22 نوفمبر، 2024 11:13 م
Search
Close this search box.

في أزمة تعليم الفلسفة

في أزمة تعليم الفلسفة

مقدمة:
” العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث أنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل يوجه النظر فيها الى أهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النوع الانساني منذ كان عمران الخليقة.وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة…”[1] 1

ربما تكون أزمة الوجود التي اجتاحت اليوم الساحة التربوية إلى حد أنها شغلت بال المفكرين وحيرت عقول المتحاورين قدرا محتوما في نظر البعض من الواقعين المتشائمين وربما يستوجب فهمها والغوص في كنهها في نظر المتفائلين الطوباويين إحالتها على هذه الخلفية النظرية والعملية المتأتية من غائية التاريخ ولكن ماهو أكيد بالنسبة الى الفكر الحاذق أن هذه الغائية لا نقدر على الكشف عنها إلا بواسطة الفلسفة والتفلسف وذلك لأن هذه الحضارة نشأت عن جملة من المعاني الصادرة عن دور تفكري وقولي وأن هذه الأزمة يمكن أن نعثر لها على مخرج باتباع مسلكين:
1 ـ فإما أن تضمحل هذه الحضارة باغترابها أكثر فأكثر عن جوهر معناها العقلاني الديني الذي هو كنه وجودها فتقع بذلك في الحقد على الفكر وتضيق بذلك معنى الوحي وتسير بالناس إلى الظلمة والوحشة.
2 ـ وإما أن تبعث من جديد بفضل عمل بطولي يقوم به العقل ويرتكز على تأويل الشرع بتدبر التراث وتحويل الضاد إلى مقام للوجود في العالم وذلك بتفكيك التلفيقية الغائمة والتحجر الفارغ بصورة حاسمة.
بيد أن هذه الأزمة ناتجة من بعيد أو من قريب من أزمة تدريس الفلسفة وغياب فلاسفة بالمعنى الحقيقي للكلمة من حضارة اقرأ، وقد بينت الأحداث بالواضح ما تمثله الفلسفة من خطورة على حياة الأمم سواء إذا حظر تدريسها أو درست بشكل سيئ. عندئذ تبدو حياتنا اليومية متأثرة بالأحداث الفلسفية حتى تلك التي تبدو لأول وهلة طفيفة وليس لها معنى.كما أن الفلسفة هي وحدها القادرة على أن تفتح حوارا حرا وعميقا حول قضايا المستقبل وهي وحدها التي بإمكانها إبداع إمكانيات أرحب للوجود. هكذا يكون الحديث عن الفلسفة والتربية تنبيها على خطورة الموقف وبؤس الأوضاع في المجتمعات التي يكتسحها الطغيان والتزمت عندما تتعرض إلى فترات اضطهاد للفكر وخنق للحرية وقتل للمدارك الطبيعية للبشر إبرازا إلى ما ينتظر الشعوب من شقاء عندما يهون الفكر فيها ويمتهن أو عندما ينتشر فيها البغاء العقلي ويطارد الفلاسفة وتحاصر كتبهم من طرف دعاة الجنات الموعودة وأصحاب الأقاويل المغشوشة وتضيق عليهم أوقات الدرس ومواده بما لا يلبي انتظارات الجمهور.
إن الفلسفة عبر تاريخها الطويل لم تعرف فترة من الهدوء والاطمئنان بل كلما سجلت انطلاقة جديدة وبعث إلا وتعرضت لأشكال جديدة من المنع والمحاصرة ونظر إليها على أنها خطر يهدد الأمم,فهي ما انفكت تزعزع أركان النظام القائم وتبحث عن مثل أعلى يفتح للإنسان آفاق جديدة للرقي والتقدم.
إن طبيعة الفلسفة هي أن لا ترتاح إليها السلطة التي لا يعنيها غير الحفاظ على امتيازاتها ولذلك فهي تشجع الركود وتبرر ماهو سائد وتنمع الفكر الحر من الانبجاس والانتشار، في حين تحافظ الفلسفة على ما في الإنسان من نزوع دائم نحو ممارسة حرية التفكيروالتعبير وتنتهج طريقا مخالفا للتفكير السائد إذ تقض مضاجع المستسلمين وتثور على الواقع لأنها في جوهرها تحير وسؤال ونزوع إلى القيم والمعنى تعمل على فضح كل أشكال الاستلاب التي يتعرض لها البشر.
يترتب من هذا القول أنه ثمة أزمة في فلسفة اليوم تمظهرت في ثوب تأزم التعليم الفلسفي عبر عنه أحد الطلاب عندما اكتفى بكتابة هذه الأسطر في احد الاختبارات الجامعية في شعبة الفلسفة :
“إن المتعة في برامجكم التعليمية, ندخل مع كل درس داخل كهوف رمادية يكسوها الغبار, جدرانها مكتسية بأنسجة عناكب رهيبة و مقرفة, نسمع صدى أصوات قادمة من وراء خط الزمن, صادرة عن هياكل عظمية تآكلت رؤوسها ونقشت أطرافها، نقرأ نقوشا حجرية بلغة لانفهمها بل ولا نراها. هناك لا نجد مرايا نرى فيها أنفسنا، نحاول إصدار صوت ,فلا نتذكر لغتنا بل ولا نستطيع حتى فتح أفواهنا وان أردنا أن نكتب فان أيدينا مشلولة عما نريد كتابته وكأننا أطفال يجهلون الأبجدية فيأتي شخص آخر من غير زماننا ليمسك و يخط بأقلامنا أشياء وأشكال لسنا نعرف معانيها وليس تعرف معانينا.هناك نخضع لغير إرادتنا, نسمع غير أصواتنا،نتكلم غير لغتنا…لذلك فمن يدخل الكهف،عفوا الدرس, يكون لاشيء بل ولا يكون،فلم تطلبون منا أن نتكلم ونحن أصنام…”[2] 2
فهل هذا التأزم الدائم ناتج عن طبيعة الفلسفة أم أنه صادر عن طبيعة الناس الذين تتوجه إليهم؟ هل ستفضي هاته الأزمة إلى تضييق الخناق عليها أم تنذر بانطلاقة جديدة تقوم على نبذ التفاهات والاهتمام بالجوهر؟ هل أن تعثر كل التعلميات السابقة هو الذي أدى إلى تقلص حضور الفلسفة في الفضاء العمومي أم هو إثبات لها وتنشيط لآلياتها وتجديد لكينونتها ؟
هل تعود أزمة الفلسفة إلى إخفاق في نقل الإبداعات الفلسفية الغربية إلى اللغة العربية وتعذر الترجمة أم إلى استحالة ملائمة هذه الإبداعات للبيئة الثقافية المحلية والأهلية؟ واذا ما رمنا الاصلاح والتجديد فماهي شروط إمكان تأسيس تعلمية فلسفية ناجحة ؟ أي صعوبات يواجهها تدريس الفلسفة في مجتمعنا؟ لماذا لا تتحول هذه الخطة إلى تعلمية فلسفية ناجحة ؟ ماهي أركان وخصائص هذه التعلمية الفلسفية الجديدة ؟ ماذا لو كان الفيلسوف مقتصرا على ذاته أو منحصرا في التأليف الأكاديمي دون أية علاقة له بالعالم؟ أليست الفلسفة في جوهرها حوار وجدل ونقاش وتدريب وتعليم وطريقة لتوليد المعاني من العقول المتحاورة عبر السخرية والتهكم وعبر الدور القولي الذي يدور بين المعلم والمتعلم؟ ما الفرق بين البحث الفلسفي والتعلمية الفلسفية ؟
هل يأخذ الأستاذ بعين الاعتبار المعرفة الموجودة بشكل مسبق في ذهن المتعلم ويوظفها في عمله؟ أليس القصد من التدرب الفلسفي هو الفوز بهذه المعرفة وإعادة بنائها على أسس متينة ؟ ماهي العلوم والمعارف الإعدادية التي ينبغي أن تتعلم قبل الاهتمام بالفلسفة ؟ ما الغاية من تعلم الفلسفة؟ هل هو التعود على حسن قيادة العقل نحو الحقيقة أم تأمل الخير والجمال ؟
هل الفلسفة محتوى متناسق من أصناف المعارف والعلوم أم أنها في جوهرها منهج للبحث والتأمل؟ إلى أي مدى تعتبر الفلسفة رياضة فكرية تدفع بالإنسان إلى اكتشاف المعاني والاقتراب من إبصار العلل الأولى والقيم القصوى؟ هل هدف الفيلسوف هو تلقين الناس ما اكتشفه بنفسه أم تدريبهم على الجهد والسعي للتغلب على الصعاب قصد الفوز بالحقيقة بأنفسهم؟ هل الفلسفة أقرب إلى التعليم التقليدي أم إلى التعليم العصري ؟ أليس أرسطو هو المسئول عن تحنيط الفلسفة وحصرها في قوالب جامدة عندما فصل بين البحث النظري وبين تعليم الفلسفة حسب برنامج محدد وفق أبواب ومفردات مضبوطة ؟ ما القصد من تعلم الفلسفة ؟ هل الفلسفة مادة تعليمية ؟ وهل يتعلم الإنسان الفلسفة أم الإنسان فيلسوف بالطبع ؟ أو بعبارة أوضح هل الإنسان في حاجة إلى الفلسفة ؟ وماهو القصد من تعلم الفلسفة؟ ولماذا تصلح الفلسفة اليوم ؟ هل يمكن أن نقيسها بالمعايير المتداولة للعلم والتقنية؟أي أهمية لتدريس الفلسفة في المؤسسة التربوية ؟
إذا كان مقصودنا هو بناء تعلمية ناجحة من وجهة نظر الفلسفة العربية فان استيفاء هذا الغرض يتطلب منا العودة للنصوص الأصلية التي حملها إلينا التاريخ العربي والشروع في إعادة استنطاقها قصد استخراج ما يمكن استخراجه منها ولذلك ارتأينا أن نقسم مراحل بحثنا إلى الأبواب التالية :
1 ـ أهداف التعليم بصفة عامة
2 ـ أزمة تعليم الفلسفة
3 ـ شروط نجاح تعليم الفلسفة
إن ما نراهن عليه هو بناء تعلمية فلسفية ناجعة تقرب الأفكارمن الأفهام وتخاطب الناس على قدر عقولهم تساعدهم للتمرس على التفكير وتكسبهم القدرة على فهم المايحدث وإجادة فن تقييمه.
فإلى أي مدى تستوفى هذه الخطة مطلبنا في بناء هذه التعلمية ؟ وهل تقدر النصوص الفلسفية العربية التي سنستنطقها أن تلبي حقيقة غرضنا ؟
1 ـ في أهداف التعليم:
” فقبل كل شيء يجب أن نتساءل عماهي أغراض التربية؟هل هي كسب الرزق؟هل هي التعليم والتهذيب؟ أو هي العلم لذاته أو هي الأخلاق؟وهل هي راجعة لمصلحة الفرد وحده أو للجماعة وحدها؟”[3] 3
اعلم أن التعليم هو إيجاد الفضائل النظرية في الأمم والمدن وزرع القيم الحميدة في النفوس من أجل تربية الناشئة تربية سليمة متكاملة وحفز الهمم وشحذ العقول واعلم كذلك أن التعليم فن عزيز المذهب جم الفوائد إن تلقفته الأرواح بالقبول وأمسكته بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وغنمت بذخيرة دائمة
وأتحفت بمنزلة عالية “لا يستوي فيها من يعلم بمن لا يعلم” و”يرفع الناس فوق بعض درجات”.في هذا السياق يصرح ابن خلدون:”ان البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارة علما وتعليما والقاء وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة. الا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا”[4] 4.
ان للتعليم أهداف ومحتويات ومناهج ويتطلب التدرج والمرور بعدة مراحل إذ يتعاقب المعلمون على المتعلمين أحدهم لضبط القرأءة والكتابة والثاني لعلم العربية والشعر والثالث للتدريب في الحساب والطبيعيات والرابع للعقليات والمنطقيات ويراعى في ذلك التنوع والاستعداد والمشاكلة والملائمة إذ لو كانت الآداب والصناعات تجيب وتنقاد بالطلب والمرام دون المشاكلة والمواءمة ما كان أحد غفلا من الأدب وعاريا من الصناعة فلذلك ينبغي لمدبر المتعلم إذا رام اختيار الصناعة أن يزن أولا طبعه ويسبر قريحته ويختبر ذكاءه فيختار له الصناعات بحسب ذلك.
من هذا المنطلق يرى حكماء العرب أن التعليم ينقسم إلى بعدين تعليم ابتداء وتعليم انتهاء فأما تعليم الابتداء فهو ما يعلمه المتعلم في أول أمره من قراءة وكتابة ولغة وشعر وحساب وأما تعليم الانتهاء فهو إتقان كل ما سبق والزيادة عليها بالاشتغال بأحكام النجوم والمنطق والطبيعيات والتاريخ والتدرج إلى ما بعد الطبيعة بعد التدرج بالمنطق العلي في فهم الطبيعة وأسرارها.
يقول ابن خلدون:” اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدرج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال. ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم الا أنها جزئية وضعيفة.”[5][5]

ان أيسر طرق هذه الملكة هو فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة والعناية بالحفظ دون إهمال الحاجة إلى الفهم والإفهام لأن التعليم الصحيح يكون بدعم ملكة التصرف في العلم لدى المتعلم لأنه إن حصلت له ملكة في علم استعد بها لقبول ما بقي من العلوم لذلك لا ينبغي أن يخلط عليه علمان معا فانه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما.
إن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا أول الأمر يكون المتعلم عاجزا عن الفهم بالجملة إلا على سبيل التقريب والإجمال والأمثال ثم يتقوى الاستعداد بالتكرار والمداومة حتى يصل إلى درجة الاستيعاب والتحصيل والإحاطة بمسائل ذلك الفن. قال بعض العلماء “من أكثر المذاكرة بالعلم لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم” وإن كان للدربة دورا في تنمية القدرة على التذكر فان الفهم له دور في ترسيخ هذه القدرة فهو شرطا للحفظ ويكون بادراك الموجودات وتصورها كما يكون بتصديق القضايا والتسليم بأحكامها. في هذا السياق يصرح الماوردي:” العلوم مطالبها من ثلاث أوجه قلب مفكر ولسان معبر وبيان مصور فإذا عقل الكلام بسمعه فهم معانيه بقلبه وإذا فهم المعاني سقط عنه كلفة استخراجها وبقي عليه معاناة حفظها واستقرارها لان المعاني شوارد تضل بالإغفال والعلوم وحشية تنفر بالإرسال فإذا حفظها بعد الفهم أنست وإذا ذكرها بعد الأنس رست… وإن لم يفهم معاني ما سمع كشف عن السبب المانع منها ليعلم العلة في تذر فهمها فانه بمعرفة أسباب الأشياء وعللها يصل إلى ما شذ وصلاح ما فسد” [6] 6
لما كان العلم من الأدب والأدب لا يستقر إلا بالتعليم فان التعليم هو غير بعيد عن التأديب لكن التعليم قد يقتصر على القول بللسان بينما التأديب فيكون بالقول والفعل معا لإنهاض العزائم وتحريك الهمم نحو فعل ذلك الشيء حتى يصير مستوليا على النفوس ومتغلغلا في العقول ومترسخا في القلوب.
على هذا النحو فإن مواد التعليم أدوات لضمان تكوين متكامل للمرء إذ تعود العقل النظام والتنظيم في درس الأمور وحسن التصرف في الشؤون. لكن إذا كان التربية تراوح بين الطبع والتطبع وكان الأدب ينقل الطبع المذموم إلى الطبع المحمود فانه ينبغي أن يعمل الأستاذ على إصلاح أخلاق المتعلمين وحسن سياستهم فقد قال بعض الحكماء “العادة طبيعة ثانية” وتشمل العادة الوظائف العقلية الرمزية والمواقف الأخلاقية الاجتماعية والأفعال الحسية الحركية.هكذا يقوم التعليم على الوازع الذاتي أكثر من قيامه على الرادع الخارجي وماذا كانت التربية التزام دائب لا يعرف بالفشل.
اعلم كذلك أنه يراعى في التعليم بين التحصيل الشكلي والاستبصار الواعي وبين الاستيعاب وضرورة الاختصاص في مجال معين وإذا ادعى معرفة كل شيء وبقي في العموميات كان كالحمار الذي يحمل أسفارا. ولذلك يتطور التعليم من مجرد التبليغ إلى الاختصاص المهني وقد قال ابن خلدون في هذا الشأن:” صار العلم ملكة تحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع والحرف ” [7]7 ويضيف “إن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية” [8]8 
إذا كان المراد من التعليم التفهيم والتكوين بالنسبة للمرء فان التكوين هو إيجاد شيء مسبوق بالمادة أما التفهيم فهو إيصال المعنى إلى فهم السامع بواسطة اللفظ وهو كذلك التفسير أي الكشف والاظهاردون تعريض في الكلام أو تعقيد لأن الكلام إذا كان مغلقا فان معناه لا يظهر بسهولة ولذلك يستلزم التعليم التطبيق والتطويل لأن الفائدة لا تحصل في التعليم إلا بالزيادة في أصل المراد ومقابلة الاسم بالاسم والفعل بالفعل وبالتكرار.
وقد أقر التوحيدي بأن الفضائل لا تقتني إلا بالشوق إليها والحرص عليها والطلب لها وهذا أمور كلها لا تكون إلا بمشوق وباعث وداع والمشوق والباعث والداعي هو التعليم فهو سبب الأريحية والهزة والشوق والعزة، فالأريحية للروح والهزة للنفس والشوق للعقل والعزة للإنسان فإذا بلغ المرء درجة من النضج لابد أن تتعلق همته بالجوهر ويهمل العرض ويستفيد من العلوم العقلية في فهمه للعلوم النقلية ويعمل على اكتساب جودة التمييز والقدرة على الاستنباط والتفكير دون الاتكال على الغير ودون الاقتصار على جودة الحفظ.
لقد قال الشيخ الرئيس ابن سينا في هذا الاطار:”لابد أن يكون التعليم والتعلم بعلم سبق ومنه صناعي كالخياطة وإنما يحصل باستعمال أفعال تلك الصناعة والمواظبة عليها ومنه تلقيني كتعليم اللغة وإنما يحصل بالمداومة على التلفظ بها لتحصل ملكة ومنه تأديبي ويحصل بالمشاورة ومنه تقليدي وإنما يحصل بالثقة بالمعلمين ومنه تنبيهي لمن خاطب بالأوليات العقلية ونحوه”. فإذا كان التعلم لما سبق إليه الغير ممن تقدم أو تأخر وكان العلم بما هو عرفاني صرف وبما هو مهني وحسي وحركي وعملي فان التعليم يكون لما تمت الخبرة به. ويميز ابن سينا بين التعليم الفكري والتعليم الذهني الأول هو الذي يكتسب بقول مسموع أو معقول من شأنه أن يوقع اعتقادا أو رأيا لم يكن أو يوقع تصورا ما لم يكن أما الثاني فيكون بين اثنين وقد يكون بين إنسان واحد مع نفسه من جهتين فمن جهة لحدس بالحد الأوسط في القياس يكون معلما ومن جهة استفادة النتيجة منه متعلما مدلا. [9]9
هكذا يكون التعليم الجيد اتساق ما إلى اكتساب مجهول بمعلوم وحصول ملكة في أمر عملي فكري أي صناعة كاملة وراسخة ومن هنا يشترط التعليم الإجازة العامة والشاملة للمقروء والمسموع من المنظوم والمنثور ومن المعقول والمنقول على العموم والإطلاق والشمول والاستغراق وقد قيل تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر,لأن المتعلم أهل لأن يحلى بحلي الإعلام وينظم في السلك العلمي الرفيع الانتظام.ولا ينبغي أن يكتفي الأستاذ بالمختصرات لحاجته إلى التبسيط والاقتصاد لأن التعليم الذي يقوم على المختصرات لا يهيئ الفرصة لنضج الملكات لا يتيح الإيجاز والاقتضاب تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لذلك لابد من المغامرة في البحث عن الأمور العويصة والتنقيب عن المسائل العنيدة.
اعلم كذلك أن انقطاع سند تعليم العلم يؤدي إلى اختلال العمران وتناقص الصنائع وفقدان الأمصار وأن انتشار التعليم و ترسخ العلم يؤديان إلى استبحار العمران وازدهار الصنائع وامتداد العصور,فبين إذن أن التعليم عامل من عوامل التحضر ومظهر من مظاهرها. وقد قيل العلم خزانة مفتاحها السؤال والسؤال يثمر العلم لأن العلم يدرك بسؤال سؤول وقلب عقول. إن الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون ويحفظون أحسن ما يكتبون ويكتبون أحسن ما يسمعون. فأن يموت الإنسان طالبا للعلم خير من أن يموت قانعا بالجهل. والعلم من التربية و”معنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه” كما يقول الغزالي.
هذا عن دلالة العلم والتعليم بالجملة وعلى العموم الآن ماذا عن دلالة تعليم الفلسفة على الخصوص؟ هل يجوز لنا الحديث عن فلسفة للتربية في المخزون التراثي التعليمي للفلسفة العربية الإسلامية؟ ماهي ملامح الفلسفة التربوية عند العرب ؟ وأي دور تضطلع به في مستوى النهوض الحضاري الشامل وتجديد طرق التعليم وأثرها في بناء الشخصية الرسالية التاريخية للأمة ؟ وكيف نفسر مثل هذا الرأي القائل بأن الفلسفة يمكن تدريسها ويمكن تعليمها بالنسبة للناشئة مهما كانت أعمارهم ولا توجد أي موانع تحول دون ذلك ؟ ماهي الشروط التي ينبغي أن تتوفر لإنجاح مشروع تدريس الفلسفة؟ ألا ينبغي أن نفكر في بناء تعلمية فلسفية عربية حتى تتماشى مع روح الثقافة الإسلامية ؟
2- – أزمة تعليم الفلسفة:
جاء في رسائل إخوان الصفاء :” الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة”.
إن كانت الفلسفة في عنفوانها تفتيشا وكدا عن الحقيقة دون إدراكها وسعيا متواصلا وراء اليقين دون الفوز به وطرحا لكل أصناف المعرفة المتداولة والدارجة في الملة على بساط النقد والمماحكة فهمنا لماذا كان وضعها في نظام التربية والتعليم وضعا قلقا مهزوزا يتأرجح بين الإقصاء والقبول وبين التوظيف والصد عنها وبين الإغراء والحيطة وعرفنا لماذا ظل تعليم الفلسفة منذ القديم لعبة بين يدي السلطات السياسية والدينية والعامية وبقي التعامل معها يتم بانتهازية ونفعية وبانتقائية كبيرة تلعب فيها المصالح والأهواء وتضرب حولها رقابة صارمة،الأمر الذي أدى إلى الإضرار بالفلسفة وعرقل إمكانية ازدهار تعليمها،فإذا كان تعليم الفلسفة قبل الاستقلال يجري وفق البرامج الرسمية الاستعمارية ولم يفتح قسم الفلسفة في المدرسة العربية إلا بعد الحرب العالمية الثانية ولم يرخص في إلقاء دروس في الفلسفة الإسلامية إلا فيما بعد وفي عدد قليل من الساعات وكان حضور الفلسفة في التعليم الديني في الزيتونة أو الأزهر محتشما وينحصر فى تلقين بعض قواعد المنطق الجافة والتي تبعث على الملل وبعض العلوم الطبيعية والصحيحة المجردة والتي تعمل على تبليد الذهن عوض تحفيزه وتنشيطه فان تعميم تعليمها اليوم في كل المعاهد وعلى مختلف الشعب وتكاثر أقسام الفلسفة في الكليات وتنظيم دروس نظرية في عدة اختصاصات علمية انسانية لم ينه حالة الحصار والإدغام التي تعرضت له في الماضي ومازالت تواجهه في بعض الدول ذات الأنظمة التقليدية بل ربما الغبن الذي تتعرض له اليوم أشد وطأة لأن منافسيها ليسوا الدين والسياسة فحسب بل وكذلك العلم والتقنية وفن التسويق.
اللافت للنظر اليوم أنه ثمة صراع دائم حاصل بين الإيديولوجيا السائدة والفلسفة إذ يطلب منها دائما أن تبرر ماهو واقع وتضفي المشروعية على الممارسات الاجتماعية الشائعة بحيث تتحول الى أداة لتكييف النظريات والأفكار الجريئة لإقحامها في نسيج ثقافي متساهل ومهادن فتذوب في صلب برنامج عام يخدم السائد ويجعلها توفي بالتزاماتها مع العولمة الضاغطة عليها. لكن إن كانت الديمقراطية قيمة كبرى أبدعها العقل الفلسفي أول مرة ووقع تصديرها إلى الفضاء العمومي أليس من الأولى أن تتمتع الفلسفة بمحاسن وثمار هذه النبتة التي زرعتها؟ هل يتسنى لنا القول اليوم بان ديمقراطية التعليم عامة أولى بها أن تطال تدريس الفلسفة بالخصوص؟
يشخص ابن عاشور أزمة الفلسفة عندنا في تعثر الترجمة بقوله:” أما كتب الفلسفة عندنا مثل المواقف فهي مأخوذة من فلسفة اليونان مغيرة بما يناسب قواعد علم الكلام فلا ينبغي أن تكون معدودة لدراسة الفلسفة وبالجملة فالحاجة اليوم الى مترجمين نابغين لينقلوا ما يحتاج اليه من هاته العلوم لأهل اللسان العربي فيكفوهم كلل الخبط فيما لا طائل تحته ويسمو بهم الى منزلة قرنائهم من الأمم المعاصرة” [10]10
ما يجدر ملاحظته أن تعليم الفلسفة واقع في كماشة متكونة من ثلاث أقطاب لا يقدر على الفرار منها، فهو من جهة واقع تحت ضغط المؤسسة التربوية القائمة ومن جهة ثانية مطالب بتحقيق المصالحة مع النسيج الثقافي الدارج ومن جهة ثالثة يطلب منه أن يخضع لمستلزمات القول الفلسفي ذاته وإلا فقد الماهية التي تخصه،فكيف تقدر الفلسفة على خدمة ثلاثة أسياد في الآن نفسه؟
*الفلسفة تظل في محور المؤسسة التربوية داخل سقف النظام التربوي السائد وتتماهى مع حرص الطبقة الحاكمة على التنظيم والتطويع وذلك عن طريق المراقبة والتقويم والتفقد والامتحانات والمناظرات بالإضافة إلى ضبط البرامج وانتقاء عناصرها بما يخدم المقاصد والترتيبات المسطرة في ذلك الزمان عن طريق تأليف الكتب المدرسية ومراقبة النشريات الصادرة عن المكتبات.
إن النظام التربوي برمته لا يقوم إلا على أساس فلسفي وإن فلسفة التربية تقوم بالنسبة إليه مقام الروح من الجسد، إذ لا يتسنى تعليم فلسفي صحيح إلا إذا كان قائما على مبدأ التفاؤل بالإنسان وعلى احترام حريته والوثوق في قدراته وطاقاته الكامنة، وهذا الأمل لا يتحقق إلا في صلب نظام تربوي مقام على أساس من الديمقراطية والحرية والمسؤولية. هكذا ظلت الفلسفة في معناه المدرسي المتداول متوجهة نحو التعليم الثانوي وتأتي في هذه المرحلة من حياة الإنسان التي تبدأ بانتهاء الطفولة وتنتهي بانتهاء المراهقة.
*أما محور التقاليد والسنن الثقافية فان تعليم الفلسفة في حضارتنا جاء قائما على مبدأ الازدواجية إذ هي تنهل من التراث الفلسفي العربي الإسلامي وكذلك من التراث الفلسفي الغربي الذي وصلنا عن طريق الفكر الفرنسي والثقافة الانجليزية والأمريكية. وهنا تكمن معضلة تعليم الفلسفة عندنا إذ كيف يمكن التوفيق بين هذه الثقافات المتنافرة أم أن الصراع بينهما هو أبدي؟ وماهو دور الفلسفة في التقريب بين هذه الثقافات ؟ أو بعبارة أخرى هل تجاوزنا الازدواجية في مرحلة التأليف والترجمة وأدركنا مرحلة الخلق والإبداع في كنف ما يسمى بالثقافة العالمية؟أم هل مازلنا في مستوى الاقتباس والتلفيق والنقل ؟
والحق أن نظامنا التربوي العربي مازال تغلب عليه صبغة التبعية والتقليد أكثر مما تبرز فيه صفات الأصالة والانطلاق, إننا مازلنا ممزقين بين تراث ننظر إليه نظرة الحنين وكأنه أصبح قطعة متحفية محنطة وحاضر نعيش على هامشه إذ ما برحنا ننتظر ما يتكرم به علينا الغرب من آراء ونظريات لا تستجيب الى حاجياتنا الحقيقية والتحديات التي تواجهنا فنحن لا ننتمي الى نفس زمنية الوجود حتى وان تقاسمنا كرها الانخراط في العولمة لأن الغرب فيها فاعلون بينما العرب منفعلون.
* أما المحور البيداغوجي المتمثل بنوعية الصلة الحاصلة بين الأستاذ والتلميذ فان وجود كتاب مدرسي واحد واعتماد أسلوب التلقين وإفراغ البرامج من مضامينها بحجة ضرورة ملائمتها مع الوضع العالمي قد أدى إلى نتائج عكسية تجلت في عزوف المتعلمين عن الاهتمام بالفلسفة والسخرية منها ومهاجمتها.
فقد بقيت فتوى ابن الصلاح الشهرزوري توفي سنة 643 هجري المحرمة للاشتغال بالفلسفة حاضرة في العقول متغلغلة في النفوس سارية المفعول اذ يقول “الفلسفة أس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة, ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان…وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر…”
وقد برر ابن خلدون هذا الصنيع بأن الفلسفة ليست من علوم المقاصد بل هي آلة لغيرها وأن العلوم العقلية تركها العرب وانصرفوا عن انتحالها واختص بها العجم وحملها المعربون شأن الصنائع كلها زد على ذلك أن صناعة التفلسف غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من انتزاع وتجريد وبعدها عن المحسوس ولعدم قابليتها للانطباق. لكن هذه التحفظات لم تحل دون انتشار الفلسفة بين السكان الافتراضيين لحضارة اقرأ لأن من وظيفة الفلسفة منذ القدم أن ينشأ عنها مشروع تربوي يعين على تكوين إنسان ترسم ملامحه من خلال ما يفوز به التأمل الفلسفي من تعرف على الذات الأخرى ومن ضبط لموقعها في الوجود ومن تحديد لصلته بالمطلق.
إن تعليم الفلسفة في جوهره عمل تربوي هادف يرفض الترويض الإيديولوجي والاستغلال السياسي ويقطع مع الشعارات الزائفة والأفكار الدارجة في المجتمع ويقتضي الحرية الفكرية بالنسبة للمتعلم والمعلم على السواء، لذا يجب أن يضبط تعليم الفلسفة بأهداف واضحة تعزز الانتماء الحضاري وتصون الهوية من التفتت والضياع في العالم ويتطلب هذا الأمر الجلل بناء فلسفة للتربية تكون بمثابة الإطار الموجه له والنموذج المرشد في كل مسارتعليم الفلسفة،فماذا نعني بفلسفة التربية؟ وماهي فائدتها في تعليم الفلسفة؟
ان المطلب الأسمى والهدف الأقصى لنا في هذا المبحث هو بناء تعلمية ناجحة للفلسفة تتفحص العلاقة البيداغوجية الشرعية بين الوحدات الثلاث : المتعلم والمعلم والمادة المعلمة والمتعلمة.
من هنا لابد من تخليص الفلسفة الذائعة والمشهورة من العيوب و تطهيرها من التحفظات والاعتراضات والعمل على حل الإشكاليات التالية :
إن كان تعليم الفلسفة يعاني من أزمة حادة فهل يعني ذلك أن وجود الفلسفة ذاتها في خطر؟ أي سر وراء شيوع العزوف عن الفلسفة ؟
هل نفسر ذلك بأن الفلسفة لم تعد أم العلوم أم لأنها أصبحت معرفة لا تجلب المصلحة؟ ماهي الشروط التي ينبغي أن تتوفر حتى يمكن تجاوز هذه الأزمة؟
ماذا عن محاور الاهتمام الفلسفية الموضوعة لغرض التعليم ألا ينبغي أن تنتقي وتصطفى بحيث تلاءم مدارك المتعلمين و جودة فهمهم و تتناسب مع اقتدارات المعلمين والمتعلمين على السواء وتحترم السياق الاجتماعي والثقافي الذي يندرجون ضمنه؟ لماذا يقع التركيز اليوم على المنطق والفلسفة التحليلية ومقولات الألسنية والبنائية ويقع التشدق بمكاسب فلسفة الظنة ومزايا العلوم الإنسانية ويتم استثناء الفلسفة الإسلامية المشرقية وكل كنوز التراث العقلية ويترك الفكر الذي يطرح مسائل الهوية ويعزز المقاومة والصمود ؟ فماهي المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في تعليم الفلسفة ؟
ماهي هذه الفلسفة الناجعة التي يعمل الجميع على نشرها وتدريسها ؟
5-  – شروط نجاح الفلسفة المتعلمة :
” أن الفلسفة أفضل علم بأفضل معلوم” أبو نصر الفارابي
أن تكون الفلسفة من جلائل الأعمال وخلائص الأفعال فان هذه الخصائص لم تصنها من هجمات الغرباء ومن مكائد الأعداء فالقوم قد اختلفوا حولها والآراء والتصورات قد تطارحت وتناطحت فهناك من استهجنها واستراب منها فمنعها وقيدها ووصل الأمر إلى حد تحريمها وطمس معالمها بحرق كتبها وهناك من استحسنها وأباحها وأجازها ووصل الأمر إلى حد فرضها وتأكيدها واعتبارها واجب شرعي كلف به العاقل المستخلف يخرج به من حال الجحود إلى حال الشهود.
على هذا النحو عدها جهابذة المعرفة والراسخون في العلم فرض كفاية ودعوا إلي الجهاد للفوز بها وطلبها من المهد إلى اللحد ومن الغرب إلى الشرق وأكدوا على أنها من الأمور التي لا يستغنى عنها في تهيئة العقول وفلاح البصائر وصلاح الضمائر لما تفيد من زيادة القوة في القدر المحتاج إليه.
بيد أن الطائفة الثالثة من الدهماء الرعاع الذين ينساقون مع كل داع ويستجيبون لكل مناد،يحسبونها من عوارض الأمراض ونزلات الأسقام التي تحل بالأمم ويحتجون بأنها من الأمور المذمومة المعطلة للعقول المحيرة المذهبة للاعتدال والمعرضة للاعتلال والمهلكة للأنفس وذلك لعسر العبارة فيها وغموض الدلالات وتشبعها بالالتباس ولكثرة ما تبطنه وقلة ما تظهره.
لهذه الاعتبارات اتفق الجميع على إدانتها وتشكل رأي عام مشترك ضد تواجدها في الفضاء العمومي نازعا منه إمكانية الشيوع ومعترضا على إقامتها ضمن الوضع البشري وقد تم الإبقاء لها على حق التعشيش في التخوم والتحليق في الأعالي والتوطين في القمم أو السراديب والكهوف المظلمة أين تختبئ مثلما تدفن الذخائر النفيسة وآيتهم في ذلك أن الفلسفة من المتممات والكماليات وليست من الأصول والضروريات التي تدبر حياة الإنسان وتجعل حال الناس مستقيمة.
على هذا النحو وصفت الفلسفة بأنها مغرس الفواحش ومنبت الأعمال المحظورة تزين الخطأ وتهادن العيوب وتنصر الظالم على المظلوم وتكثر اللخط والمجادلة في ما هو مظنون فتكون مصدر بدع وتشويش لعقيدة الجمهور وتقوم على التهويل حينا والتنقيص والاستصغار آخر.
إذا شخصنا حال الفلسفة اليوم وأمعنا النظر في منزلتها في المجتمع بالمقارنة مع بقية العلوم والمعارف فإننا نلاحظ استقالة الفلاسفة وتحولهم إلى حراس أنظمة لكونهم يعيشون في حالة غياب فظيعة عن الواقع يمسكون عن إبداء الرأي ويهربون من مواجهة المسائل المستعصية ويتخاذلون عن اتخاذ أي موقف من مشاكل مجتمعاتهم بل يخونون الوعود التي قطعوها على أنفسهم في الالتزام والدفاع على الحرية. فماهي أسباب الاعتراض على تعليم الفلسفة ؟
1-إن منشأ الالتباس وسوء الفهم للفلسفة متأتي من تحريف صاحب الظن لمقاصدها و تحويل أغراضها المحمودة إلى أغراض منفرة و جعل الأصول فروعا والفروع أصولا.
2-الظن بأن الفلسفة علم لا ينفع وجهل لا يضر وجودها مثل غيابها وحضورها مشابه لعدمها وإن وجدت لا تحقق الإضافة وإن انعدمت لا يؤثر تلاشيها في تماسك نظام الأشياء وتراتب الأفكار، فإذا كان ثمة من العلم جهلا ما ومن القول عيا ما فان الإنسان العامي يؤثر قليل من التوفيق خير من كثير من العلم .
3- زعم ضعاف النظر ورهيفي القلوب أن الفلسفة بعيدة المنال وعويصة المطلب لأنها عميقة ومجردة لا ترتقي إليها الفطر والأذهان إلا بعد مكابدة ومجاهدة, فالفيلسوف عملة نادرة تجود بها علينا الطبيعة لماما, كما أن التفلسف تدرب على الموت واستعداد له وتجربة قاسية ليس في استطاعة البشر العاديين ممارسته خصوصا وأن التفكير يشقي البشر أكثر مما يشقيهم أي شيء آخر.
4-الفلسفة ناتجة عن الصلف البشري وعناده وتعطشه نحو المطلق وفضوله و رغبته في إدراك الكلي وبلوغ الفكرة الشاملة والنظرة الموسوعية وكل هذه المقاصد هي مستغلقات إن تشبث بها الذهن البشري تاه في بيداء الوهم وكانت مصدرا مؤكدا للريبة والنزاع.
5-الاعتقاد بأن الفلسفة تسبب الضرر لصاحبها ولمتعلمها, تؤدي إلى التفرقة وتكثر اللجج بالرأي والاشتغال بالجدل, تجبر الإنسان على مغادرة المألوف وتجاوز السائد وتسقطه في ألم الغربة والوحشة.
-6 الفلسفة علم قليله محمود وكثيره مذموم, ضرره يغلب نفعه, تجعل المهتم بها مشغولا تائها ولهانا بالحكمة منشغلا عن نفسه, متفرغا للوجود مع غيره فارغا من الوجود مع ذاته, يشتغل بإصلاح طريقة تفلسفه وترتيب نظام حياة الآخرين قبل اشتغاله بإصلاح نفسه وتدبير أمور حياته.على هذا النحو يذهب التفلسف الصحة والاعتدال ويورث السقم والاعتلال ويذبل العافية والجمال ويأتي بالذهول والداء العضال لأن الفيلسوف يعلم دقيق المعارف قبل عامها وخفيها قبل جليها ويصرف العمر عما هو أفضل ويهتم بتافهات الحياة ظانا أنها اللب والصميم ويهدر الجهد فيما هو أرذل معتقدا أنه اللدني والأشرف.
تلك هي بعض الشوائب والأحكام المسبقة التي ترسخت عند العامة عن الفلسفة فحجبت روحها المتقدة وديناميكيتها المتجددة وجعلتها موجهة إلى غير مقاصدها ومقامة في غير محلها ومستخدمة في غير أصلها وهو يقتضي نوعا من التدبر والمعالجة لغرض تحطيم هذه الآراء وتنقية هذه الأدران بغية فك القول الفلسفي من عقاله والتشريع لإمكانية تدريسه بإعطائها تعلمية ناجحة خصوصا وأن كل إنسان فيلسوف والسؤال من هو الإنسان؟ هو السؤال الأول والأساسي في الفلسفة وبالتالي ينبغي تبديد الرأي الشائع بأن الفلسفة مسألة غريبة وشاقة لكونها نشاط متميز يتعاطاه فئة من الاختصاصيين و المنهجيين والمحترفين وإقرار أن كل البشر فلاسفة ولو على نحو غير واع وكل بطريقة خاصة وذلك لوجود فلسفة عفوية يمارسها الجميع كامنة في مجمل نظام المعتقدات وأنماط السلوك توجد في الأمثال العامية والحكمة الشعبية. فكيف تكون الفلسفة المتعلمة قنية ناجعة للتربية ؟
اعلم أن فلسفة التعلم أو تعلمية الفلسفة هي أعظم الصناعات وأشرف الفنون لأن جميع الأمور موقوفة عليها بينما هي موقوفة على ذاتها ولا تحتاج لأي أمر خارجي وما هو مطلوبنا من تعليم الفلسفة ليس مجرد النظر ولا التأمل والتفكير بل حيازة جميع الهيئات واكتساب كل الملكات مع تهذيب النفوس وتطهير الأعراق وتنقية العقول. غني عن البيان أن شرف الفلسفة مدرك بضرورة العقل والعقل سراج منير لظلمات الحواس ومتشابهات وغوامض النصوص وكلما كانت معرفتنا بالعقل أتم كانت معرفتنا بالفلسفة وبتعليمها أتم ولعله من نافلة القول أن نكون الفلسفة حب الحكمة و أن يسمى المشتغل بها حكيما فالحكمة لا تؤتى إلا لمن شمر في طلبها وبذل الجهد للسعي نحوها ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا لأن الحكماء ورثة الأنبياء والأنبياء قدوة الحكماء ومثالهم الذي يحتذي, زد على ذلك أن الحكمة تزيد تعلمها الشريف شرفا وترفع المملوك حتى يدرك مدارك الملوك وأن الفلسفة لا تقل فضيلتها عن فضيلة وإيثارها واقتنائها خصوصا وأن كمالها في نفس المؤثر المحب هو غاية لا تدرك إلا بالزيادة في الفضل وبالتشارك في البذل والعطاء بين الراغب والزاهد.
إن كانت الفلسفة من الدرر اللماعة والحقائق الفاخرة والفكر المضخمة والجواهر النفيسة وكان الجوهر النفيس منقسما بطبعه إلى ثلاث ضروب ما يطلب لغيره وما يطلب لذاته وما يطلب للاثنين معا وكان ما يطلب للاثنين أرفع شأنا من ما يطلب لغيره ومن ما يطلب لذاته فانه من البديهي أن تكون الفلسفة من الصناعات التي تطلب لذاتها ولغيرها من الغايات النبيلة الأخرى في الآن نفسه بحيث لا يتناقض فيها النظر مع العمل و المعرفة مع المنفعة و المتعة مع السعادة و التواضع مع الرئاسة والشهرة مع المجد. التفلسف هو تدرب على الحياة وتعلم التواجد على نحو أفضل في العالم حتى تستطيع التربية أن تستهل التطلع العربي للتطور والتنمية يجب أن تحدد معالم الفلسفة التربوية التي تترجم أهداف هذا الاتجاه ,

 كما أنه يلزمها أن تعكس الواقع العربي المعاش وأن تعمل على توفيرالتواجد والدوام بالنسبة للانسان العربي وتطلعه للمستقبل وتغلبه على التحديات. لكن ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا أكثر من أي وقت مضى هو أن هذه الأمة قد أبدعت علمها الخاص بنفسها وطريقتها الخاصة في تعليم نفسها وأن أي تجديد في تعليم الفلسفة ينبغي أن يستلهم جهود الأسلاف ويوظف ما تركوه من تعاليم وآداب في هذا الشأن وأي نسيان لجهودهم هو بمثابة عويل في الصحراء. كما أن نمط المقاومة الوحيد للإنسان العربي المسلم هو الخروج من القصور الذي أذنبه في حق نفسه وذلك عن طريق تعلم التفلسف وتدبر وجوده في العالم من جهة اعتباره ونظره وتفكره.
ان قصدنا في هذا البحث هو معرفة الجهة التي ينبغي أن تكون عليها فلسفة التربية عندنا وذلك بالاجابة على هذين السؤالين:ما معنى أن نتفلسف في أفق ملة فقدت حرارة ابداع علمها الخاص بنفسها؟ كيف يمكن للفلسفة أن تعلم الجيل الذي هو نحن طريقته الخاصة في تعليم نفسه أي أسلوبها الخاص في تثقيف ملته أولا وتربية النوع البشري في مرحلة ثانية؟
تكمن حاجتنا الملحة لتخطيط فلسفة تربوية ناجعة لما يتصف به حالنا من تبعثر وفوضى وعودة للمكبوت وبروز الطائفية وتفشي الأزمات وتكاثر رؤى العالم وطرق الحياة وتردي فلسفاتها وتعارض هذه الطرق فيما بينها وتعصب بعض المجتمعات لها ومحاولة الدفاع عنها حتى باستخدام أفتك وسائل التدمير ومحاولة كل أمة اجتذاب غيرها نحو فلسفتها بوسائل نقل الأفكار كالدعاية وعن طريق الإكراه والإرهاب. لقد أدى غياب فلسفة عربية للتربية إلى تخلف مقومات البحث والنظر إلى اعتناق فكر تربوي وافد فرض علينا مفاهيمه ومناهجه وخلق فينا بلبلة وشكك في قيمنا الإنسانية وفي قابليتنا للتقدم والصمود في وجه الكوارث والمحن والتحديات والقدرة على تمثل الحضارة العلمية والتقنية.
الفلسفة العربية للتربية ليست سوى المسار السليم لتحقيق أهداف العرب في التطور والنهوض وتعبر في جملتها عن موقف سياسي منحاز بطبيعته لأغلبية الناس له برنامج للعمل الاجتماعي يسعى لتحقيق التعاون بين الداخل والتواصل مع الخارج. وبذلك تعكس هذه الفلسفة معتقدات العصر وأنواع الصراع القائم فيه كما تؤكد على الهوية العربية وطموحات الطبقات الناشئة في الاصلاح والتغيير وآمالها في بناء مؤسسات مدنية مستقلة وفي تطوير الواقع وتثويره لتحرير الإنسان من كافة أشكال التبعية والتسلط الواقعة عليه.
إن الفلسفة العربية للتربية هي تلك الرؤية الفكرية والنظرة الشاملة إلى مجموعة من الأهداف والمبادئ التي تتعمق في دراسة طبيعة الفرد وطبيعة المجتمع والعلاقة الجدلية بينهما كما تدرس طبيعة المعرفة وطبيعة القيم وتسعى للإجابة عن التساؤلات التالية : لماذا نربي؟ وبماذا ؟ كيف نربي؟ من أجل ماذا؟ وماهي الأسس الفلسفية التي يجب أن تستند إليها؟
* الإيمان العميق بالإنسان و بقدرته على تغيير العالم وتعميير الكون .
* النظر إلي المعرفة على أنها عملية بحث مستمر وليست عملية تلقين للحقيقة المطلقة لأنه لا يوجد جهل مطلق أو علم مطلق وإنما المرء في منطقة وسطى بينهما.
* النظر إلى العالم على أنه عملية متجددة متغيرة وليس وضعا ثابتا فيزيقيا واجتماعيا.
* الوعي والنظرة الناقدة مفتاح الطريق إلى التعليم من أجل فهم العالم وتغييره وهو الذي يشكل جوهر الفرد.
* التعليم ليس إجادة حرفة أو حذق مهارة وهو بعيد عن كونه عملا اجتماعيا بل هو عملية تحرير ثقافي لطاقات المرء الكامنة.
* الحوار العقلاني التواصلي وليس الإكراه هو المفتاح الذي تقوم عليه العملية التربوية بأسرها.
هنا نطرح الأسئلة التالية: كيف يمكن تحقيق كل هذه الأفكار عن الإنسان والمعرفة والعالم ؟ وكيف يمكن أن تكون التربية وسيلة للتحرر الاجتماعي والثقافي والسياسي ؟ ماهي الشروط الواجب توفرها لوجود فلسفة عربية للتربية؟
– أولا: يجب أن تكون نابعة من واقع المجتمعات العربية ومن مخزون التراث الفلسفي العربي الإسلامي ولا ينبغي أن تكون قائمة على تجميع عناصر متباينة من فلسفات متضاربة.
– ثانيا: أن تهدف إلي بناء مشروع حضاري كوني يراعى الخصوصيات ويعمل على صقل المواهب ونحت الشخصيات وذلك بخلق حداثة دينية مع إعادة تأصيل الأصول.
– ثالثا: لابد أن تنفتح على الفكر التربوي العالمي والاستفادة من طرق الحضارات الأخرى في تعليم نفسها دون الوقوع في التبعية الثقافية أو التقليد الأعمى.
– رابعا: أن تعمل الفلسفة العربية للتربية على تأكيد الذاتية الحضارية العربية المسلمة دون الوقوع في التعصب العنصري والتمركز حول الذات وأن تكون أداة فعالة لمقاومة التحديات المعقدة التي تواجهها هذه الحضارة.
القضايا التي يجب أن تتصدى لها الفلسفة العربية للتربية هي أولا القضايا التربوية التقليدية مثل الخبرة – الطبيعة الإنسانية- الفطرة – المعرفة – طرق وأساليب التدريس – البرامج – التعلميات – ثم تهتم بالقضايا والمشكلات الأشد خطورة مثل التبعية – القهر – الجهل – الفقر- الأمية- المرض – الحرب.
أما الحلول التي تقترحها فهي استقلالية العقل العربي في التفكير – زرع نبتة الحرية في التربة العربية والعمل على إنباتها والاعتناء بها – القيام بثورة ثقافية ترسخ قيم التنوير والحداثة – تقسيم الثروة بشكل متساو والتشجيع على الاغتناء الروحي والكبرياء وعزة النفس والمقاومة والممانعة والاستثبات.
كل هذه الوصفات السحرية لن تكون فاعلة إلا إذا تفلسف العرب في فن التربية وتجاوزوا الغربة التي تعاني منها الفلسفة في الفضاء العمومي, هذه الغربة ليست ناتجة عن موقف الفقهاء من الفلاسفة فحسب بل هي بنت المنزلة والموقف اللذين اختارهما الفلاسفة.
أما الأهداف التي يجب أن تتضمنها الفلسفة العربية للتربية فهي تتمثل في الاهتمام بمعالم الكيان العربي المسلم وضمان نموه وتطوره وتعمل على بلورة معالم الثقافة العربية وتجديدها.كما يقع على كاهلها الاعتناء بتنمية العلاقات الإنسانية بين أعضاء المجتمع العربي والانطلاق من نظرة شمولية تستوعب أبعاد الصحوة العربية وتترك الأبواب مفتوحة أمام الذهن والإرادة لتحقيق الوحدة. علاوة على ذلك حري بها أن تننشىء منطقا فلسفيا قادراعلى أساس التحليل والنقد لامتحان الواقع المعيش وانتزاع المعنى من اليومي التافه يتقاطع مع العقلانية النقدية المعاصرة التي تراوح بين التفكيك والتأويل. ينبغي على فلسفة التربية في حضارة اقرأ أن تهتم بالكليات العملية الكبرى مثل الحق والحرية والديمقراطية وتعمل على تجسيدها على أرض الواقع الحضاري وأن تقيم البرامج على أساس الفكر الناقد الخلاق والمبدع ذلك الذي يؤكد قدرة الإنسان على الاعتبار والتعلم ومتابعة تربية نفسه ويشرع لتعليم تكاملي يقع من خلاله إعداد المرء في نفس المبحث من عدة زوايا وحقول مختلفة وذلك بطريقة تنسيبية.
من هذا المنطلق يبدو التعليم والتثقيف والتنشئة آليات مكونة لكل اجتماع والتعليم لا يمكن حصره في إعادة إنتاج النظام السائد وفي استهلاك وترسيخ القيم والأنماط المتداولة بل اختيار حضاري يستدعي تصورا معينا للناس ونمطا محددا للعلاقات بين البشر وممارسة متميزة للتربية تعيد تشكيل سلوكيات الأفراد.
اللافت للنظر أن التعليم استثمار علمي وبشري هائل والثورة التقنية الراهنة غيرت كثيرا من الأسس والمناهج التي يرتكز عليها فهو لم يعد يقوم على عقلية الاستنساخ بل صار يحقق مطلب الفاعلية الحضارية. لذلك ينبغي التفكير في إستراتيجية عربية للتربية والتعليم تستند إلى ثلاث عناصر وهي التخطيط والدقة والضبط والشمولية. والكتاب المدرسي ليس مجرد ماعون من مواعين المعرفة أو أداة إيديولوجيا وقياس بل جملة من النصوص اللغوية التي تتضمن جملة من القضايا والأفكار التي توفر أرضية ملائمة لزرع الذكاء وصناعة الثقافة.
خاتمة:
” إذا وضعتم مشاريع سنوية فازرعوا القمح، وإذا كانت مشاريعكم لعقد من الزمان فاغرسوا الأشجار، أما إذا كانت مشاريعكم للحياة بكاملها فما عليكم إلا أن تثقفوا وتعلموا وتنشئوا الإنسان.” قول مأثور

في نهاية المطاف حري بنا أن نعمل على ضبط الطريقة التعلمية بشكل لا يكون الأستاذ هو المصدر الوحيد للمعرفة والمتعلم في وضعية المتلقي المستهلك والبرنامج معدا بشكل مسبق وقد أكل عليه الدهر وشرب بل ينبغي المحافظة على حرية التفكير لدى الأستاذ أثناء بناء الدرس ولدى التلميذ وضرورة احترام القاعدة البيداغوجية الذائعة الصيت التي ترى أنه لا توجد فلسفة نتعلمها فكل ما نتعلم هو التفلسف وينبغي كذلك أن نحترم أمهات الكتب الفلسفية وألا نعتدي على النصوص الفلسفية الأصلية فشجرة الفلسفة عند أفلاطون وأرسطو والفارابي وابن رشد مازالت لم تذبل أوراقها بعد وفتوحات كانط واسبينوزا وبرجسن ودولوز  وريكور بقيت تثير فينا العجب العجاب، فلماذا هذا الاستعجال على قبرها!
تعلم التفلسف لا يعني فحسب أننا نتعلم كيف نستعمل المفاهيم استعمالا تقنيا بل أننا نتعلم بواسطة هذه المفاهيم كيف نفكر فعليا في المشكل الذي طرحناه على أنفسنا والذي يمت بصلة إلى التجربة الإنسانية. ان التعليم التفكري التكاملي المطلوب هو وسط بين رذيلتين التمجيد الغوغائي والتقليد الببغائي للثقافة الوافدة وللفلسفة الغربية المتمركزة على ذاتها.  في الواقع الفلسفة التي نريدها غدا في حضارة اقرأ تراوح بين النقد والاجراء وبين التسويغ والتشريع وبين السرد والتاريخ وبين التفكيك والتأويل فهي غير بعيدة عن الفرد وملتصقة بالأرض باحثة عن سماء المطلق في النفس وعائدة للجسد كبؤرة مقاومة، تروض الشعرية من أجل تخطي القول المنطقي البرهاني الاقصائي وتفتح ذراع العقلانية العلمية على الممكن والاحتمالي والطارىء والنسبي،تجعل من الآداب اتيقا للوضع الانساني وتبني الفلسفة أولى ايكولوجيا من خلال تحمل مبدأ مسؤولية الحياة في المعمورة. ان تعلم الفلسفة هو التدرب على السؤل والتسآل والسؤال والمساءلة لأن “السؤال عن المشكلات عرض مرض القلب الى الطبيب والجواب له سعي لاصلاح مرضه. واعلم أن الجاهلين مرضى قلوبهم والعلماء الأطباء والعالم الناقص لا يحسن المعالجة والعالم الكامل لا يعالج كل مريض بل يعالج من يرجو فيه قبول المعالجة والصلاح.”[11]11
هذا ما قاله الغزالي عن السؤال بماهو جوهر تعليم الفلسفة وعن العلم بماهو شفاء من الجهل،فماذا ستقول الناشئة العربية الأبية حول جدارة الفلسفة في التعلم وأهليتها في قيادتها لصنع الحضارة وتعليم شعوب العالم مكارم الأخلاق وأصول التمدن الآتي؟

المراجع:
عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى. 2005 .
أبو علي ابن سينا، رسالة في أحوال النفس، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني، الناشر عيسى البابي الحلبي القاهرة. طبعة 1925
أبو حامد الغزالي ، مجموعة رسائل ،دار الفكر ، طبعة بيروت، لبنان، 2000
الماوردي أبو حسن علي، أدب الدنيا والدنيا، المكتبة العلامية القاهرة ، دون تاريخ، جزء واحد،
علال الفاسي، النقد الذاتي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الرابعة
حميد بن عزيزة مقال ممكنات التفلسف اليوم المجلة التونسية للدراسات الفلسفية عدد32/33
محمد الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب؟، الشركة التونسية للتوزيع، دون تاريخ

————-
[1]  عبد الرحمان ابن خلدون ،المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الاولى، 2005 ، ص408
[2]  حميد بن عزيزة، مقال ممكنات التفلسف اليوم، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، عدد32/33 ص7
[3]   علال الفاسي، النقد الذاتي، الدار البيضاء المغرب الطبعة الرابعة ص343
[4]   عبد  الرحمان ابن خلدون، المقدمة ، مرجع مذكور، ص455
  [5]  عبد الرحمان ابن خلدون ،المقدمة، مرجع مذكور، ص 449
[6]   الماوردي أبو حسن علي، أدب الدنيا والدنيا، المكتبة العلامية ،القاهرة،  دون تاريخ جزء واحد
[7]  عبد الرحمان ابن خلدون ،المقدمة، مرجع مذكور،

 [8]  عبد الرحمان ابن خلدون ،المقدمة، مرجع مذكور،

[9]  أبو علي ابن سينا، رسالة في أحوال النفس، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني، الناشر عيسى البابي الحلبي طبعة.1925 .

[10]  محمد الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب؟، الشركة التونسية للتوزيع،  دون تاريخ ، ص 229
[11]  أبو حامد الغزالي، مجموعة رسائل ، دار الفكر ، بيروت، لبنان، طبعة 2000. ص274.

* كاتب فلسفي

[1]  عبد الرحمان ابن خلدون ،المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005 ، ص408

[2]  حميد بن عزيزة، مقال ممكنات التفلسف اليوم، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، عدد32/33 ص7

[3]   علال الفاسي، النقد الذاتي، الدار البيضاء المغرب الطبعة الرابعة ص343

[4]  عبد  الرحمان ابن خلدون، المقدمة ، مرجع مذكور، ص455

[5]  عبد الرحمان ابن خلدون ،المقدمة، مرجع مذكور، ص 449

[6]  الماوردي أبو حسن علي، أدب الدنيا والدنيا، المكتبة العلامية ،القاهرة،  دون تاريخ جزء واحد

[7]  عبد الرحمان ابن خلدون ،المقدمة، مرجع مذكور،

[8]  عبد الرحمان ابن خلدون ،المقدمة، مرجع مذكور،

[9]  أبو علي ابن سينا، رسالة في أحوال النفس، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني، الناشر عيسى البابي الحلبي طبعة.1925 .

[10]  محمد الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب؟، الشركة التونسية للتوزيع،  دون تاريخ ، ص 229

 [11]  أبو حامد الغزالي، مجموعة رسائل ، دار الفكر ، بيروت، لبنان، طبعة 2000. ص.274.

أحدث المقالات