(( آ ))
كانت الفكرة التي تراود مؤسسي علم الاجتماع الغربي ((كونت ، ودوركهايم وفيبر، وسبنسر )) ابّان النهضة الاوربية الصناعية الاجتماعية الحديثة هي :
اولا : تشخيص وضع الاجتماع الاوربي وماهية بنيته وصورته القائمة .
ثانيا : دراسة السبل ووضع الافكار ، والبرامج العلمية الاجتماعية التي تنظم من هذا الاجتماع وتدفع به الى ارساءبنية وبناءات اجتماعية مختلفة تماماعن ما كانت عليه قبل النهضةالصناعية الاقتصادية والاجتماعية الحديثة لتواكب بنية وحركة المجتمع كل ماهو متسارع ومستجد عليها !!.
في المحور الاول : طرح دوركهايم ((في كتابه قواعد المنهج، وتقسيم العمل )) فكرة تصنيف المجتمعات الانسانية الى ((مجتمعات آلية واخرى عضوية )) ووضّح وشرح:(( ان المجتمعات الالية هي المجتمعات التي يكون افرادها متماثلين تقريبا باساليب التفكير وباساليب العمل ايضا بحيث ان احدهم يمكن له ان يقوم باكثر من مهنة وباكثر من وظيفة داخل المجتمع ، كما انه مجتمع لم يزل على بساطته البدائية ماقبل الصناعة المتطورة ، ولذا هو مجتمع تنفقد فيه اهمية ((تقسيم العمل ويركن الى الفوضوية )) في امتهان المهن والحرف والوظائف الاجتماعية الاخرى ، وهذا بعكس تماما
(المجتمع العضوي) الذي يتسم بالتطور الصناعي العلمي وتنظم حياته ((من خلال التشريعات السياسية والادارية والاقتصادية والتربوية و …..الخ للدولة )) على قانون تقسيم العمل ويكون لكل فرد بداخله اسلوبه الخاص في التفكير، والتطلعات و … ووظيفته اومهنته ، او حرفته الاجتماعية التي يمتهنها بحرفية ، ويلتصق بها ويبدع في مجالها لاغير !!.
اما لماذا المجتمعات الآلية تنفقد فيها اهمية ( فكرة تقسيم العمل ) ؟.
ولماذا في المجتمعات العضوية الصناعية تفرض نفسها فكرة هذا التقسيم ؟.
فاولا: بسبب ان الصناعة العلمية الحديثة لم تدخل بعد ضمن اطار، وبنية هذه المجتمعات الآلية (ما قبل الصناعية)وعندما لاتكون الصناعة العلمية الحديثة داخلة في حسابات بنية اي مجتمع ، ومؤثرة في واقعه الاجتماعي ، فسيصبح المجتمع راكدا وبطيئ الحركة ( اي لم تؤثرحركة الماكنة على وتيرة حركته الاجتماعية ، بفعل سحب حركة الماكنة لحركة المجتمع ) ومتخلفاعن ركب الحضارة العالمية الجديدة ومتطلباتها الاقتصادية والسياسية والثقافية الفكرية و…غير ذالك عندئذ تنفقد الحاجة لفكرة تقسيم العمل ،ويبقى الاجتماع يتحرك بشكل آلي ، وتفرض عليه هذه الآلية نمط
وشكل معين من الحياة الاجتماعية التي يكون الفرد داخلها مقيدا ، ومنشدا بشكل مطلق لمؤثرات المجتمع ويفقد افراد هذا المجتمع عنصر التميز والفردية والحرية النسبية في عمله ووظائفه ومهنه و….. حتى اساليب تفكيره قبالة المجتمع ، فان داخل المجتمعات الالية البدائية تكون السيادة للفكرة الجمعية ويكون الفردخاضعا تماما للعقل الجمعي الذي لايسمح ، بدوره لاي فرد من افراده ان يفكر ، او يبدع خارج سياقات وتقاليد واعراف هذا المجتمع !!.
ثانيا : وهذا بعكس تماما ( المجتمع العضوي) الذي داخلته الصناعة الحديثة وغيّرت من بنيته القديمة وضربت بالعمق استقراره الاقتصادي الآلي لتحوله الى اقتصاد الاله الصناعيةالسريعة الحركة والمتغيرايضا التي خلقت بدورها للمجتمعات الحديثة المتطورة صناعيا، وعلميا (( ظاهرة البطالة = في بادئ امرها ، باعتبار ان الالة الصناعية عندما وجدت اخذت دور ، ووظائف اليد العاملة في هذه المجتمعات وقلصت من فرص العمل لافرادهذه المجتمعات)) فاضطرت المجتمعات التي دخلت الالة الصناعيةعلى بنية حياتها الاجتماعية والاقتصادية ان تضع القوانين والتشريعات المنظمة
لادارة المهن والحرف والوظائف داخل المجتمع ( وتقسم العمل ) ، بشكل يضمن امتصاص ظاهرة البطالة التي خلقتها الالة الصناعية الحديثة من جهة وتنظم عملية ادارة المهن والوظائف داخل المجتمع بحيث يُوفر لكل فرد مهنة واحدة او وظيفة محددة لاغير لتوفير اكبر قدر من فرص العمل للافراد من جانب اخر !!.
وبهذا اعيدت فكرة التوازن الاقتصادية داخل المجتمعات الصناعية المتطورة بالاضافة لصناعة ( بنية اجتماعية مختلفة ) في متطلباتها ، وانتاجها الفكري والسلوكي الفردي والاجتماعي !!.
الخلاصة : ان الفكرالاجتماعي الغربي ، بقيادة علماءه ، والمؤسسين لنهضته العلمية الحديثة كانوا مدركين تماما لصميم فكرة التطور الاجتماعي واسباب هذا التطوروان الاستقرارودخول عنصرالصناعةالعلمية الحديثة على معادلة المجتمع الغربي ماقبل الصناعي هوالعنصرالاساس في كيمياء تغير المجتمع الاوربي ، وانتقاله (من المجتمع الآلي البدائي الى المجتمع العضوي ) المعقد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتربويا وغير ذالك !!.
((ب))
لاريب ان الاجتماع العراقي الحديث منذ قيام دولته ومجتمعيته المميزة وطنيا عن باقي المجتمعات الاقليميه في بدايةعشرينات القرن التاسع عشرالميلادي حاول في بادئ امره ( ان ينتقل ليصبح مجتمعاعضويا ويغادرصفة المجتمع الالي البدائي ) من خلال وضع برامج تنموية سياسية واقتصادية ، وتعليمية تربوية ، لاسيما في العهد الملكي العراقي ( عصر فيصل الاول ) الذي عمل بدولته ( المتاثرا بالثقافة الاوربية الليبرالية الصناعية الاستعمارية الحديثة ) منذ العشرينات ، وحتى نهاية الخمسينات من القرن المنصرم ((على صناعة مجتمع تلقحه جينات التحديث الصناعي والعلمي
)) وبالفعل استطاع ( عصر التحديث الملكي العراقي)ان يرسي بنية تعليمية ناهضة (بناء مدارس القضاء على الامية ) بالاضافة الى بنية اقتصادية ( بناء مصانع صغيرة ) وعمرانية تحاول ان تؤسس بشكل بدائي للانتقال الى بنية اجتماعية صناعية وعمرانية حديثة وقوية !!.
ولكن ومع الاسف ضُرب (هذا الاستقرار الاجتماعي) العراقي الذي يعد على انه الاساس في نهضة اي مجتمع اوأمة تحاول التطوروالانتقال الى المجتمع العضوي من خلال ( جنونيات) الانقلابات العسكرية لاسيما انقلاب 1958م الذي يعتبر (علميا اجتماعيا ) بداية الارتداد الاجتماعي العراقي ، وبداية العدّ التنازلي له على الاعقاب لعملية تطوره التلقائية !!.
وهكذا لم يزل المجتمع العراقي منذ النكسة الاجتماعية الخمسينية ((وان بدت على ظواهره صورالتطوروالتقدم الآنية المزيفة/ في دخل الاسرة الاقتصادي مثلا بفعل المورد النفطي/ فيما بعد ذالك بقليل)) يراوح في مكانه لتتعمق فيه صورة المجتمع البدائي الآلي، الذي هو مجتمع تنفقد حالة التحديث الصناعي والعلمي الحقيقي من داخله من جهة ويتميز افراده وتجمعاته العرقية والدينية والطائفية والفئوية والطبقية و… بالانغلاق وهيمنة الركود وسلطة عقل التقليد والعرف القائم من جانب اخر !!.
والحقيقة اذا اردنا بحث، واستكشاف مكمن الاخفاق في عملية تحديث وتطور الاجتماع العراقي المعاصر ومن ثم بقاءه على الالية الاجتماعية الراكدة فاننا سوف لن نكون مجانبين للدقة العلمية الاجتماعية ، او بعيدين عن التشخيص السليم ان قررنا : ان الاشكالية تكمن في ( الفهم الاجتماعي العراقي) لمفهوم وعملية التطور والانتقال الى الحداثة واسباب وعوامل ذالك !!.
اي وبمعنى اخر انه والى اليوم لايمتلك الاجتماع العراقي المعاصر السياسي والاقتصادي والتربوي التعليمي و… لاي رؤية علمية اجتماعية توضح له او ترسي قواعد فكر اجتماعي في مفهومة (( التطور وكيفية صناعته اجتماعيا داخليا )) ولهذا هناك اعتقاد اجتماعي وسياسي وتعليمي عراقي لم يزل حتى اليوم قائما وثابتا في موضوعة كيفية صناعة التطور الاجتماعي على اساس انه ((تطور يُخلق من خلال المتغيرالسياسي فحسب لاسيما المتغيرالثوري او الانقلابي المدمر بعيدا عن اي متغير صناعي وعلمي اخر )) !!.
وهذا الفهم بحد ذاته لمشروع التحديث المجتمعي او تطوره او تغيير اساساته نحو الافضل ، هو الفهم الذي اودى بالتجربة العراقية الحديثة التي كانت من الممكن ان تكون تجربة ناجحة في تطور المجتمع العراقي (من كونه مجتمع آلى تقليدي الى مجتمع عضوي)من جهة وانه الفهم الذي ساهم ولم يزل ببقاء الاجتماع العراقي ، اما ان يراوح مكانه منذ خمسينات القرن المنصرم وحتى اليوم واما انه يتراجع للخلف خطوة اخرى ليتاخر حتى عن المجتمعات الالية البدائية نفسها من جانب اخر !!.
نعم ربماكانت هذه الفكرة الخاطئة (فكرة التغييرالسياسي الضارب للاستقرار الاجتماعي من خلال الانقلاب ، والثورة ) للاجتماع العراقي عن التحديث ، والتطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي منطلقة :
اولا : امّامن فقدان هذا الاجتماع لمؤسسة علم اجتماع حقيقية وعلماء اجتماع مهنيون يطرحون (( مفهوم التطورالاجتماعي )) بعوامله واسبابه المعاصرة بصيغه علمية بعيدة عن التسييس والادلجة !!.
ثانيا:واما بسبب الايدلوجيات الثقافية التي اُدخلت للعراق وثقافته وشعبه تحت مسمى الصراعات الطبقية الاجتماعية والتغييرات الثورية الشيوعية و …الخ باعتبار انه لاطريق للتحديث والتقدم الا من خلال الايمان والانتماء الى هذه الثقافات التدميرية !!.
فمثل هذه الايدلوجيات السياسية المستهدفة ((لضرب الاستقرارالاجتماعي )) ان طرحت على اساس انها العلم الاجتماعي او الفكر الاجتماعي القادر على دراسة وتحليل المجتمع وكيفية تطوره وانتقاله من مجتمع البدائية الى مجتمع التصنيع والحداثة ،مثل هذه الايدلوجيات لايمكن لها ان تصنع مجتمعا مدركا لبوابات التقدم والتطور والتحديث الحقيقية ؟.
بل انها ايدلوجيات ثقافية (فوضوية) مدمرة بفعل جهلها الواقعي بابسط قواعد ومنطلقات علم الاجتماع الحديثةالتي تبنى التطورمن خلال جناحي الاستقرار الاجتماعي وتكامل كافة طبقاته الاقتصادية ، وارساء بنية اقتصادية صناعية تضرب بنمائها ، وتطورها التلقائي بنية المجتمع القائم وترغمه على التطور والحركة السريعة مع اذرعة ماكيناتها الانتاجية المتطورة !.