وكما هو معلوم ، بأن الغوغاء هم فئة من سفلة القوم ، وقيل عنهم أنهم عون كل دكتاتورظالم وسند كل ناعق دجال وباغ وفاسد ، وهي ظاهرة اجتماعية لا يخلو منها مجتمع . ويزداد خطر الغوغاء كلما إشتد الجهل في المجتمع وكلما ( تَغَوَلَت ) مرجعياتهم واشتدت شوكتها . ولان ( الغوغاء يختلفون في نتائجهم باختلاف طبيعة المجتمع الذي ينشأون فيه ) ، كما يقول العلامة علي الوردي ، وبما أن طبيعة المجتمع العراقي تختلف عن طبيعة المجتمع الصيني ، أذن فإن غوغاء اهل الصين ، وهم فئة من مجتمع أهل الصين يختلفون في نتائجهم عن غوغاء أهل العراق ، الذين هم فئة من مجتمع أهل العراق . كما أن الغوغاء في اهل مصر ( ومنهم البلطجية ) يختلفون في نتائجهم عن الغوغاء في اهل العراق ، بسبب اختلاف طبيعة المجتمعين .
والان ، عندما يكون السؤال المطروح : ما هو وجه الاختلاف ؟! ، فإننا حتماً نجد الإجابة عند الوردي الذي شاء أن يعقد مقارنته في هذا الامر، مع غوغاء اهل الصين فيقول : ( ظهرت في الصين حركة شعبية أُطلق عليها في اللغة الصينية / سن فن ووفن / ، وكان المقصود بها تطهير البلاد من الخونة ومفسدي جهاز الحكم . فقد كان الناس يتجمهرون احياناً أمام مخزن بعد أن تلصق الحكومة على واجهته اعلاناً بتهمة معينة . ويشعر صاحب المخزن بالخزي الكبير فيركع على الأرض مطرق الرأس . وإذا سيق الى المحكمة أحاط الناس به يهينونه أو يقذفونه بالطماطة والبيض الفاسد . )
ويضيف الوردي : ( ومهما فعل أهل الصين بمثل هذا المتهم فانهم لا يجرؤون على مهاجمته بالساطور أو جره بالحبل . اقصى ما يقومون به نحوه انهم ينتظرون أن تصدر المحكمة حكمها عليه ، وقد يطالبون أثناء ذلك بتشديد العقوبة عليه أو إعدامه . وكثيراً ما يعترف المتهم بذنبه ويعلن التوبة فيطلق سراحه ويرجع الى البيت آمناً )
ويختتم الوردي أقواله بهذا الصدد ، فيتحدث عن سبب وجه الاختلاف ويقول : ( الظاهر أن لأهل الصين تراثاً اجتماعياً يمنعهم من التطرف في حماستهم الثورية الى الحد الذي شهدناه عندنا . وربما صح القول باننا اندفعنا في حماستنا الى درجة يندر أن نجد لها مثيلاً في بلد آخر )
وهنا يقتضي التنويه بأن الوردي قد تحدث الينا في هذه القضية على ضؤ المجازر التي حدثت في عام ١٩٥٩ في الموصل في آذار وفي كركوك في تموز، فضلا عن أفعال السحل بالحبال والتمثيل بالجثث في مناطق أخرى من البلد في تلك الفترة ، وحذر من احتمال تكرارها ووصف القائمين بها بانهم ( كانوا من الغوغاء والشبان المتحمسين وهم قبل كل شيئ عراقيين . ولا أستبعد منهم أن يقوموا بها مرة أُخرى بتأثير أي ناعق ينعق ، أو ريح تميل . )
وبعد أن يجتهد في تعليل وتحليل ظاهرة الغوغاء وسببها ويتنبأ بتكرار مثل هذه الافعال المشينة فأن الوردي يؤكد تحذيره وتنبيهه من خطورة اهمال ثم استفحال الظاهرة ويدلنا على ما نحتاجه للتعامل معها فيقول : ( إنها ليست مشكلة أحزاب بمقدار ما هي مشكلة مجتمع مريض تعاودت عليه الادواء والمصائب على مدى أجيال متعاقبة … ونحن اذ نهمل النظر اليها من هذه الناحية قد نساعد على تكرارها في بلدنا مرة بعد مرة …… نحن نحتاج الى ثورة فكرية. اجتماعية مثلما نحتاج الى ثورة سياسية واقتصادية )
من الطبيعي أن نستعين باجتهادات الوردي التي نشرها بعد عام ١٩٥٩ وهو الذي ادرك خطر الغوغاء منذ وقت مبكر ، وحينها قال : ( … فقد خبرت خطر الغوغاء وأدركت مبلغ دناءتهم عندما أخرجت كتاب ( وعاظ السلاطين ) عام ١٩٥٤… كنت أبغي من الكتاب تنقية الدين من ادران سلطانية آثمة . فالدين في أصل طبيعته حركة ثورية ولكن السلاطين ووعاظهم وجلاوزتهم حرفوه عن طبيعته الأولى فجعلوه وسيلة للتخدير والطاعة العمياء . ومهما يكن الحال فقد هاج الغوغاء على كاتب هذه السطور هياجاً عجيباً وهددوه بالقتل غير مرة وثلبوه ثلباً قبيحاً … )
ومن المناسب هنا ان نستذكركلمة عبدالكريم قاسم في كنيسة مار يوسف في ٢٩/ ٧ / ١٩٥٩ والتي ادان وشجب بها تلك المجازر وتسائل قائلاً : ( هل فعل ذلك جنكيز خان أم هولاكو من قبل ؟! ) .
ولعل من المناسب والمهم ايضاً ، أن نعقد مقارنة بين نتائج الغوغاء في كل من بلاد الرافدين وبلاد النيل في التاريخ المعاصر، حيث ان البلدان يختلفان في الموروثات الاجتماعية( ثقافة المجتمع ) وتبدو المقارنة واضحة جلية في صورتين … (الأولى ) في مصر، في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ قامت مجموعة الضباط الاحرار بتغيير النظام الملكي بما أُطلق عليها في أول ايامها ( حركة مباركة ) . وفي العراق في ١٤ تموز ١٩٥٨ قامت مجموعة الضباط الاحرار بتغيرالنظام الملكي بما أُّطلق عليها ( ثورة ) … في وادي النيل سجل التاريخ اياماً إنسانية بيضاء في التعامل مع رموز النظام الملكي ، وفي الالتزام بالحفاظ على الممتلكات … اما في وادي الرافدين فان التاريخ قد سجل اياماً سوداء، معروفة الوصف ، من بشاعة ودناءة وخسة في التعامل مع رموز النظام الملكي مع ما رافقتها من فوضى سلب ونهب وتدميرمنشئات وممتلكات ، وكان الغوغاء هم ابطال هذه المشاهد .… أما (الصورة الثانية ) وهي الصورة الاحدث وفائقة الوضوح ولا تحتاج الى مزيد وصف ، هي التي شاهد نا فيها نتائج أفعال ( البلطجية ) في مصر في ساحات ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ فإن هولاء ،رغم تحالفهم مع الشرطة ، لم يفعلوا في ميدان التحرير وأحياء اخرى ما فعله الغوغاء واخوانهم في ساحات تشرين ٢٠١٩ في العراق من أفعال مشينة !!!
واليوم وبعد ستة عقود على نشر النقد الصريح للوردي لافعال الغوغاء من اهل العراق ورؤياه في ضرورة التعامل مع هذه الظاهرة وأسبابها بثورة فكرية اجتماعية ، نقول الاتي :
# … كانت مرجعيات الغوغاء حينها هي الراعية والداعمة والمحرضة لهم وتستثمر مهاراتهم وطاقاتهم ، وكانت كل مرجعية تسعى لتجنيد اكبر عدد منهم واحتضانهم واستنفارهم ويتم ذلك كله بالتوازي مع القيام بتكريس عوامل وأسباب التخلف والجهل والتطرف من أفكار ظلامية وشعوذة ومن خرافات واخواتها، ومن مفاهيم منتهية الصلاحية . وكانت الأدوات الأكثر استخداماً من قبل الغوغاء في افعالهم هي حبال السحل والأدوات الجارحة ومسدسات ذاك الزمان … والتساؤلات التي ينبغي تناولها اليوم هي : ما هي المتغيرات التي طرأت على ظاهرة الغوغاء عبر العقود الستة المنصرمة ،وما الذي أفرزته متغيرات العصر وتعاقب السلاطين والناعقين ، قبل وبعد نيسان ٢٠٠٣ ؟! وهل أن نتائج أفعال الغوغاء من اهل العراق ، كما وصفها الوردي ما زالت محتفظة بخصوصيتها المتميزة أم طالها ( التحديث ) الحديث ؟!
قد تختلف الاجتهادات في الإجابة على التساؤلات ، لكن الذي لا خلاف عليه ، هو أن أفكار الوردي قد بقيت كلمات في سطور ، والسطورفي صفحات كتاب ، والكتاب ( شبع نوم ) في المكتبة ، والمكتبة مفتاحها عند ( شباب الجيل الجديد ) الذين قد تتفق فئة منهم مع أفكار الوردي وتعينهم في بحثهم عن وطن ، ويكتشفوا الخطوة الأولى لخارطة طريق قد تقود الى ( معجزة ) يشهد بها البلد ( ثورة فكرية إجتماعية ) كما أوصى بها المرحوم . وحتى ذلك الحين ، سيبقى السؤال في ساحات الشباب : ماذا عن الغد وكيف سيؤول فيه حال بلادي ؟!! … وياتينا الاثير بصدى جواب من بعيد … آه … يا خوف فؤادي ، على بلادي ، من الغدِ … من غدر غوغاء بلادي !!!