23 ديسمبر، 2024 9:57 ص

في التمدن والتحضر والبداوة

في التمدن والتحضر والبداوة

[بعد كتابة أربع حلقات عن (الدولة المدنية) أرى لزاماً علي أن أكتب في معاني (البداوة والتمدن والتحضر) لإستكمال صورة (المجتمع المدني) في الدولة المدنية]
في التمدن والتحضر والبداوة
البدو هم سكان البادية الرعاة الرحل الذين يسكنون الخيام ويعيشون على رعي الإبل والماشية ويتنقلون من مكان لآخر طلبا للماء والكلأ. في قاموس لسان العرب: البدو هم ضد الحضر، والبادية خلاف الحاضرة سواءً من العرب أو سواهم؛
البداوة مصدرها بدا وهي أول ما يبدوا منه وهي عيشة بسيطة مبنية على ا لتنَقُّلٍ وَالتَرْحَالٍ ، عَكْسَ الحَضارَةِ والتمدن .
والبدو الذين يعيشون حياة البداوة البسيطة مع حيواناتهم التي تحتاج الى الرعي والسقي لذا فهم غير مستقرين في مكان واحد لذا تكيفت حياتهم على هذا المبدء فأثاثهم بسيط خفيف يسهل رزمه وحمله ونصبه من جديد وغذائهم يعتمد في الدرجة الاولى على منتج حيواناتهم وما تجود به البيئة عليهم من خيراتها البسيطة وهم يعتمدون على انفسهم في تنظيم مجمل حياتهم وحماية انفسهم ومواشيهم من الاعداء سواء من الحيوانات المفترسة الجائعة او الغزاة واللصوص وكذلك حال بيوتهم وملابسهم ودوائهم يعتمد بالدرجة الاولى على بيئتهم ايضاً وهكذا تكيفت حياتهم في الفلاء بعيداً عن الحضارة فكان لهم عاداتهم واعرافهم وقوانينهم التي تناسب بساطة عيشهم وتنقلهم وبيئتهم . فهم يبتعدون دائما عن البناء والمدن المكتظة بالسكان وعن التحضر بشكل عام ومع هذا فهم غير منعزلين تماما عن الحياة المدنية ولهم صلات متقطعة بالمدن يسوقهم لها إحتياجاتهم من مكملات غذائهم البسيط والدواء والعلف في وقت الصيف والوقود للآلياتهم التي تتراوح بين حاويات المياه وشاحنات العلف والمتاع … وهكذا
وثقافتهم هي بنت بيئتهم القاسية وبنت الصحراء الشاسعة المترامية بلا حدود لها ولا مسافات وسمائها الصافية الغزيرة بالنجوم التي تعيش معهم فيستدلون بها ويانسون لأضوائها فهم يعيشون متداخلين عضوياً مع بيئتهم وما تجود بها عليهم وبسمائها التي لا يسئمون من النظر اليها وحيواناتهم المنتجة أو الحامية التي يعيشون وسطها وتعيش معهم من لحظات الفجر الاولى حتى مغيب الشمس فيطرب لأصواتها وتطرب لأصواتهم وحاديهم في صمت الصحراء الرهيب.
وتمتاز لغتهم الشعرية بالألفاظ التي تتناسب مع جلادتهم وصبرهم وحاجتهم الدائمة الى الماء والخضراء ؛ ومصدرهم الثقافي الاساسي هو النقل عبر الرواة والقصصاص والمتكلمين …
ورغم التطور الذي شهدته حياة البادية فهو تطور شكلي محدود جدا ولا زال الانسان البدوي متمسك بعاداته وتقاليده (التي هي قانون البادية الاصيل) وقبيلته التي هي عزوته ومصدر قوته وهي دولته ومرجعيته وشيخ القبيلة الذي هو رئيسه السياسي والاجتماعي والعسكري الذي يرث المشيخة ويورثها وبيئه التي لا يألف سواها وهي مصدر عيشه ورزقه فهم يقفون على حافة التمدن يأخذون منه اقل من كفايتهم بكثير ويهربون من ترفه الذي قد يفسد عيشتهم وما تعودوا عليه ولا يطيقون تغييره . والبدو مجموعات متناثرة في الصحراء والمراعي وغالباً ما تمثل كل مجموعة عرق محدد منغلق على نفسه إجتماعياً بشكل كبير . وعلاقاتهم بمن حولهم تتسم بالتنافس الحذر والترقب وسلاحه جزء من تكوينه وجزء من قانونه ولا غنناً عنه في رعيه في البادية أمام الأخطار والحيوانات المفترسة التي تهدده فهو لا ينام إلا قليلاً ونومه متقطعاً وإذا نام أحتضن سلاحه شابكاً عليه ذراعيه ؛ وسلاحه رفيقه الدائم لإن له وعليه (ثارات) لا تنسى وهي التي تكون الجزء الأهم من تراثه وحياته ومن دونها لا تبقى للحياة معناً فهو دائم البحث (ودائم الهرب)عن الأعداء ليقتص منهم وهم دائمي البحث عنه ليقتصوا منه ولعل هذه الحياة التي صنعت الروابط الإجتماعية فهم يحتاجون إلى التحالفات مع القبائل الاخرى التي ترسم خط سيرهم وترحالهم ورعيهم وتقويهم أمام اعدائهم ومنها يأمنون بعضهم شر بعض ! وهي من جانب قد تكون من اهم اسباب الزيجات بين القبائل المختلفة والتي ترسم علاقاتهم فيما بينهم وتخفف من وطأة الثارات والخوف أملا في وضع حد للحروب والغزوات والحصول على شيء من الأمن وهذه هي (حياة الإستقرار بالنسبة للبدو الرحل)
غادر منهم بعض الشباب الى المدينة بدوافع شتى ومنها التعلم ومنها الزواج ومنها مغريات المدينة وتنشاء تبعاً لذلك بعض نقاط اتصال البسيطة للتبادل الثقافي الحذر بمعناه الاجتماعي المبسط .
اما القرى والمدن فقد أنشأت لها حياة تتسم بالاستقرار والثبات والتداخل المدني بين القرى والارياف والمدن في حاجة متبادلة لا يستغني احدهم عن الاخر وكان من مصلحة المدينة ان تتطور القرى لذا فقد كانت علاقة تبادلية .
أما التمدن لغة فهو (تَمَدَّنَ: (فعل تمدَّنَ يتمدَّن ، تمدُّنًا ، فهو مُتمدِّن من المدينة والإستقرار والرقي والعمران .
والتمدن تجمع بشري متنوع في مكان محدد لغرض الإستقرار يرافقه مستلزمات الإستقرار من العمران (مساكن وطرق وخدمات) ؛ وقوانين منظمة لهذا التجمع وغالباً ما تنشاء (المدن) تحيطها تجمعات صغيرة متفرقة من البدو أو القرى الصغيرة البسيطة التي تعيش حياتها البسيطة التي غالباً ما تعتمد على منتجها الذاتي بشكل رئيسي وتبداء تلك المدن بإستقطاب أناس مِن مَن حولها نتيجة للمصالح المتبادلة بينهما فالمدينة كيان أكثر تعقيداً من البداوة والريف يحتاج إلى تنوع كبير في الخدمات وإلى تنوع معقد في الطاقات والخبرات الإنسانية لذا فهي تجذب من يمتلك المقدرة على العيش في المدينة ثم التكيف مع معطياتها المدنية وعلى هؤلاء (الوافدين) التكيف مع حياة المدينة بما يتلاءم مع القوانين المدنية الجديدة والتي تنشاء عنها عادات وتقاليد وأعراف مدنية جديدة وكذلك علاقات إجتماعية منفتحة إلى جميع مجتمع المدينة والتي غالباً ما يكونون متعددي الأعراق والأديان والثقافات ولا تقتصر على قبيلة أو جنس محدد ومن كل ذلك تنشاء (المواطنة) التي تجمع كل هذا التعدد والتنوع في الأعراق والثقافات والأديان كما كانت المجتمعات المنغلقة (كالبدو) . وفي المدينة (قوانين) مكتوبة ملزمة للجميع تنظم حياتهم بشكل دقيق وتلغي أو تقيد القوانين والأعراف البدوية القديمة عبر (سلطة حاكمة) لها إعتبارها الإجتماعي تلغي حاكمية (شيخ العشيرة المتفرد) إلى حاكمية المؤسسة (الدولة) و تشرف على تطبيق هذه القوانين أضافة إلى تقديمها الخدمات والرعاية التي يحتاجها مجتمع المدينة ؛ ويعمل (المجتمع المدني) بمشاركة (الدولة) عبر (مؤسساتها) على (جلب المصالح ودفع المفاسد) و تحقيق الأمان ودفع المخاطر عن المجتمع توفير المستلزمات الخادمة والمطورة للمدينة من أنظمة وقوانين وأجهزة والآت ومعدات وتطوير الخدمات والعمران المدني إضافة إلى حاجة المجتمع المدني إلى بعض الأدوات والأجهزة ذات الإستخدام الشخصي الذي تتطلبها حياة المدينة حيث يتطور مفهوم (الإكتفاء) من الإكتفاء الشخصي و العائلي إلى (الأكتفاء الإجتماعي) و(إكتفاء الدولة) . ومن بعد كل هذا وذاك تنشاء (علاقات إقتصادية) تهدف إلى التكافل الإجتماعي والتكامل الإقتصادي.
والتمدن ليست حالة مقتصرة على درجة واحدة من (التطور والرقي) بل هي بنسب متفاوتة ومختلفة من مجتمع متمدن إلى آخر وهي في حالة (نمو) مستمرة وليست مستقرة وكلما تمكن (المجتمع) من تحقيق التعايش السلمي والإندماج الإجتماعي والإرتفاع بالمنتج القومي والتطور الإقتصادي بمساعدة (الدولة) التي تحتاج إلى التطور لتطوير المجتمع كلما كان المجتمع أقرب إلى (التمدن) أو كانت (الدولة) والمدينة أكثر تمدناً .
ومن خلال ما تقدم نلمس الفرق الكبير بين البداوة والتمدن من حيث :
1. التمدن يتطلب (الإستقرار الجغرافي) وما يتبعه من تطور عمراني وخدمات وعلاقات جديدة يقتضيه الإستقرار . عكس البداوة التي لا يناسبها الإستقرار الجغرافي فهم في ترحال مستمر وعلاقات محدودة جداً ؛ كما لا يخدمهم (العمران) الثابت والمتاع الثقيل .
2. القوانين والأنظمة المنظمة لحياة المدينة متشعبة ومتطورة ومتغيرة تفرضها قوة الدولة وتنفذها وتشرف على تطبيقها مؤسساتها القضائية ؛ عكس قوانين وأعراف البداوة محدودة و ثابتة ومتوارثة .
3. التطور التقني الذي تتطلبه المدينة من أجهزة ومعدات وآليات ومباني وشوارع وخدمات (صحية وتعليمية وإجتماعية…) متنوعة ومتفرقة ومتزايدة ومتطورة ؛ كل ذلك لا يناسب حياة البداوة البسيطة والخفيفة.
4. العلاقات الإجتماعية المفتوحة والمتجددة بين سكان المدن والتي تعتمد على أساس الثقة المتبادلة والتعاون المشترك والمصالح المتبادلة والتي غالباً ما تتطلب مؤسسات منظمة ونوادي خادمة لها وتنظمها الدولة ومؤسساتها القانونية الضابطة والحاكمة . عكس علاقات البداوة المنغلقة المتنافسة والمتصارعة مع محيطها والتي تحكمها منطق القوة والسيف وسطوة الشيخ وسيطرته على عشيرته وإحترام العادات والتقاليد والأعراف المتوارثة .
تلك هي (المدينة) وهذا هو (التمدن) هو إنتقالة (حضارية) تقتضيها الحياة المعاصرة ولا يمكن العيش خلافه ؛ وبقدر ما تقدمه (الدولة) للمجتمع من مستلزمات (الإستقرار ) وبقدر تطور تلك المستلزمات وتنوعها يمكن قياس مستوى تمدن (الدولة)؛وكلما تقبل (المجتع) لهذه المستلزمات وكان أكثر إستقراراً ورفاهية كلما كان (مجتمعاً متمدناً) . لقد أصبح (التمدن) واقعاً مفروضاً لا يمكن التخلي عنه إلا بالجنوح نحو البداوة والتخلف و كلما تخلى عن مستلزمات التمدن والتحضر وتوجه نحو التوحش والتخلف . وفي الحلقة القادمة نتكلم عن التحضر.

[email protected]