تسعى هذه القراءة محاولةً القبض على شواظ شعر شاعر حميم ، لشاعر يخفي في مواجيد روحه مكابداته التي أدلجها حباً للناس وللمكان … إنه المبدع عبد السادة البصري الــ ( أصفى من البياض )(1) روحاً … في ديوانه الموسوم فيما بين القوسين الفائتين !! جاء العنوان عتبةً تمثل توقيعاً شخصياً لرؤاه ، إذ حمل العنوان بلونه بعداً رمزياً جاء مؤطراً لمعمارية قصائده في المجموعة ؛ لأن الشاعر قد بنى العنوان بصيغة التفضيل المعروفة ( أصفى ) التي حذف فيها المفضل ( المحذوف ) على المفضل عليه ( البياض ) فما هو يا ترى الذي ( أصفى من البياض ) عند الشاعر ؟!علماً أن اللون الأبيض يضطلع ضمن المتداول العالمي بدلالة رمزية تدل على البراءة والسلام . كما أن صيغة التفضيل ( أصفى ) جاءت دالة على أن ثمة مفضلاً محذوفاً ، ولعلنا نستطيع تأويله ( روحي ) فيصبح العنوان كالآتي ( روحي أصفى من البياض ) وقد اخترت الروح دون القلب ؛ لأن الصفاء في اللغة للروح والنقاء للقلب ، فقد دل اسم التفضيل على شيئين اشتركا في الصفاء ، وزاد أحدهما على الآخر ، فالمفضل هو ( روحي ) التي أتت محذوفة وموقعها قبل اسم التفضيل ، والمفضل منه البياض ؛ وبالنتيجة فإن روح الشاعر قد زاد صفاؤها حتى على البياض . تجربة الشاعر عبد السادة البصري هي تجربة تَمثُل ، تقع في مضمار فيوضات الأمكنة والأحلام ، ولاسيما أن قصائده تتشبث بالماء ، ولا عجب فهو ابن الماء والملح ، ففي قصيدته ( على أنغام المطر يراقصهم الدخان ) نشعر بنثيث العاطفة المستديم ( كلما هبت الريح جاءوا / للشاطيء يسمرون / أحلامهم بضعة أسماك / أو مما يدخره البحر ) ص 7 وظف الشاعر ( كلما ) لإفادتها الديمومة والملازمة ، وكأن ثمة اقتران شرطي بين هبوب الريح ومجيئهم للشاطئ ؛ لكي يسمروا ؛ مما خلق ديناميكية بين الهبوب والمجيء ؛ فمجيئهم هذا جاء ؛ لأنهم قد استودعوا البحر أحلامهم التي شبهها الشاعر بالأسماك المتنوعة والمختلفة . يجيد الشاعر تقانة التشفير في نصه الشعري مستثمراً فنون البلاغة في مدونته الشعرية التي تؤوب غالباً إلى حضور ثيمة الفقدان عنده ، ففي قصيدته (أهزوجة الطفولة .. تطوحها الدراريج ) تضج فيها العلاقة مع الغائب ( حافات الرصيف تثلمت الهواجس فيها / وشطآنك تبكي / الحمامات تبكي / الرصيف / الأراجيح / المرايا …. وحتى الصبايا ) ص 12 فقد حرك النص التراكمات الروحية للمتلقي ، ولاسيما أن شبه الجملة ( فيها ) جاءت منبهاً أسلوبياً إذ لم يوظف الشاعر ( عليها ) ؛ لأن الهواجس المتثلمة قد أصبحت جزءاً محتوى في مكونات الرصيف ؛ لكثرة التثلم فقد ورد في القرآن الكريم ( في جيدها حبل من مسد ) بدلاً من ( على جيدها ) لذات الدلالة ، وقد جاء بكاء الشواطئ والحمامات وسواها نتيجة طبيعة لتأوهات الشاعر المستمرة الكثيرة ؛ مما أدى إلى استعمال صيغ الجموع وجعلها تبكي ( شواطئ / حمامات / الأراجيح / المرايا ) وأن البكاء أصبح موغلاً جداً لها وتجاوزت الحالة من بكاء الجمادات والحيوانات إلى بكاء أرق البشر ( الصبايا ) فتوظيف الحرف ( حتى ) في النهاية يمثل خلاصة انتهاء الغاية . ترتد الأمكنة شعراً عند الشاعر عبد السادة البصري ، فمنها ما يؤوب منها وما يؤوب إليها ، بل إن هذه الأمكنة قد وشمته بميسمها ، فأصبح ملكاً لها ، ففي قصيدته ( بميسمه وشمهم البحر ) نجد العلاقة التجذرية لانتماء الشاعر المائي ( الصيادون أسلافي / وشمهم البحر بميسمه / عيونهم شاخصة صوب مداه / والفنارات تجاربهم ) ص 15 يتشبث الشاعر هنا بأرومته ؛ لضرورة نفسية فرضتها بصريته …. أقول فرضتها على اختيار لا إجبار ؛ لأنه وفيٌّ لها بارٌ بها . ينفتح النص على فضاء عميق وواسع … عميق بجذور الأجداد وواسع بأفق البحر المترامي الأطراف ، وأن الفنارات العالية المضيئة ، هي تجارب نفيد منها نحن الخلف كما تفيد منها السفن في مثاباتها .. وتشكل الاستعارة عند الشاعر رافداً مهماً في إثارة المدفون الذي يمور في مرجل صدره ، ففي قصيدته ( نقاء سرائرنا استعاراته السماء ) تبرز الأنا الجمعية الضاجة بالاستعارات ( نحن الذين أكلت الشمس أحلامنا / وشوتنا الأقاويل على موقد الشبهات ) ص 29 النص أعطى سيولة إيحائية باليأس من خلال الصور التي نقلت التجربة الجمعية لمصير أحلامنا على هذه الأرض ، إذ إن الأحلام يتكالب عليها ( الأكل / الشواء ) ولعل الشاعر قد أختار الشمس آكلة للأحلام تعبيراً رمزياً على مائية هذه الأحلام التي بخرتها الشمس الحارقة ، فالشمس هنا ليست دليل إضاءة وحياة ، وإنما جاءت دليل فناء وموت وهي رؤية كونية عميقة عند الشاعر عندما قلب الدلالة الشعرية المتداولة للشمس ، وأسبغ عليها دلالة أخرى ، وهذه ميزة تحسب له ، ويوغل الشاعر في المفارقة في مجموعته في تجلياته عن نفسه ، واعتداده بها … في قصيدته ( على البعد تكمن الرؤيا ) استطاع الشاعر انزال القمر وجعله منه ( القمر صافح الأرصفة / فصار واحداً … منا ) ص 43 ؛ فالنفس جوالة على الأرصفة ، ولا مأوى لعواطفها سوى القمر الذي صافحها من علو فعده الشاعر صديقاً … وفي مسارب الروح تبرز أرهاصة الاغتراب واضحة في بنية قصائده ، كما في قصيدة ( ذلك هو أنا ) فجدلية الاغتراب أوحى بها العنوان الذي يتجاذبه من طرفه الأول اسم الإشارة الدال على البعيد ، المفصول بضمير الذات الغائب ( هو ) الذي نقلنا إلى الطرف الآخر ، الضمير الأعمق المتحدث ( أنا ) لكي يجذب المتلقي إلى الإنصات إلى ذاته المتحدثة ( كل الكائنات لها مأوى / إلا أنا !! / لم أزل هكذا دائماً / أفتش في ( درابين ) الحياة / عن معنًى لحياتي / التي أحياها بلا … مأوى !! ) ص 80 فللشاعر يستثنى نفسه من الكائنات لا بكونه كائناً ، وإنما الفارق بينهما في المأوى ( الحلم ) الذي مازال قيد الحلم !! على الرغم من مفاتشة الشاعر عنه ، ونلاحظ أن توظيف مفردة ( الدرابين ) قد أوحت بتداوليتها الشعبية على حالة الشاعر النفسية التي ضاقت ذرعاً بالبحث المضني ، فضلاً عن أن اللفظة دلت على كثرة البحث في الأماكن الضيقة الكثيرة في الحياة ، دونما جدوى وأخيراً لم يحظ بوجود سر حياته هذه .. فهل يا ترى سيبقى بلا مأوى كما يقول ؟!!.
(1) أصفى من البياض / شعر عبد السادة البصري ، إتحاد أدباء البصرة 2008م .