23 ديسمبر، 2024 1:44 م

لست بصدد تقديم مقالة نقدية لمحاكمة النظم التي سقطت أو عرض رأي بشأن صواب أو خطأ تحرك الجماهير الثائرة كما أنني لا أنوي تحليل الأحداث بطريقة تقليدية تعرض الأسباب والنتائج وفق رؤية سياسية أو أيديولوجية وإنما كل ما أبغيه هو قراءة الأحداث بطريقة علمية موضوعية متجردة كمحاولة للبحث بأسلوب الفيزيائي عن القانون الطبيعي الذي يحكم التفاعلات الإجتماعية التي يمكن أن تقود إلى مثل هذه النتائج الغريبة إنطلاقا من مقدماتها البسيطة التي لا توحي بتلك النتائج الكبيرة أوعلى الأقل إلى ملامح من هذا القانون إن وجد.  إن ألتوصل إلى مثل هذا القانون لا يضمن دقة معقولة للتنبؤ بالأحداث الإجتماعية وانعكاساتها السياسية المستقبلية فحسب بل قد يتيح إمكانية التدخل في الزمان والمكان المناسبين لتوجيه التحولات وفق السيناريو المرغوب .                                                          بوعزيزي شاب تونسي بائع جوال على عربته البسيطة يتلقى صفعة من شرطية تحاول منعه من مصدر رزقه فتسود الحياة في عينه ويقرر الإنتحار بطريقة مبتكرة بإشعال النار في نفسه بعد إغراق جسده بالزيت  …. فكانت شرارة كسرت حاجز الخوف لدى الناس وأشعلت ثورة من الإحتجاجات لم تستطع معها كل أجهزة السلطة الامنية المتمرسة من السيطرة على الامور فيسقط النظام خلال أسابيع ويفر رئيسة خارج البلاد……..قصة لو قرأناها في إحدى الروايات لقلنا إنها خيالات كاتب ومع ذلك فقد حدثت واقعا أمام أنظار العالم المبهور.  هل كان بإمكان أكثرالمحللين السياسيين تمرسا وأفضل أساتذة الإجتماع علما بل وحتى فتاحي الفال وقارئي الفنجان الذين قد يحالفهم الحظ صدفة  توقع ولو بشكل تقريبي نوع النتائج التي تمخضت عنها تلك الصفعة من شرطي أو بالأحرى من شرطية لشاب من عامة الشعب في دولة من العالم الثالث يهان فيها المواطن كل يوم ويمارس فيها مثل هذا الظلم وأبشع منه على مدار الساعة دون أن يرمش للنظم الحاكمة طرف ؟. وما يزيد في غرابة الأحداث أن النتائج الدراماتيكية للصفعة لم تقتصر على سقوط نظام تونس الحاكم بل امتد كتسونامي هائل إلى الدول المجاورة فأجبر رئيس النظام المصري الذي يحكم البلاد منذ أكثر من ثلاثين عاماعلى الإستقالة, وأدى إلى مقتل الرئيس الليبي الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لما يزيد على أربعين عاما , واضطر الرئيس اليمني للتنحي عن منصبه, وثارت البحرين فتهدد نظامها لولا نجدة أشقائها في دول الخليج , وها هي سوريا تغلي منذ أكثر من عامين ولم يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود بعد . ولا زال الحدث يتفاعل والإحتجاجات تنمو في أكثر من بلد عربي وسيشمل ذلك دولا غيرعربية في المنطقة وربما مناطق أخرى من العالم والأيام القادمة حبلى بالأحداث المفتوحة على جميع الإحتمالات.,,, يا لها من صفعة هل هي مثال عملي على ما نسميه في الفيزياء ب ( تاثير الفراشة ) وفقا لنظرية الفوضى في الرياضيات  ؟. تلك النظرية التي تنطلق من مقولة لو أن فراشة رفت بجناحيها في البرازيل فستكون لتلك الحركه تأثير ما في أوروبا مثلاَ.                              كيف حدث ما حدث؟ وما هي العوامل التي تظافرت لتكلل الثورات الشعبية بالنجاح على الأقل في إسقاط نظم قائمة وقد كانت تبدو مستقرة لعقود من الزمن ؟ علما بأن ثورات وحراكات إجتماعية سابقة أكثرعنفا لم تفلح في زحزحة النظم القائمة في مجتمعاتنا العربية . سيقول أصحاب نظرية المؤامرة إنها صناعة غربية أو صهيونية , وقد يكونون على حق في وجود عامل خارجي أثر بدرجات متفاوتة على مسار الأحداث, ولكن الأحداث الأساسية كانت داخلية والملايين التي ثارت كانت مواطنين من عامة الشعب, فلو لم يكن هنالك إحتقان وإستعداد داخلي في مزاج المجتمع لما استطاعت الأصابع الخارجية أن تحدث كل هذا الحراك وتصنع كل هذه النتائج. إن قصور منهجية التحليل الإجتماعي والسياسي التقليديين عن التنبؤ بالتغيرات الإجتماعية المفصلية نوعا وتوقيتا بدقة معقولة لا تعني البتة ضعفا في مهارة المختصين في مراكزالخبرة ومدارس التحليل المتقدمة وإنما تعني محدودية في قدرة المنهجية المتبعة ذاتها في إستقصاء واحتساب تأثيركل العوامل المتشابكة الفاعلة في صياغة السلوك الجمعي في المنعطفات التاريخية الحاسمة التي تقود إلى التحولات الكبيرة.  إن كثرة وتنوع العوامل المؤثرة في التفاعلات المجتمعية وتعقيد العلاقات فيما بينها تفرض سقفا لإمكانية المنهجية التحليلية النوعية في استخلاص تنبؤات صحيحة لمآل الأحداث القائمة على المديات المتوسطة والطويلة , الأمر الذي يستدعي اللجوء إلى المعالجة الرياضية التي تتعامل بالأرقام بعد أن تربط بين كافة العوامل المؤثرة كل حسب وزن ثأثيره بمعادلات رياضية يمكن اقتباسها من حقول معرفية أخرى أثبتت قدرتها على التوقع الدقيق لنتائج أية أحداث أو تفاعلات ضمن تلك الحقول كما هو الحال في الفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم الطبيعية.  قد يكون ما أطرحه هنا غريبا أو غامض المعنى على القاريء, فلأستعين لغرض إزالة الغموض بمثال من الفيزياء في موضوع التنبؤ بالطقس.
ظل التنبؤ بالطقس قائما طيلة القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين على رسم خارطة التوزيعات الضغطية ضمن الرقعة الجغرافية المتاح فيها القياس الروتيني لعناصر الطقس ( كالضغط الجوي , ودرجة الحرارة , والرطوبة , وسرعة واتجاه الريح ) ومراقبة حركة المنظومات الجوية خلال الساعات الماضية وبافتراض استمرار الحركة بنفس المنوال يتم تخمين ما سيؤول اليه الضغط وبقية عناصرالطقس في الأربعة وعشرين ساعة القادمة أو لفترات أقصر أو أطول حسب مقتضى الحال ليقدم كتنبؤ جوي للجهات المستفيدة. ورغم نجاح هذا التوقع (المعتمد على تقييم  وتخمين نوعي وليس كمي) في أكثر الأحيان للفترات القصيرة إلا أنه يفشل فشلا ذريعا على المديات التي تزيد عن أربعة وعشرين ساعة كما يفشل حتى على المدى القصير في أوقات التغيرات الجوية المفاجئة والتي يكون توقع الطقس فيها أكثرأهمية وأبعد تأثيراَ. وفي عام 1920 طرح العالم الإنجليزي البارز ريتشاردسون مقاربة جديدة كليا تعتمد أسلوب النمذجة العددية من خلال تطبيق المعادلات الرياضية لقوانين الفيزياء على كل نقطة ضمن شبكة جغرافية واسعة من النقاط التي تغطي مساحة جغرافية واسعة قد تصل لكامل النصف الشمالي للكرة الأرضية لإحتساب ما سيؤول إليه الضغط الجوي في تلك النقطة بعد فترة زمنية قصيرة تقدر بالثواني أو أجزائها ثم يعاد الإحتساب ابتداءاً من الحالة الجديدة وللفترة الزمنية التالية وهكذا يكرر الحساب آلاف المرات لكل نقاط الشبكة التي هي بالآلاف أيضا وصولاَ إلى الأربعة وعشرين ساعة التالية وما بعدها . ورغم أن الإحتساب بهذه الطريقة استغرقت من ريتشارسون ستة شهور للتبؤ بحالة الجو لأربعة وعشرين ساعة تالية فقط فقد أقر العلماء المختصون بألمعية الطريقة من الناحية النظرية على الأقل  بالرغم من أن النتائج التي خرج بها كانت خاطئة بنسبة 300 % نظرا لأن المعادلات التي استخدمها في حينه كانت تقريبية أما لتسهيل وتسريع الحساب أولأن العلم لم يكن قد توصل إلى المعادلات الدقيقة التي تحكم التفاعلات بين العناصر الجوية المتعددة وآلياتها بالدقة الطلوبة بالإضافة إلى الثغرات الموجودة في محطات القياس في الصحارى والمناطق غير المأهولة فضلا عن البحار والمحيطات الشاسعة , ولأجل اختصار زمن الحسابات فقد تصور ريتشاردسون أن ممارسة أعمال التنبو بطريقته الجديدة تتطلب ملء قاعة البرت هول في لندن بآلاف الحاسبين لإنتاج التنبؤ في الوقت المناسب ولكن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع .
غير أن اختراع الحاسبات الإلكترونية في أربعينيات القرن الماضي شكل تعويضا أسرع وأدق عن آلاف الحاسبين الذين أقترحهم ريتشاردسون فكان العاملين في الأرصاد الجوية من أوائل المستفيدين من هذا الإختراع العبقري وها هي اليوم تنبؤاتهم الدقيقة باحوال الطقس لبضعة أيام بدقة وتفصيل تكاد تكون مؤكدة باعتماد أسلوب ريتشاردسون الذي جرت عليه تطويرات وتحسينات وفقا للتقدم الحاصل في علوم الجو عبر العقود التي تلت أيام ريتشاردسون .

علم نفس الجماهير
إن أول من تناول سلوك الجماهيروانعكاساتها الإجتماعية والسياسية بطريقة علمية هو عالم الإجتماع والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون عندما نشر في عام 1895 كتاباَ سماه “علم نفس الجماهير” . وقد مثل هذا الكتاب فتحا علميا فريدا في موضوعه إحدث وقعا كبيراعلى نطاقي السياسة والعلم حيث عالج من خلاله ليس علم النفس التقليدي الذي يتناول الفرد والنفسية الفردية بل خص بدراسته”النفسية الجمعية” التي تتحرك بموجبها الجماهير. لقد رفعت هذه الدراسة لوبون الى مصاف عظماء التاريخ من المفكرين الأفذاذ بل وقد جعلته الأستاذ الفكري لمرحلة بكاملها وأصبح كتابه مرجعاَ للتدريس في الجامعات وتمت ترجمته الى عشرات اللغات بما فيها العربية وصارت شخصيات العصر الفكرية والسياسية تخطب وده وتتعاقب على زيارته في بيته بما في ذلك رئيس الجمهورية الفرنسية  “ريمون بونكاريه” والرئيس الأمريكي “ثيودور روزفلت”  للأستماع لآرائه في مجال السياسة والمجتمع والإسترشاد بنصائحه. و”الجمهور” من وجهة النظرالنفسية والإجتماعية المركبة لدى لوبون هو ليس أي تكتل لمجموعة من الأفراد وإنما هو التجمع الذي يكتسب تحت ظروف معينة خصائص جديدة مختلفة تماما عن خصائص كل فرد في المجموعة, فتحت هذه الظروف تتشكل روح جماعية مؤقتة في الغالب ذات كينونة واحدة خاضعة لقانون الوحدة العقلية للجماهير. وعلى أساس هذا القانون تذوب الشخصية الواعية للأفراد وتتوجه أفكارهم ومشاعرهم باتجاه محدد حال بدء الجمهور النفسي بالتشكل. ومن المثير للإعجاب ملاحظة لوبون بأن ذلك لا يتطلب التواجد المتزامن للأفراد في مكان واحد حيث يمكن للآلاف المنفصلين عن بعضهم في زمن ما تحت تأثير بعض الإنفعالات العنيفة أو تحت تأثير حدث قومي عظيم ان يكتسبوا صفة الجمهور النفسي. وتتجلى صدقية ما ذهب إليه لوبون عملياَ في عصرنا الراهن حيث شكلت وسائل الإتصال الحديثة ومواقع التواصل الإجتماعي في الإنترنت كالفيس بوك والتويتر فضاءاَ فريداَ لتشكيل جمهور نفسي بملايين الأفراد عبر مواقع جغرافية مترامية الأطراف ضمن حركات الربيع العربي. وبموجب قانون الوحدة العقلية للجماهير كما وصفه لوبون فإن تحول الأفراد الى جمهور نفسي سوف يزودهم بنوع من الروح الجمعية التي تذوب في ثناياها الفروق الفردية بالأمزجة والإهتمامات ودرجات الذكاء ومستويات الثقافة ونوعية القيم والعقائد , حيث يحس ويفكر ويتحرك الجميع بطريقة موحدة مختلفة تماما عن سلوك كل فرد فيما لو كان خارج التكتل.
وفي هذا الصدد فقد وظف لوبون مصطلح اللاشعور الذي يشكل المحرك الأكبر للنفس البشرية مقارنة بالجوانب الواعية منها مبينا أن لهذا اللاشعور تأثير كبيرعلى آلية اشتغال العقل ونمط التفكير , فعلى صعيد الحياة الواعية لايمكن المقارنة بين عقلية عالم الفيزياء وبين البستاني البسيط مثلاَ ولكن على صعيد الحياة اللاواعية خصوصاَ فيما يتعلق بالعواطف والغرائز والعقائد الموروثة فإن الفروق تكاد تختفي بين البشر وعليه فإن الجمهور النفسي المتكون من خليط من الأفراد الذين يتفاوت مستوى ذكاءهم وثقافتهم وقيمهم وحسهم النقدي يعمل وفق نمط جمعي لا شعوري يفقد فيه البشر فرادتهم الذاتية وتذوب فية كفاءاتهم العقلية فتسيطر الخصائص اللاشعورية التي قد تتناقض مع خصائص الأفراد المكونة للجمهور.
إن ما يخسره الجمهور من الذكاء والحس النقدي وغيرها من صفات أفراده يربحه على شكل قوة أو شعور بالقوة يجعله منصاعا لبعض الغرائز البدائية فيندفع تلقائيا نحو أعمال عنيفة بل ووحشية أحياناَ كنتيجة لفقدانه الشعور بالمسؤولية وتحرره من الخوف من العقاب الذي يردعه عادة عن ارتكاب مثل هذه الأعمال .   ويشبه لوبون الجمهورالنفسي الذي تتحكم فيه قوى اللاشعور بالإنسان المنوم مغناطيسيا الذي تنشل إرادته الواعية ويصبح عبدا لمنومه الذي هو في هذه الحالة القائد أوالمحرض فيتصرف كما يتحرك القطيع بتوجيهات الراعي, ويصف العلاقة التنويمية بين الجمهور وقائده بأنها شبه دينية فالقائد يعتبر مثل النبي خارقا لجنس البشر مستقطباَ للعاطفة الجمعية على شكل خوف من القوة المفترضة فيه وخضوع أعمى لأوامره وعدم مناقشة عقائده التي تعتبر حقائق مطلقة وما عداها أخطاء مطلقة, فالعقائد لا تتولد لدى الجمهورعن طريق التفكيرالعميق والتحليل المنطقي والمحاكمة العقلانية المتأنية للأموروإنما عن طريق التحريض والعدوى والإيحاء التنويمي , وإذا كان الفرد يتقبل عادة الإعتراض ومناقشة عقائده وآرائه عموما فإن الجماهير ليس لديها الاستعداد للخوض في مثل هذه الأمور .
إن تضخم الثقة بالنفس لدى الجماهير كلما كبرعددها وانعدام حس المسؤولية والخوف من العقاب يدفعها للقيام بأعمال لا يأتيها الأفراد عادة فعند تحررالمغفل والتافه والحقود والجبان من الإحساس بدونيتهم سيشكلون قوة عنيفة هائلة,وهذا ما يفسر قدرة الجماهير على ارتكاب أبشع الأعمال وأكثرها تطرفاَ وهمجية كما أنه يفسر أيضاَ قدرتها إذا ما وجد الزعيم الصالح على اجتراح الأعمال البطولية وعلى التفاني والتضحية  من أجل القضايا النبيلة على نحو يتجاوز قدرات الإنسان المعزول. وعلى ذلك فإن سلوك الجمهور النفسي سلاح ذو حدين يمكن توظيفه في ارتكاب أبشع أنواع الجرائم كالنهب والقتل والسحل والتخريب كما يمكن توظيفه لتقديم أنبل أفعال التضحية والنزاهة والإيثار. ولأن حركة عموم الجماهير لا تنطلق عادة من دوافع المصالح الشخصية الضيقة على العكس من السلوك الفردي فليس من النادر أن يتحول وغد لئيم حين انصهاره في الجمهورالنفسي إلى مثال للبطولة وسموالأخلاق والمقدرة على التضحية بالنفس من أجل الآخرين.
إن الفيصل في اتجاه تحرك الجماهير سلبا أو إيجابا يتوقف على صفات القيادة أوالمحرضين ونوعية دوافعهم فانتهازية أغلب القادة والزعماء السياسيين وحساباتهم الأنانية الدنيئة وميكافيليتهم غالبا ما توظف سذاجة الجماهير كقوة غاشمة قابلة للإنفلات من قيود العقل والحس الإنساني ورادع التحضر, فإن نابليون مثلا الذي قاد مئات الآلاف من الرجال  إلى الموت إعترف قائلا : ” لم أستطع إنهاء حرب الفاندية إلا بعد أن تظاهرت بأنني كاثوليكي حقيقي ولم أستطع السيطرة في مصر إلا بعد أن تظاهرت بانني مسلم تقي , وعندما تظاهرت بأنني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا , ولو أتيح لي أن أحكم شعباَ من اليهود لأعدت هيكل سليمان من جديد.
وقد تناول عالم النفس الشهير سيغموند فرويد صاحب مدرسة التحليل النفسي موضوع علم نفس الجماهير أيضاَ , ورغم أنه أقر بريادة لوبون في الموضوع ودقة وشمولية توصيفه لنفسية الجماهيرالثائرة إلا أنه عاب عليه اقتصاره على التوصيف السطحي دون السبر في أعماق الحدث للتعليل والبحث عن الأسباب الدافعة لهذا السلوك . وإذا كان معجم لوبون لايتعدى مفاهيم العرق والتقاليد الموروثة والعاطفة الدينية والهيبة الزعامية كخزان تحتي تصدرعنه الروح الجمعية للجماهير فإن فرويد كعادته أدخل المكبوت من العواطف ذات الطبيعة الجنسية كخزان في اللاشعور يتحكم في تحريك الجماهير وان العلاقة بين الجمهور وقائده هي الآخرى من طبيعة جنسية وإن لم يظهرذلك في العلن وانكتم كهدف. غيرأن معالجة فرويد للموضوع وإن اتصفت ببعض العمق فإنها لم تتجاوزهي الأخرى التوصيف النوعي للدوافع الكامنة وراء حركة الجماهير ولم تتطرق الى توصيف أو معالجة كمية ولومبسطة للربط بين توقيت ونوعية الحركة الجماهيرية ومسبباتها وفقا لتشخيصه.
ومن جانبنا كفيزيائيين إذا أردنا أن نعبر عن نظرية لوبون بلغة فيزيائية فبالإمكان أن نتصورالأفراد كقوى أي ككميات إتجاهية متفاوتة من حيث القيمة والإتجاه وفقا لتنوع مشارب وطبائع الأفراد بكافة جوانبها ومدى قوة دوافعهم المحركة , ففي الظروف الإعتيادية إذا ما جمعنا هذه القوى في مجتمع ما جمعاَ إتجاهياَ كما يصطلح عليه الفيزيائيون والرياضيون تكون محصلة الجمع صفراَ أو قريباَ من الصفر نظراَ لأن اختلاف الإتجاهات يجعلها تلغي بعضها البعض فلا تشكل بالنتيجة قوة يعتد بها ضمن حياة المجتمع الرتيبة , أما إذا توافرت الظروف التي يتحدث عنها لوبون عند تشكل الجمهور النفسي فعندئذ يتوحد إتجاه المتجهات وتكون محصلتها قوة هائلة تساوي المجموع الحسابي لكل القوى الفردية للجمهور. فهل يمكن قياس هذه المتجهات الإجتماعية وتوصيفها كمياَ والتوصل الى قيمة العتبة التي يتحول عندها الجمهور الى جمهور نفسي وتنفجر الثورة ؟ ..أعتقد أن الجواب هو نعم  ولكن الأمر يحتاج لإنضاجه إلى تظافر جهود لأفراد عديدين وباختصاصات متعددة.

بساطة القوانين الطبيعية وصعوبة اكتشافها
سئل الفنان العبقري مايكل أنجلو ذات مرة كيف استطاع أن يصنع رائعته الفريدة “تمثال ديفيد” من صخرة صماء قبيحة المنظر فأجاب ببساطة بأنه لم يفعل سوى إزالة الأجزاء التي هي ليست ديفيد من الصخرة ! ورغم أن هذا الجواب البليغ ينبع من سمة التواضع لدى العظماء إلا أنه ينطوي على حقيقة لا جدال فيها فهو فعلاَ لم يصنع أجزاء التمثال ويركبها , وإن التمثال كان فعلا موجوداَ داخل الصخرة ولكنه يحتاج إلى عين خارقة لا تتوفر إلآ لدى أشخاص بعظمة مايكل أنجلو لرؤيته عبرالرخام , كذلك يحتاج إلى يد كيد الجراح الماهر لتحريره مما تراكم حوله من بقية الحجر. 
عبر بضعة القرون الأخيرة إهتم العلماء بمحاولة فهم الطبيعة واستنباط القوانين التي تحكم الأحداث ضمنها وكان همهم منصباَ على التوصل لصيغ رياضية تعبر عن هذه القوانين , ذلك أن الرياضيات تقود إلى التعامل مع الأرقام وبالتالي تفضي إلى نتائج دقيقة محددة تتجاوز التعابير الهلامية التي يفهمها الأفراد بكيفيات مختلفة . ورغم المصاعب التي تكتنف البحث عن قوانين الطبيعة فإن القوانين بحد ذاتها ليست معقدة ولا تدرك بساطتها إلا بعد أن يزيل الحجب عنها أحد عباقرة التاريخ , فهي كتمثال مايكل انجلو بسيطة الطبيعة ولكنها مطمورة ضمن تراكمات من المظاهر التي تصرف النظر العادي عن الجوهر المكنون . لنأخذ مثلا قانون الجذب العام الذي أوحى به سقوط التفاحة لإسحق نيوتن , كم تفاحة وغيرها من الأجسام تسقط كل دقيقة أمام أنظار الملايين ولكن نيوتن فقط (وقد أنارت طريقه جهود وأفكارغاليلو) رأى القانون عبر سقوط التفاحة والقانون بسيط جدا ولا يشكل فهمه معضلة حتى لغير المختصين وينص على أن بين أي جسمين هنالك قوة جذب تتناسب طرديا مع كتلتيهما وعكسيا مع مربع المسافة بينهما فكلما كبرت الكتلتان زادت قوة الجذب وكلما تباعد الجسمان عن بعضهما ضعفت تلك القوة . والمشكلة التي تخفي القانون عن العيون العادية هو طغيان قوة جذب الأرض لعظم كتلتها على كل قوى الجذب بين أي جسمين متاحين للمشاهدة في بيئة الأرض التي نعيش فيها مما لايتيح مجالا لملاحظة ظاهرة التجاذب بين الأجسام . والمدهش أن القانون وقد اكتشفه ووضع صيغته الرياضية نيوتن لا يقتصر تطبيقه على سقوط الأجسام ضمن البيئة الأرضية بل إنه يتحكم في كل حركة في الكون من حركة الكواكب وبقية الأجرام السماوية في مداراتها إلى مسارات السهام أوالقذائف النارية في طريقها إلى الهدف.
ويمكن التحدث بنفس النغمة عن بقية القوانين الطبيعية المكتشفة كقانون الطفو لأرخميدس الذي اكتشفه أثناء إستحمامه في حوض الحمام وقوانين كبلرفي الفلك أو قوانين مندل في الوراثة وحتى نظرية النشوء والإرتقاء والإنتخاب الطبيعي لدارون مع إختلاف في طبيعة الأخيرة غير الرياضية . ما أود قوله هنا أن كل القونين الطبيعية تبدو معقدة وعصية على الفهم والإكتشاف قبل كشفها ولكنها تسفر عن بساطتها ومنطقيتها وتصبح في متناول تلاميذ المدارس بعد أن يزيل الغموض عنها العباقرة من العلماء. أقول ذلك لانني أدرك سلفا بأن البعض سوف لن تروق له بل قد يسخر من محاولة توصيف المجتمع اي مجتمع بعواطف وميول ومعتقدات وعادات وتقاليد ودوافع وأهداف ومصا لح وأيديوجيات أفراده المتنوعة والمتنافرة ودرجات ذكائهم وتحصيلهم الثقافي المتفاوتة , بأرقام تخضع لعلاقات رياضية تتنبأ بمسار المجتمع وتتوقع مستقبله بدقة بل وتقدم سبل ووسائل لتوجيه المسار بالإتجاه المطلوب.
وأنا أذ أعي تماماَ مدى تعقيد الموضوع وتشابك تفرعا ته فإنني لا أطرح هنا سوى ملامح ولبنات متواضعة على طريق بناء نظرية متكاملة ( أو أجزاء منها ) فالأمرلا يمكن تغطيته بمجهود فردي بل يتطلب توافر جهود جبارة لجمع من المختصين في الرياضيات والعلوم الطبيعية والإجتماعية والنفسية والسياسية والإنسانية والإحصائية وعلوم الحاسبات وغيرها لتغطية الجوانب المتعددة التي ينطوي عليها الموضوع .
يتبع
[email protected]