23 ديسمبر، 2024 1:40 ص

في ألقاب الشعراء والأدباء ..استطراد ودلالات -4

في ألقاب الشعراء والأدباء ..استطراد ودلالات -4

استحثني عديدٌ من الأصدقاء والقرّاء أن أواصل ما بدأت من ألقاب الشعراء؛ وحيث أن الموضوع طويل سأختصر الطريق عابرا العصور الى عصرنا الراهن هذا، ممنيا النفس أن تصبح سلسة المواضيع كاملة بين دفتي كتاب..
مع القرن المنصرم ومنذ عقده الثاتي بدأت الألقاب تأخذ منحىً جديدا لا قبل به في العصور السابقة من تاريخ الأدب ورجالاته، فلم تعد لها علاقة بالشعر مثلما كانت من قبيل صناجة الشعر أو لصفة لازمت صاحبها كتأبط شرّا أو لدمامة فيه كالحطيئة أو لطبع فيه كالأخطل، ولا لصفة حميدة فيه كالشاب الظريف ولا لأصل فيه كابن الرومي ولا لشغفه بالنساء كصريع الغواني ولا لغرابة فيه كديك الجن ولا ولا..
إنما المنحى أصبح خطيرا وإذا أضفتُ جدّاً لا أكون مغالياً البتة؛ وهو إطلاق صفات المطلق التام Absolute لتلغيَ شيئاً من عباقرة الشعر والأدب الذين كانت لهم الريادة أو الذين أضافوا من عصارات أرواحهم وأفكارهم ليمهدوا الطريق لأخلافهم؛ وأجد في ذلك تجنيا ما بعده تجنٍّ وغبنا ما بعده غبن وأجدني مضطرا الى ترديد ما قاله شيخ المعرة وكأني به يعلم أنه سيضام من أحفاده ليقول:
وقبيحٌ بنا وإن قدُم العهد***هوانُ الآباء والأجدادِ
وهكذا أصبحنا نردد ملء الفم ألقاباً هي ” ألقاب مملكة في غير موضعها- كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد”!!
ولئن كان للعرب ولع بالألقاب وبالتلقيب عبر العصور فلم أرَ في عصرنا الراهن أمة تفوق المصريين في حبهم للتلقيب، والتحبيب والتدليل، فلهم “الفضل” بما انفرد به العرب دون سائر الأمم في وضع لقب الدكتور أو د. قبل الأسماء، وهم الذين ينادون من لا يعرفونه بالباشا او البك، أو الباش مهندس أو ريس أو كابتن,,
أما في العراق فكان التلقيب متفشيا في الصحافة الرياضية؛ فهذا الصخرة، وذاك السد، و هكذا تعرفنا أيضا على الرأس الذهبي والقدم الذهبي ..
والملفت أن هذه الألقاب لم تمنحها هيئات علمية أو أدبية أو رياضيه، إنما يطلقها صحفي او كاتب فتشيع وتنتشر انتشار النار في الهشيم! ولا شك أن أصحاب الألقاب يطربون لها أيما طرب فمن ذا الذي لا يقبل أن يكون أمير البيان، أو عميد الأدب العربي؟! وأي شاعر هذا الذي لا يقبل أن يكون أمير الشعراء أو شاعر العرب الأكبر أو شاعر القطرين أو شاعر النيل وهذا أضعف الإيمان!ولو عددنا الألقاب في عصرنا لتعبنا وأتعبنا ولكن هل سأل أحدُنا يوما نفسه عن أحقية هذه الألقاب وجدارة أصحابها بها، وما تنطوي عليه من مبالغة وما تحمل من إساءة لفحول الشعراء وعمالقة الآداب عبر التاريخ الذين جعلوا من شعرنا وأدبنا مفخرة للأجيال، وموطن اعتزاز نباهي به الأمم الأخرى!! والسؤال الأهم الذي أوجهه لأساتذة الأدب ومؤرخيه والمشرفين على مناهجنا الدراسية والتربوية هل أدركوا المخاطر الأدبية والعلمية لهذه الألقاب التي تمجد شاعرا على حساب شاعر أهم منه وعلى حساب مواكب من الشعراء والأدباء الذين لهم الفضل الكبير في أن ينبغ شعراؤنا وأدباؤنا أصحاب الألقاب؟!
فإذا قلنا أن أحمد شوقي هو أمير الشعراء؛ فماذا أبقينا لامرىء القيس والأعشى و الفرزدق وجرير ودعبل وابن الرومي وأبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري وصفي الذين الحلي ووو؟ أليس هذا كذب وخداع وإفساد للذائقة؟ وحين يراجع طالب الأدب شعر شوقي سيجد فيه روائع في الغزل والمديح ووصف الطبيعة.. وسيجد بعضاً من الشعر الركيك وخاصة في مسرحياته الشعرية..والسؤال نفسه يطرح في الجواهري وشاعريته، فكيف يكون شاعر العرب الأكبر وفي قصائده روائع وفي بعضها قصائد ركيكة هابطة وروائعه لا تخلو من الهابط، فإذا أبدع في الوطنيات والرثاء ووصف الطبيعة فإن غزله ضعيف المخيلة يخلو من الرقة وصدق العاطفة ولا يصل لغزل عمر أبي ريشة ولا بَشارة الخوري! بينما اتسم شعر بدوي الجبل بالابداع وبالمخيلة والرقة والجزالة وقلما تجد له بيتا هابطا! بل أجد أن الرقة لا زمت الجيل الذي سبقه من مجددي المدرسة النجفية لتُخرجها من الخَطابة والمباشرة الى خصب المخيلة وجمال اللفظ والجزالة بمواهب محمد سعيد الحبوبي وموسى الطالقاني وجعفر الحلي ومحمد رضا الشبيبي وعلي الشرقي.
ما أحببت قوله هو أن لكل شاعر نقاط قوته ونقاط ضعفه وهذا ما أدركه النقاد الأقدمون حين وازنوا بين الشعراء وما زالت أراؤهم حية نابضة تنطبق على شعراء عصرنا فلا إطلاق إذن بعبقرية المواهب فلكل موهبة ميزاتها وامتيازاتها؛ وخير ما أستشهدُ به هو ابن قتيبة في ” الشعر والشعراء” ص14 حيث يقول” فالشعراء أيضا مختلفون، منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من يتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل”.
ولو أتينا الى طه حسين “عميد الأدب العربي” والأدب يشمل الشعر والنثر بيد أن المقصود به النثر باعتبار أن “العميد” ليس بشاعر وإن كانت له في شبابه محاولات بالشعر ليست ذات شأن بل هو يخجل كلما يتذكرها! إنما حقله كان في دراساته المهمة “في الشعر الجاهلي” الذي اثار لغطاً كبيرا أكبر من حجمه حين طبق مبدأ الشك الديكارتي الذي اخذه من مرغيليوث، ثم في كتابه المهم في النقد “حديث الأربعاء” وكتابه “فصول في الأدب والنقد” وكذلك في سيرته “الأيام” التي كتبت باسلوبه الذي يجمع بين السهولة والسلاسة والتكرار والنبرة الموسيقية المميزة؛ فهو نموذج للسهل الممتنع بحق.
وفي مِلّتي واعتقادي أن كتابه عن المعري الذي هو رسالة الدكتوراه من الجامعة المصرية، فهو كتاب فقير لو قورن برسالة الدكتوراه التي نالتها بنت الشاطىء عائشة عبد الرحمن في الموضوع نفسه ومن الجامعة نفسها بعد نحو من ثلاثة عقود.
ورغم أن الدكتور طه حسين كان لصيقا بفرنسا والحياة الفرنسية إلا أنه لم يكتب عن الحياة الثقافية الفرنسية إلا القليل مثل الذي كتبه عن الفنانة سارة برنار، وعن بعض أعلام فرنسا كراسين وكورني..في الوقت الذي انشغلت الحياة الأدبية يومذاك باتجاهات أدبية وفلسفية كالوجودية وما أضافته للفلسفة والأدب من مؤلفات سارتر وألبير كامو .. وحيث كانت الماركسية في أوج عطاءها الفكري والأدبي في باريس لم يذكر عنها شيئا. ولكنني من ناحية أخرى أرى كتابه “من أدب التمثيل اليوناني” فتحا مبينا بالتعريف بالميثولوجيا الإغريقية، وهو الذي شجّع تلميذه دريني خشبة على ترجمة الإلياذة وأساطير الحب عند الإغريقيين..
ولكن من ذا الذي يُنكر جهوده الأدبية ومن ذا الذي ينكر طه حسين الوزير وكفاحه من أجل جعل التعليم مجاناً لضرورته ضرورة الهواء والماء والغذاء حتى لقب من باب التندر بوزير الهواء والماء والغذاء! ومن ذا الذي ينكر كتابه الهام ” مستقبل الثقافة في مصر”؟؟
ومهما يكن طه حسين في حجمه وفضله فهو لايكون “عميد الأدب العربي” وإلا ماذا نبقي للجاحط وابن المقفع وابن العميد وعبد الحميد الكاتب ووو.. وماذا نبقي للنقاد العظام من عيار الآمدي وابن سلاّم وابن قتيبة وابن منقذ  وابن قدامة والقاضي الجرجاني وابن هلال العسكري..؟!
متى نهجر الألقاب ونعافها وننظف مناهجنا الدراسية وصحافتنا منها ومن تداولها؟؟!!
بينانغ في الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر 2014