19 ديسمبر، 2024 2:19 ص

(من دفاتر طفولتي)
في زاوية من الحمّام وضع موقد (بريمز) يتدفق غضبا .. ينتهي برأس  حديدي  محمر  تتدفق  منه نار زرقاء فيها بعض الاخضرار والاصفرار مصحوبه بهدير قوي وكأنك دخلت مخبز لفرن الارغفه ، ولو أردت أن تتكلم لأحد يسمع صوتك لفرط الفوضى في أجواء ذلك الحمّام .. يحيط رأس المشعل مسند حديدي ، ووضع فوقه قدر كبير من الماء المغلي ..
العمليه برمتها لاتخل من المخاطر التي راحت ضحيتها أرواح العديد من المساكين ، سواء نتيجة ألتسمم الناتج من غاز الموقد ، أو لأنقلاب قدر الماء المغلي لكون المسند غير محكّم أحيانا  ، أو لم يوضع القدر عليه بشكل متوازن ..
وعندما كانت الوالده تسوقنا الى الحمّام ونحن في حالة البكاء والصراخ ، وكأننا نسوّق الى دوائر الامن لغرض التعذيب ..
كنا ندرك جيدا ماذا ينتظرنا في ذلك الحمّام اللعين للحد الذي صرنا نمقت أيام الجمع التي تكون عملية الاستحمام والتعذيب  فيها في الغالب ..تبدأ عملية الاستحمام بقيادة الوالده بالماء الحار وصابون الحلب (الرقي) وتبدأ معه حرقة العيون نتيجة ماء الصابون  دون الاكتراث للبكاء والصراخ الذي يذوب مع صوت الموقد ، تعقبها فرك عنيف بليفة الحمام المشعره ، وكانت تلك الليفه عندما تلامس أجسامنا الناعمه ونحن صغار نخالها أشواك قاسيه تجعل اجسامنا محمرّه تماما ..
أما مسك الختام يكون مع حجر الحمّام بأنتظار أسفل القدمين ، ثم سكب الماء الحار  ، وتلتف المنشفه الكبيره لتحتضن اجسامنا الصغيره ، ونتنفس الصعداء لأنتهاء حفلة التعذيب التي ستعقبها مع اخي الاخر ..
أخرج من الحمّام  لاعنا أياه ، وأقف قبالة المرآة الكبيرة في غرفة النوم  ، وأنظر الى وجهي تلفت نظري العيون المحمرّة  نتيجة ماء الصابون .. وهكذا الى أن ينتهي جميع افراد الاسره من الاستحمام ، وطيلة هذه المده يستمر هدير صوت الموقد دون انقطاع ..
يقينا لمن تجاوز الستين أو السبعين من عمره فما فوق يتذكر تلك الايام  وذلك الحمّام ، وربما يحن اليها ..
أن الذي جعلني أتذكر تلك الايام فهو حال النازحين الذين يفتقرون حتى الى تلك الحمّامات البدائيه ، وهم يضطرون للاغتسال داخل الخيم ، أو في أماكن تغلفها طبقات من الصفيح ، وربما في العراء !!..
ترى متى يعود هؤلاء المهجّرين الى ديارهم ويضعوا خاتمة لعذاباتهم ويداو جراحهم ؟..

أحدث المقالات

أحدث المقالات