15 نوفمبر، 2024 6:34 ص
Search
Close this search box.

في ألقاب الشعراء والأدباء..استطرادٌ ودلالات-3

في ألقاب الشعراء والأدباء..استطرادٌ ودلالات-3

نحن أمام شاعر بارزٍ متفرِّدٍ في كل شيء، في لقبه وفي شعره وفي حياته وحتى في مماته (ت 530م)، والشاعر هو صُعلوك بارزٌ، شَكّل أحدَ أضلاع المثلث الأكثر شهرةً وبَأساً وشاعريةً وعَدواً من بين العشرات من الشعراء الصَّعاليك، وأظن أنَّ من تابعنا في رحلتنا هذه لن يُخطىء الهدف، بعد أن مررنا على عروةَ والشَّنفرى وحططنا الرِّحال ضيوفاً خِفافاً عند كل واحد منهما.. شاعرنا إذن هو ثابت بن جابر الفَّهمي القيسي، وترى الإسمَ جميلاً على خلاف لقبه ” تَأبَّط شَرّاً “، واللقب هو في حقيقته ليس اسماً كما اعتيد أن تكون الألقاب، بل هو جملةٌ فعلية تامة المعنى! على أن تمام المعنى هذا فيه نظَرٌ وخلاف في هذا المفعول الذي تأبّطه الشاعرُ ولازَمه منذ احترافه الصَّعلَكة حتى مقتلِه صعلوكاّ! فما هي إذن طبيعةُ هذا الشرِّ المتأبَطِ يا تُرى؟

تختلطُ الخرافة مع الواقع في أكثر من قضيةٍ عند شاعرنا هذا أكثر من غيره، ولا سيما لقبه، وأشهر الروايات(1) التي تذكر سبب لقبه هي أكثرها خرافة: أنه كان في الصحراء وصادف كبشاً فاحتمله تحت إبطه فجعل يبول عليه طول الطريق حتى وصل الحي فرمى به فإذا هو الغول (2)، فقال له قومه: ما تأبطت يا ثابت؟ قال: الغول، قالوا لقد تأبطت شرا، فأصبح لقباً له! وحيث أن الغول كائن خرافي لا وجود له، فالرواية ساقطة لا يُعتًدُ بها! وأما في الرواية الثانية فيُصبح الغول أفاعياً، حيث دخل على أمه في جراب ضمّ أفاعيا ولمّا فتحه انسابت الأفاعي وعندما سألت نساءُ الحي أمَّه عما تأبط في الجراب،، علّقن: تأبط شرّأ، ورغم أن الافاعي مخلوقات تُأكَل في الصحراء العربية مثلما تؤكل زواحف أخرى حتي يومنا هذا كالضب والأرول..فإن الرواية مع ذلك لا تخلو من تكلّف! على أن الرواية الأكثر واقعية وقبولا: أن امّه أطلقت عليه هذا اللقب لكثرة تأبطه السيف، وهو أداة قتل فيكون كناية عن الشر، ولطالما كانت الألقابُ كناياتٍ..

وأياً كانت مبررات هذا اللقب فإن الشاعر ذاتَه راضٍ وفخورٌ ويردده في أشعاره ملء الفم، بل أن الاصبهاني يعتبره سببا في تلقيبه بهذا اللقب (3)، وفي موضع آخر يروي لنا هذه الراوية التي أختصرُها (4) لأدللَ على ذلك: لقي تأبط شراً رجلاً من ثقيف كنيتُه أبو وهب، فعرض الثقفيُ المهندمُ أن يقايض تأبط شرأ بحلته وكنيته لقاء أن يمنحه شاعرنا لقبه، فوافق، وأخذ حلته وانصرف، وقال يخاطب زوجة الثقفي (الطويل):

ألا هل اتى الحسناءَ أن حليلها****تأبط شرّأ واكتُنيتُ أبا وهبِ

فهبه تسمى اسمي وسُميِتُ باسمه***فأين له صبري على معظم الخُطَب

وأين له بأسٌ كبأسي وسوْرتي***وأين له في كلِّ فادِحةٍ قلبي

ويعنُّ لنا سؤالٌ: ما الذي يجعل للخرافة والأسطورة حضوراً لافتاً في مسار تاريخنا العربي الإسلامي؟

إن محدودية التجربة الإنسانية لدى الشعوب البدائية وعجزها في تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية شأن رافق الإنسان منذ القدم في تطور مداركه ورسخ ميولاً في الوعي (واللاوعي) الجمعي وكوّن تراثا محافظا لتفسير الظواهر مازالت عقابيله حاضرة حتى في المجتمعات المتطورة، فللإنسان توق للخوارق والإندهاش والخيال، وللحظات ينفصل فيها عن المكان والزمان،، وقد أفادت الحكايات والروايات والفنون لا سيما السينما أيما إفادة في تلبية وإشباع هذا التوق لدى الإنسان!

لا أغالي إذا زعمت أن تـأبّط شرّاً نموذج ساطع للشاعر الصعلوك فقد تحلّى بالخصائص التي رافقت الصعلكة في شعره التي وصفت بدقة حياتهم ومغامراتهم بأروع ما يكون الوصف الذي يكتنفه خيال خصب وبلاغة قل نظيرها وغوص على المعاني ونزوع بدوي لازمه في كل بيت وصوت شعري أثّر (وتأثر) في النسيج الشعري، وكوّن لحمة موضوعية وسبكا متقنا لا تفكك به ولا إسفاف..إن محمول القصيدة لدى تأبط شرّاً غنيٌّ في المعاني وثرٌّ في الألفاظ ومن أشهر قصائده ، التي افتتح بها الُمفضَّل الضَّبي مختاراته “المُفضَّليات”، والتي، شرحها العديد من الشراح منهم المرزوقي، وابن الأنباري، الذي حققه الأنكليزي ليال،ونشر في بيروت 1920، وشرح التبريزي الذي حققه فخر الدين قيادة نشر مجمع اللغة السوري 1972 (5) أما ما جاء في الوكيبيديا أن هذه القصيدة أخذ بها طه حسين وجعلها من أبرز قصائد المائة المختارة من ذيوان العرب، فالكلام غير دقيق، فالمائة المختارة كما هو معروف للأصبهاني، وهذه ثلاثة أبيات من مستهل القصيدة (البسيط):

ياعيدُ ما لك من شوْقٍ وإبراقِ**** ومرِّ طيفٍ على الاهوال طرّاقِ

إنّي إذا خلةٌ ضنّت بنائلها *** وأمسكت بضعيف الوصل أحذاقِ

تَجوْتُ منها نَجائي مِن بَجيلة إذ *** ألقيت ليلة خَبتِ الرهطِ أرواقِ(6)

يمكن لمن يريد القصيدة كاملة فيجدها على كثير من المواقع..

ولئن كانت القصيدة أعلاه لا يطالها الشك او الشبهة فإن هناك قصيدة لا تقل عنها ذيوعا، وقد تنازعها ثلاثة هم خلف الاحمر البصري(ت180ه) والشنفرى ورجل لم يعرف اسمه قيل هو ابن أخت تأبط شرّأ، والقصيدة التي نحن بصددها “جاهلية” لا يرقى اليها الشك، بل هي صعلوكية بامتياز، سنذكرها ونذكر دلالاتها لعلنا نجد طريقا الى قائله، أو مؤشرا يدل عليه (البحر المديد):

إن بالشِّعبِ الذي دون سَلْعٍ*** لقتيلا دمُهُ ما يُطَلُ

خلّف العِبءَ وولّى *** أنا بالعبءِ له مُستقِلُّ

ووراء الثأر منّي ابنُ اختٍ***مَصِعٍ عقدته ما تُحَلُّ

مُطرِقٌ يرشحُ سَمّاً كما أط***رقَ أفعى ينفُثُ السَّمَ صلُّ

خبَرٌ ما نابنا مُصمَئلٌّ***جّلّ حتى دقَّ فيه الأجلُّ

بزَّني الدهرُ وكان غشوماً***بأبيٍّ جارُهُ ما يُذَلُ

يابس الجنبين من غير بؤسٍ***وندي الكفين شهمٌ مُدِلُّ

غيثُ مُزنٍ غامِرٌ حيثُ يُجدي***وأذا يسطو فليثٌ أبلُّ

يركبُ الهوْلَ وحيداً ولا يص- م – حبُهُ إلا اليمانيُّ الأفلُّ

إلى أن يقول:

فاحتسوْا أنفاس نوم فلمّا *** هوموا رُعتُهم فاشمعلّوا

حلّت الخمرُ حراماً *** وبلأيٍ ما ألِّمت تُحَلُّ

فلَئن فلّت هُذيلٌ شباهٌ *** لَبما كان هذيلاً يفُلُّ

فاسقنيها يا سوادَ بن عمروِ***إن جسمي بعد خالي لَخلُّ

تضحكُ الضبعُ لقتلي هُذيلٍ***وترى الذئب لها يستهلُّ

وعِناق الطيرِ تغدو بطاناً *** تتخطاهم فما تستقلُّ(7)

اختياري أبياتاً من هذه القصيدة اختيار هادف الى ما سيدعم رأيي والى ما سأخلص اليه في عائديتها. النص هذا يشير بما لا يدع مجالا للشك من أنها جاهلية بلغتها ووصفها المادي للصحراء ومخلوقاتها وانثيلات صورها الحسية والبلاغية، والإخبار الذي رافقها من أول بيت حتى آخره يثبت أنها صُعلوكية، بل وحتى البحر المديد بحر جاهلي شائع ذو أصداء صوتية بدوية أقرب الى الحِداء،، للشاعر الجاهلي المثقف عَدي بن زيد سبعُ قصائد فيه ولطرفة قصيدة ذائعة..وآخرين. كل هذا يُخرج خلَفاً الأحمرَ البصريَّ من حلبة التنافس رغم قدرته الفائقة في تعاطي الشعر ونحله على طريقة الجاهليين كما اعترف هو بذلك، ولمن يروم المزيد فإن رواية متقنة وردت في “الأشباه والنظائر” للأخويْن الخالديين، تكشف عن سبب ورود اسم خلف الأحمر، هاكموها مختصرة(8):

عن الصولي (ت335ه) عن أبي العيناء..قال حضرت في مجلس العُتبي ورجل يقرأ للشنفرى حتى أتى: إن بالشِعب الذي دون سلع…فقال من بالمجلس إنها لخلف الأحمر، فسخر العتبي وروى أنه كان في مجلس مع خلف الأحمر وكان يُنشد قصيدة بروي قصيدة الشنفرى في ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأولاده..إذ هجم الأصمعي (122-216ه) المشهور بانحرافه عن أهل البيت(9)..فقطع ما كان ينشد خلف الأحمر بقصيدة الشنفرى( أي تقيةً/خ) وهذا مستهل قصيدة خلف الأحمر ذات السبعة والأربعين بيتاً (المديد):

قدُّك مني صارمٌ ما يُفَلُّ *** وابن حزم عقدُه لا يُحَلُّ

لرسول الله في أقربيهِ *** وبنيهِ حيث ساروا وأحلّوا

وابن حزم شأنه شأن الأصمعي معروف بناصبيته.

هذا وقد حقق ابن برّي(ت283ه) أن القصيدة للشنفرى(10) يرثي بها خاله تأبط شرّأ فوافق بذلك ما حكاه صاحب الاشباه والنظائر واليه ذهب المعري في شرحه لديوان الحماسة…ويعترض الاستاذ محمود شاكر ” على أننا لم نجد في كتاب آخر قطُّ أن الشنفرى كان ابن اخت تابط شرّاً وأول ما وجدناه

من ذلك، إنما هو عند ابن بري، وهو متاخرٌ جداً، في القرن السادس الهجري…”(11).و الاعتراض منطقي؛ وزد على ذلك أن الشنفرى مات(525م) قبل تأبط شرّاً ورثاه الاخير(12) في قصيدة(الطويل):

على الشنفرى ساري الغمام ورائح *** غزير الكلي وصيب الماء باكرُ

أما أن يكون لتأبط شرّا أبن أخت شاعرمفلق يرثي خاله بمثل هذه العصماء ولا يحفظ لنا الرواة ومؤرخو الشعر اسمه وبقية شعره فامر مردود ولا يُبنى عليه، فالتاريخ يعرّفنا بخال زهير بن أبي سلمى ويحفظ لنا اسمه ونسبه وشعره وهو بشامة بن عمرو بن هلال فكيف لا يعرفنا بابن أخت تابط شراً وله مثل هذه الشاعرية؟!

لم يبق لنا إلا التمعن بالقصيدة والتركيز على الإخبار في الأبيات أعلاه من القصيدة والمعارك التي شنها قائلها على بني هذيل وهو ويسترجع مجريات الأحداث ويذكر أن له ابن اخت سينتقم له،، ناهيك عن خصائصها التي ذكرنا وانسجامها مع أسلوب تأبط شراً، كل ذلك مؤشرات قوية تدل على أنها من بنات تأبط شرّا، وأنه قالها وهو يرثي نفسه، وستتكر هذه الحالة مع صعلوك آخر هو مالك بن الريب!

الهوامش:

1- ابن قتيبة؛ الشعر والشعراء 1/91.

2- الاصبهاني، أبو الفرج؛ الاغاني،1/139.

3- الاصبهاني، أبو الفرج؛ الأغاني،10/176.

4- الأصبهاني، أبو الفرج؛ الأغاني،20/375.

5- تأبط شرّا، الديوان؛ تحقيق وشرح؛ علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي،بيروت.

6- كلمات: الإيراق :الأرق؛ طرّاقن:اسم فاعل مبالغ طرق؛الرهط.موضع؛الخلة:الصاحبة؛ النائل.الوصل؛ الخبت:المنخفض.

7- كلمات: سلع: أحد جبال المدينة المنورة؛ الدم المطلول: الذي لم يأخذ له ثأر؛ المصع: العدو الشديد؛ اشتد، انتفخ غضباً؛ فلّ، الافل السيف المثلم من كثرة الضرب؛ اشمعلوا: نشطوا، طربوا.

8- الخالديان، الأشباه والنظائر؛2/189

9- عرف عن الأصمعي نصبه، حيث أن علي بن أبي طالب قد أقام حد السرقة على جده أصمع.

10- إبراهيم بك،أحمد ابراهيم، مقالة عن قصيدة :إن بالشعب الذي دون سلع” قدم لها عبد الفتاح جمال، نشرت في مجلة أعاريب،ع2 فبراير 2014، وكذلك في موقع الالوكة

11- شاكر، محمود؛ نمط صعب،ص56، راجع المصدر أعلاه.

12- الأصبهاني،21/90

أحدث المقالات

أحدث المقالات