باديء ذي بدء ، أعلن بشكل واضح من دون أي لبس أو غموض ، بأنني ضد أي نوع من أنواع الإحتلال القسري لأية شعوب أو دول وتحت أي مبرر كان . فالإحتلال بغيض وكريه مهما تعددت أسبابه ودواعيه . ولا أخفي أيضا كرهي الشديد لكل أنواع الأنظمة الإستبدادية بغض النظر عن آيديولوجياتها الفكرية والسياسية وفي مقدمتها نظام فلاديمير بوتين الدكتاتوري . وأعلنها بصراحة بأنني أتألم جدا لمنظر الشعب الأوكراني الهائم على وجهه في حدود الدول المجاورة له ، لأنني سبق وأن تجرعت مع شعبي نفس المأساة الحالية للهجرة المليونية حينما غزت قوات الحرس الجمهوري للنظام الصدامي في مثل هذه الأيام من عام 1991 مدن كردستان عقب الإنتفاضة الجماهيرية الكردية . ولكن مع تعاطفي الكامل مع هذا الشعب المسكين وتضامني مع معاناتهم ، ماذا لو أننا تحلينا ولو بنزر يسير من الواقعية حين نحلل أو نفسر هذا الحدث الكبير بعيدا عن أية تأثيرات آيديولوجية أو الانحياز الى هذا الطرف أو ذاك .
قبل الخوض في تفاصيل هذه الأزمة التي عنوانها الأساسي هو عملية عسكرية ” تأديبية ” للنظام الحاكم في أوكرانيا بسبب مخاوف أمنية روسية . سأورد هنا بعض الشواهد التاريخية التي سوف تبين لنا تجارب سابقة مرت بها منطقتنا والعالم لكي نخرج في المحصلة بتقييم واقعي تجاه ما يحصل اليوم من كارثة تكاد تشعل حربا عالمية ثالثة ما سيقضي على فرص الحياة على كوكبنا .
حين حاول صدام حسين إحتلال الكويت تحت ذريعة ( عودة الفرع الى الأصل ) ، حركت الولايات المتحدة الأمريكية جيوش العالم كله من أجل طرد العراق من الكويت . وبطبيعة الحال فإن الكويت لم تكن ولاية من الولايات المتحدة ولم تكن أيضا جزءا من حلف الناتو . ومع ذلك لم تعترض روسيا ( الاتحاد السوفيتي آنذاك ) على تلك الحرب رغم أن العراق كان متحالفا مع الاتحاد السوفيتي !.
وفي عام 2003 حين خاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها حربا أخرى لإسقاط نظام صدام حسين تحت ذريعة إمتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وهي تعرف بأن العراق رغم إمتلاكه لأسلحة بايولوجية وكيميائية محظورة دوليا ، لكنه لم يكن يمتلك أية أسلحة نووية أو حتى برامج لإنتاجها . وكان العراق آنذاك مازال حليفا لروسيا . وحين أسقطت فرنسا وحلفاءها نظام معمر القذافي ، وتدخلت بطائراتها ودعمت معارضي النظام ، لم تكن هناك أية حجة لدى فرنسا لخوض تلك الحرب .
نفس الذرائع موجودة اليوم لدى روسيا ، فهي ترى وتلمس إمتداد حلف الناتو الذي يكاد يطوقها من كل الجوانب . ومازاد من المخاوف الروسية هي محاولة أوكرانيا الإنضمام الى ذلك الحلف وكذلك الإندماج بالاتحاد الأوروبي . هذا بالإضافة الى وجود مفاعلات نووية حقيقية في هذا البلد مما يؤهله لنصب أكثر من قنبلة نووية بجوار روسيا . فلماذا تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها إغفال كل هذه التهديدات الحقيقية المحيطة بروسيا ؟..ولماذا يحاول الناتو التوسع الى هذا الحد بما يهدد أمن روسيا عبر تسليح الدول المحيطة بها وإستعدادها للدفاع عن أنظمتها ؟!.
سوف لن أخوض في الإدعاءات الروسية بتبعية أوكرانيا وكونها جزءا من روسيا ، فأوكرانيا حالها حال الكويت دولة مستقلة لها حدودها وكيانها السياسي المعترف بها دوليا ولايجوز بالتالي إحتلالها من قبل الغير . ولكن بعيدا عن التحدث في تلك التبعية التي هي مشكلة كل دول العالم دون إستثناء ، أليس من حق روسيا أن تدافع عن أمنها وسلامتها وتعمل على دفع التهديدات الخارجية ضدها ؟!.
نحن نتذكر أن الولايات المتحدة كادت أن تشعل حربا عالمية ثالثة في ستينيات القرن الماضي حين تجرأ الاتحاد السوفيتي بنشر الصواريخ في كوبا القريبة من حدود أراضيها . فلماذا يحرم على روسيا أن تمنع نشر الصواريخ والقنابل النووية بمحاذاة حدودها ؟!.
لا أريد الحديث طويلا بهذا المجال فإنني أخشى أن يتهمني البعض بتهم لست أهلا لها ، كأن يراني البعض داعما لهذا الغزو البربري أو متعاطفا مع النظام القمعي الإستبدادي لفلاديمير بوتين . لكن هذا هو الواقع الذي نحتاج أن نأخذه بعين الإعتبار عند تحليل أسباب هذه الحرب اللعينة.
والآن فقد وقعت الحرب ، وأرى بأنه كان من الأنسب أن لا ينخدع الرئيس الأوكراني بوعود أمريكا ليضع نفسه في هذا المأزق الخطير ، وكان عليه أن يحترم مطالب الجانب الروسي ويسعى لطمأنته قبل أن يفكر بخوض صراع غير متكافيء مع ثاني أكبر دولة بالعالم ويتسبب بهذه الكارثة لبلده وشعبه . وكان عليه أن يعتبر من الحروب الكارثية التي حلت بالعراق واليمن وليبيا وسوريا وكيف أنها دمرت البلاد والعباد .
وأخيرا، هل يتوقع الرئيس الأوكراني وهو يتسول السلاح والمرتزقة من دول العالم وأصبحت قواته الجوية خارج الخدمة ومدن بلاده تسقط الواحدة تلو الأخرى أن يخرج من هذه الحرب منتصرا ويهزم روسيا ثاني دولة عظمى في العالم ؟!. أعتقد بأن هذه الحرب إذا لم تنته بمفاوضات سلام تلبي جميع شروط الرئيس الروسي من أوكرانيا ، فإنها سوف تمتد لسنوات طويلة ، وتحديدا طوال فترة بقاء فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا ، فهو لن يرضى لنفسه وبلاده أن يخرج منها مهزوما مدحورا يجر أذيال الخيبة مهما تجيشت جيوش العالم ضده .
صحيح أن البعض يتصور بأن أوكرانيا ستتحول الى مستنقع شبيه بأفغانستان بسبب هذا الغزو ، ولكن طالما بقي بوتين رئيسا لروسيا سوف لن ينسحب ولن يساوم على الخروج كما فعل الحكام السوفييات سابقا . قد يأتي رئيس آخر بعده يرضى أن ينسحب ، أما بوتين فإن كبريائه سوف يمنعه الى آخر يوم في حياته من الإقدام على هذه الخطوة ، لذلك أعتقد بأن هذه الحرب سوف تطول الى حين مغادرته السلطة عام 2036..
وخلاصة القول أرى بأنه إذا إستطاعت روسيا إحتواء العقوبات الغربية والتعايش معها أو إيجاد بدائل لها ، عندها أعتقد بأن بوتين قد يحاول شن حروب أخرى ضد دول الإتحاد السوفيتي السابق لإستعادتها الواحدة تلو الأخرى سواء ، وسيسعى لتنصيب عملائه في السلطة هناك ، أو دفع تلك الدول للإنضمام الى الاتحاد الروسي .