (ثريا)، والتي جُهِّزَتْ بها القيادات العليا وبعض ضباط رئاسة أركان الحرس الجمهوري بها حصراً، ولكن حالها لم يكن أفضل من أي جهاز لاسلكي تمّ تشغيله… والأنكى من ذلك فإن الهاتف النقّال كان -بحكم بثّه ذبذبات/ترددات كهرومغناطيسية- يُرشد الطائرات الحليفة نحو أي موقع ذي أهمية بالغة يعمل فيه، ولذلك اُقْفِلَتْ جميعاً واحداً تلو الآخر، لتبقى القوات المسلحة العراقية معدومة الإتصالات السلكية أو اللاسلكية، معتمدة -عند تقرّب الأمريكيين الى ضواحي “بغداد” خصوصاً- على ضباط إرتباط وجنود معتمدين لإيصال الأوامر الى المرؤوسين أو المعلومات إلى القادة الأقدمين، والتي من جراء التأخير الذي يفرضه هذا الأسلوب الشبيه بأساليب العصور القديمة، وصلت اُمور الحرب لدى الجانب العراقي الى النكبة أكثر من أي شيء آخر.

عاشراً. التعاون
يعتبر “التعاون” المبدأ التاسع من مبادئ الحرب العشرة، بل ويفرض نفسه في جميع صفحات القتال التعرضية منها والدفاعية (التقدّم، الهجوم، الدفاع، والإنسحاب) على حدّ سواء، ويعني أن يُساند صنف من القوات المسلحة صنوفها الاُخرى بغية تَوَخّي الهدف المُبْتَغى بأسرع وقت وأقل جهد وأدنى التضحيات والخسائر، ويتجلّى كثيراً في صفحة (التقدم) لتأمين السرعة بشكل خاص.
ولا يمكن – بطبيعة الحال- أن نستغرب أو نُفاجَأ بإتباع القوات المسلحة الأمريكية والبريطانية لهذا المبدأ، إذ لهما تأريخ حروب طويلة وقاسية وخبرات متراكمة وتقليد متوارثة، من ضمنها الحربان العالميتان الأولى والثانية وحروب إستعمارية لا تعدّ ولا تُحصى، وإستعدادهما المطلوب لخوض القتال في أية ساعة، وخصوصاً ضمن حلف (NATO) وعلى مدار السنة خلال “الحرب الباردة”، وخوضهما لأكثر من حرب محدودة في بقاع عديدة من العالم.
كما لا نستصغر من شأن القوات المسلحة العراقية التي اُقحِمت أو أُضطُرّت فمارست قتالات متنوعة من خلال حروب متنوعة، داخلية كانت على الحدود أو خارج العراق، بدءاً من عقد العشرينيات ووصولاً الى “حرب فلسطين” (1948) ، وحرب حزيران (1967)، وحرب تشرين (1973)، والتي توَّجَتْ بثلاث حروب (1980-1988) ثم (1991) قبل أن تقحم في الحرب الأخيرة غير المتكافئة في معظم وجوهها عام (2003).
وقد تأتي على رأس قائمة متطلبات تطبيق مبدأ “التعاون” ميدانياً كل من التدريب المشترك المُتْقَن بين صنوف/أسلحة القوات المسلحة، وتوفّر المعلومات والإتصالات الجيدة والأمينة، تلك التي كانت متوفرة تماماً لدى القوات الغازية، على عكس القوات العراقية للأسباب الآتية:-
الحرمان من التدريب المشترك لعوامل عديدة خلال سنوات الحصار (1991-2003)، والفساد الذي دبّ في صفوفها، وإنشغال قادة العراق -مدنيين وعسكريين- بأمن النظام ورئيسه كأسبقية اُولى، ولربّما وحيدة.
محدودية المعلومات عن الغزاة وخططهم العملياتية والتعبوية وأساليب أعمالهم القتالية، والتي وإن كانت القيادات العراقية العليا ربما على إطلاع سطحيّ عنها، فإنها لم تبلّغ الى القيادات المرؤوسة لأسباب أمنية ومعنوية، فكان ديدناً مخطوءاً للنظام العراقي في عموم عهده، وحتى خلال الحرب مع “إيران”.
أما الإتصالات السلكية واللاسلكية فقد كانت شبه معدومة منذ الأيام الأولى من الحرب، كما فصّلناها في عنوان سابق من هذا البحث.

إذاً فالقوات الغازية إندفعت في أرض العراق بأقصى سرعتها نحو أهدافها الثانوية، قبل التقرب نحو “بغداد” بكل كفاءة، وتعاونت الدبابات والمدرعات مع المشاة المتنقل في متون عجلات القتال وناقلات الأشخاص المدرعة تحت مظلة جوّية فعالة على مدار الساعة، وبحماية قريبة حققتها السمتيات التي تمتلكها الكتائب المدرعة وأفوج المشاة الآلي، وبمدفعية ذاتية الحركة تحقق إسناداً نارياً ثقيلاً خلال بضع دقائق عند حصول أية مواجهة على طريق التقدم، وبتدابير إدارية من وقود وأرزاق وماء وإمكانات إخلاء الجرحى والمرضى فوراً، وتصليح وإنقاذ وإخلاء للعجلات والأسلحة المعطوبة.
أما لدى الطرف المُدافع عن وطنه العزيز، فقد كانت الاُمور مقلوبةً رأساً على عقب، وخصوصاً لإنعدام الإتصالات والإعتماد على أبطأ وسائلها الممثلة بـ”ضباط الإرتباط والجنود المعتمدين”، ليس بمستوى القيادات العليا فحسب بل لدى القيادات الأدنى، ووصولاً إلى الوحدات (الأفواج والكتائب) والوحدات الفرعية (السرايا والبطريات والفصائل والرعائل)، وليسمح لي القارئ الكريم في أن أسرد له أمثلة ثلاثة:ـ

فالمعلومات – في حالة توفرها لدى القيادة العامة للقوات المسلحة، والتي لم يستطع حتى ضباط ركنها الأقدمون لدى رئاسة أركان الحرس الجمهوري معرفة أماكنها (لأغراض أمنية)، لم تكن التوجيهات الخاصة بمعالجتها لتصل إليهم سوى باُسلوب الإرتباط اليتيم والعقيم، وبعد مرور ساعة واحدة أو ساعات عديدة على وقوعها، إذ تكون محدودة وعديمة الفائدة، لأن القطعات الأمريكية المتقدمة كانت قد تركت ذلك الموقع الذي وقع فيه حادث معين يتطلب ردّ فعل سريع أزاءه… وذلك ماسَرَّهُ لي أحد ضباط الركن (برتبة عميد ركن) في تلك الرئاسة.
بينما تحدث لي ضابط من وحدات الحرس الجمهوري كان يشغل منصب آمر بطرية مدفعية ميدان في منطقة (الحصوة)، أن مدافعه المسحوبة من عيار (130 ملم) وذات زنة (7أطنان)، لم تُجَهَّز سوى بساحبات مدنيّة غير قادرة على التحرك بسهولة خارج الطرق… فإنه كُلِّفَ أكثر من مرّة بأن لا يرمي قنابله من موضع البطرية الأصلي، بل عليه أن يحرّك (واحداً) منها فقط الى موضع بديل ليقصف بـ(3) قنابل فحسب موضعاً قرب بلدة (المسيّب) لوجود معلومات تفيد بأن عدداً من الدبابات أو المدرعات الأمريكية شوهدت متمركزة هناك منذ الصباح، بينما كان وقت تنفيذ الواجب بعد الظهر!!؟؟
وقد أباح لي ضابط آخر كان برتبة “مقدم” يشغل منصب آمر بطرية مقاومة طائرات في منطقة قريبة من (سدّ حديثة)، أنه لم يتسلّم أية أوامر من موقع قيادة الكتيبة جراء فرض (الصمت اللاسلكي) على الجميع، ولم تتوفر لديه -وكذلك باقي البطريات- أية معلومات عمّا يجري في ميادين الحرب إلاّ عن طريق الإذاعات الأجنبية والعربية، حتى حلـّق عدد من الطائرات الأمريكية في تلك الأجواء في اليوم الخامس عشر للحرب!!!؟؟؟
فإذا كان الأمر كذلك، فلا أكرر سوى عبارة ((قِسْ على ذلك))!!!!

حادي عشر. الإيمان بهدف الحرب
ما لا شك فيه ان قادة القوات المسلحة العراقية وضباطها وجنودها يفترض بهم أن تكون معنوياتهم ورغبتهم في القتال على أعلى درجاتها، كونهم يتمترسون في أرضهم دفاعاً عن شعبهم وأفراد عوائلهم حيال غزاة جاءوا من على بعد آلاف الأميال ليحتلوا “العراق”… ولكن واقع الحال أن إيمان غالبيتهم العظمى بهدف الحرب قد تدنّى لأسباب مهمة آتية:-
تواصل خوضهم حروباً عديدة لأهداف غير مُقنعة، وإن كان البعض منها قد تحقّق بشكل أو بآخر، فان النظام تراجع عنها لاحقاً، مثلما حدث بعد إنتهاء الحرب مع “إيران”، أو فور الإنسحاب القسري من “الكويت” وكذلك خلال سنوات الحصار.
الخطاب الإعلامي/النفسي العراقي الذي كان يتمحور لتمجيد شخص الرئيس “صدام حسين” من دون “العراق”، إذ ترسّخ لدى المقاتلين -كما حال الشعب عموماً- أنهم لا يدافعون عن بلدهم ومبادئهم وقيمهم، إنما عن نظام الحكم ليس إلاّ.
الفساد الإداري والمحسوبية والرشاوى التي دبّت بعمق في أوساط التشكيلات العسكرية جعلت تقاليد الجيش وأنظمته وتعليماته وضبطه تتراجع، بل شبه معدومة في وحداته.
إنعدام تواجد أفراد ينتمون لعدد من المدن أو الأقضية أو النواحي أو من أولاد الذوات وذوي النفوذ والجاه والمال وسط الوحدات العسكرية المقاتلة، وتنسيب اولئك حصراً للخدمة في قيادات عليا أو أجهزة أمنية حفاظاً على حياتهم، ما تسبّب في ذات الجندي الإعتيادي أنه مقْحَمٌ نحو الموت دون بعض الذين يُنْظَرُ إليهم بشكل آخر.
الإعتقاد الذي ساد بشأن إزدواجية القيادة في تشكيلات القوات المسلحة ووحداتها على السواء بين قائد عسكري لا يمتلك إلاّ صلاحيات محدودة وبين قائد حزبيّ (سياسي) يمتلك جميع الصلاحيات، والتي يستطيع بممارستها تحجيم دور الأوّل في معظم مناحيه.
تأثير وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية معاً على نفوس العراقيين قبل بدء الحرب، بأن قوات التحالف آتية إلى بلدهم مضحّية بأرواح جنودها لأجل ((تحريرهم)) من نظام شموليّ، وان قادم أيامهم ستكون أشبه بجنّة الفردوس يتمتعون خلالها بالحرية والديمقراطية والتعدّدية والفيدرالية فور تخلّصهم من الأجهزة الأمنية والقبور الجماعية والمعضلات القائمة مع دول الجوار… وقد ركّز عليها الغزاة عن طريق إذاعة محمولة على طائرة نقل تُبَثُ منها التوجيهات والترغيبات طيلة (24) ساعة، مصحوبة بقذف ملايين المنشورات التي تنصح الجنود بترك السلاح وعدم المقاومة والتوجّه الى مساكنهم وأفراد عائلاتهم الذين ينتظرونهم، ناهيك عن ((بطاقات مرور)) يستطيع حاملها عبور أية نقطة سيطرة أمريكية من دون أن يتعرض إلى أي أذى… ولما كانت الإتصالات -كما أوردنا- معدومة مع القيادات العليا فإن تأثير تلك النشريات والبطاقات كان مدمّراً للمعنويات والرغبة في إدامة الصراع، وحافزاً كبيراً نحو ترك القتال ومؤاثرة السلامة الشخصية، وبذلك فرغت الوحدات المقاتلة من معظم جنودها وقتما لم يَبْقَ في العديد من التشكيلات الميدانية سوى الضباط والبعض من ضباط الصف.

ثاني عشر. الإستهداف المباشر لـ”بغداد”
لقد سجّل تأريخ الإستراتيجيات العسكرية اُسلوب إستهداف رأس الدولة لصالح “جنكيزخان” – مؤسس الإمبراطورية المغولية- والذي إتّبعه خلال محوه لثلاث إمبراطوريات كبرى (الصين، قره خطاي، والدولة الخارزمشاهية)، وذلك بتشكيله “قوة فرسان خاصة” للمرة الأولى في تأريخ الحروب، تترك ساحة المعركة الكبرى الدائرة بين الجيش المغولي وخصمه، وتتخطى مدناً كبيرة وصغيرة وتطوي مئات الأميال متّجهة بشكل مباشر نحو عاصمة العدو حيث الإمبراطور أو السلطان الخصم، مباغِتَة إياه في عقر قصره، وتضطره إما لقبول الموت أو الفرار إلى موقع ما، فتطارده تلك القوة حتى نهايته، إذْ بموته أو غيابه عن الأنظار يتهرّأ عرشه وتتفكّك أوصال دولته.
وفيما توقّعت القيادة العراقية قصفاً جوياً حليفاً تستغرق بضعة أسابيع، كالذي حدث في حرب الخليج الثانية (1991)، فقد إتبع الأمريكيون إستراتيجية “جنكيزخان” تلك، ليقينهم أن هناك ((شخصاً واحداً)) في “العراق” يمسك بقوة جميع نهايات الخيوط على مستوى الدولة والحزب الحاكم والقوات المسلحة، والذي إذا ما تمّ إزاحته بأي أسلوب كان، فإن غاية الحرب – سواء بإسقاط النظام أو إحتلال “العراق”- يمكن تحقيقها بأسرع وقت وأدنى جهد، وبأقل التضحيات والخسائر.
وهكذا رأينا منذ فجر (19/3/2003) وقد إنهمرت حزمة من مقذوفات “كروز- توماهوك” على أحد قصور الرئيس”صدام حسين”، والذي أشارت معلومات شبه مؤكدة بعدئذٍ أنه كان يرأس إجتماعاً فيه، وقد غادره قبل (20) دقيقة من موعد القصف!!!
تواصلت عمليات شبيهة لذلك بطائرات تحمل مقذوفات غاية في الدقة خلال البعض من أيام الحرب، وصولاً الى صبيحة يومها الأخير في حيّ “المنصور”، حيث لم يجد الرئيس العراقي – مع أعضاء قيادته السياسية والعسكرية العليا- راحة بال أثناءَها، متنقلاً من مسكن مهّيأ سلفاً الى موقع بديل جاهز مسبقاً، وقد حدّت تلك التنقّلات المتلاحقة من إمكانية قيادة البلاد والسيطرة على القوات المسلحة وإصدار التوجيهات والوصايا بهدوء وتَرَوٍّ لمعالجة اُمور الحرب على المستوى الإستراتيجي.
وقد صاحبت تلك المعضلة عمليات جوية وصاروخية إستهدفت تدمير منشآت “بغداد” وعدد من المدن الكبرى والتي تخدم المجهود الحربي من معامل التصنيع العسكري والمدني وبدالات (مقاسم) الهواتف المدنية ومواقع الإتصالات المحورية ومباني القيادات الحزبية والأمنية ومحطات توليد الطاقة الكهربائية ومصافي النفط فضلاً عن القواعد الجوية والمعسكرات والثكنات العسكرية التابعة للجيش العراقي والحرس الجمهوري والحرس الخاص وسواهها.
تلك من ناحية، ومن ناحية اُخرى -وكما سردناه في يوميات الحرب خلال الصفحات الأولى من هذه الدراسة- لا بد من التطرق إلى ذلك الاُسلوب الذي إتبعه الأمريكيون في (تجميد) القوات العراقية المتمركزة في مدن المنطقتين الجنوبية والفرات الأوسط بفرز مجموعات مصغرة -مدرعة أو آلية- مسندة بالطائرات المقاتلة/هجوم أرضي والسمتيات المسلحة، وتخطّيها لإياها متوجهين بـ(القسم الأكبر) من قطعاتهم نحو ضواحي “بغداد” قبل إقتحامها، مع قبول المجازفة بترك خطوط مواصلاتهم البالغة مئات الكيلومترات بحماية محدودة نسبياً، مكتفين بالإعتماد على الطيران غير المردوع.

ثالث عشر. تصرفات القيادة العليا
لم يتصرف القادة المعروفون في التأريخ البعيد والقريب والمعاصر شبيهاً لما تصرّف به قادة نظام الحكم في “بغداد” بإتباع طريقة غير مسبوقة في قيادة البلد، حين تركوا مواقع قياداتهم الأصيلة ومبانيها العامرة ليستقروا في دور مجهّزة بين أحياء مكتظّة بالسكان، وكذلك عملت القيادات العسكرية العليا والحرس الجمهوريّ ودوائر وزارتي الدفاع والداخلية والأجهزة الأمنية ووحدات الحرس الخاص المسؤولة عن ضبط الاُمور في “بغداد”، وقلّدهم في ذلك الوزراء المدنيّون والمحافظون وقوات الطوارئ المرتبطة بهم، وفصائل “فدائيو صدام” -بأوامر جازمة من القيادة العليا- حتى أمسى العديد من أحياء العاصمة والمدن الكبرى مليئة بما سمّيَ بـ”المواقع البديلة” مما صعّد من المشاعر السلبية حيال قادة النظام وتصرّفاتهم، من حيث إستشعارهم بأنهم أضحوا دروعاً بشرية وأهدافاً للطائرات المعادية والصواريخ.
وجاءت نهاية النهاية أنكى بكثير من كل ذلك… فحالما تبيّن أن “بغداد” على وشك الإنهيار، وعوضاً عن ضرورات الإلتزام القيادي والأخلاقي لأولئك القادة بمواقعهم والمقاومة المستميتة فيها ليستشهدوا في سبيل الوطن والعقيدة -كما كانوا يصرخون- فقد تركوها سائبة وهرب البعض منهم إلى خارج العراق وفي حقائبهم ما خفّ حمله وغلا ثمنه، فيما تراجع آخرون لبيوتهم متوجهين أو لمنازل لا تستجلب الأنظار في “بغداد” أو سواها، وكأنهم كانوا قد خطّطوا لذلك مًسبقاً ولربّما قبل إندلاع الحرب، وقبل أن يستسلم العديد تباعاً منهم بين يدي جنود الأعداء، وذلك ماكان الغزاة يتمنّونه تماماً… فساب البلد أمام إحتلالهم البغيض، وإصطفّ الرعاع وزعماء العصابات الإجرامية إلى جانبهم، ففـُقِدَ الأمن والأمان وإستغل حثالات القوم وأبناء الشوارع تلك الأوضاع السائبة فجثموا على صدور العراقيين وأمسوا -هم- سادة القوم، فسادت أعمال السلب والنهب والحرق والتدمير والتفجيرات والقتل بالجملة بحق أبناء الوطن، من تلك التي عانينا -وما زلنا- أوزارها وآلامها وإرهاصاتها ونكباتها وكوارثها، ليس لغاية يومنا هذا فحسب، بل إلى مستقبل منظور.