يشير مصطلح القيم الإنسانية إلى مجموعة الأخلاق السامية والمبادئ التي ترعرع عليها الأفراد من مختلف الأجناس والفئات، فهي القواعد التي يرتكز عليها الشخص عند تعامله مع أعضاء المجتمع الآخرين وهي الأخلاق الفضيلة التي يتحلى بها كالصدق، والأمانة، وحب الآخرين، والتسامح، والعفو عن الخطأ، واجتناب الظلم والحقد، إضافة إلى الحرص على نشر الحب والود بين مختلف الدوائر القريبة للأفراد، وما إلى ذلك من الأُسس التي تدعو إليها جميع الديانات السماوية في خطابها المعلن والفكر الانساني المسالم. وتتفق الانسانية إلى أن هذه القيم هي الطريق الذي يخرج الإنسان من الظلام أو الجهل الفكري إلى العلم والنور، إذ إن التحلي بالقيم الإنسانية يساهم في قرارات الأفراد والمجتمعات وسيطرتهم على حياتهم الفكرية والسلوكية، ومن الممكن تمييز الفرد الذي يتحلى بتلك القيم عن غيره من خلال مساهماته وأفعاله بين أفراد عائلته، وزملائه في الجامعة أو في مكان العمل وفي المجتمع الأكبر وحتى الموقف مع المجتمعات الخارجية، بالإضافة إلى تصرفاته في الطرقات والقطاعات الحكومية والخاصة، إذ يلاحَظ أنه أكثر ميلًا لمساعدة الآخرين والمشاركة في الأعمال الخيرية والتطوعية.
مما لا شك فيه أن عالمنا اليوم يواجه تحديات ومشاكلَ كبيرة كالحروب وما ينتج عنها من كوارث وأضرار جسمية وصراعات، بالإضافة إلى عدد كبير من المشاكل السياسية والاقتصادية التي يعاني منها عدد كبير من الأفراد والمجتمعات في مختلف أنحاء العالم، ولا يمكن التغافل عن المخاطر البيئية التي تهدد صحة الكرة الأرضية في ظل إقبال الإنسان المتزايد على الاستهلاك والاستنزاف المستمر للطبيعة ومواردها . لو أمعن الأفراد والقيادات النظر في معظم تلك المشاكل لوجدوا أن حلها يكمن في التزام البشرية وتحليها بالقيم الإنسانية الغائبة عند العديد منهم، فغياب تلك القيم هو أحد الأسباب الرئيسة التي ساهمت في تفاقم تلك المشكلات ووصولها إلى حد الخطر، لذلك لا بد من نثر بذور القيم من جديد ومحاولة غرسها في الأجيال القادمة للحد من انهيار المجتمعات. ويشكل هنا وباء كورونا المستجد اختبارا حقيقيا للأنسان الفرد والمجتمعات الانسانية ومدى قدرتها على التضامن لدرء هذا الخطر الذي يهدد الانسانية جمعاء.
القيم الإنسانية مجموعة الأخلاق والعادات الاجتماعيّة والسلوكية والمبادئ والمثل التي ينشأ عليها الفرد منذ نعومة أظفاره، وتستمر معه طوال حياته، وتتمّ ممارستها بشكل عفوي وطبيعي في الحياة اليوميّة، في محاولة من الفرد للوصول إلى الرضا الذاتي واحترام المجتمع له، ويعرف علماء النفس القيم الإنسانيّة بأنها مجموعة من الانفعالات وردود الفعل الصادرة عن العقل تجاه موقف معيّن ناتج عما يختزنه الفرد في عقله ووجدانه من تأثر بالمجتمع والعادات والدين والفطرة تجاه هذا الموقف، فيعيش الإنسان وفق قيم معينة يطبقها أو يسعى للوصول إليها، كما تُعتبر نوعاً من أنواع المحدّدات أو الغايات، ويعد الوصول إليها نوعاً من أنواع النّجاح، وعلامة على حسن سير العمل في مراحله السابقة. وهنا يجب الاشارة أن القيم الانسانية وتمثلها كسلوك عقلي ومعرفي يجب ان لا تكون انتقائية ومتجزئة, فالموقف الانساني اتجاه المجتمعات الداخلية غير قابل عن الانفصال عن الموقف من المجتمعات الخارجية.
ولكن في المنعطفات الخاصة والاحداث المفاجئة, بما فيها الكوارث الاجتماعية والطبيعة حيث يختل فيها البعد العقلاني في تفسير الاحداث, ومخالفا لما ذكرناه في السياقات الطبيعية, حيث السلوك الجمعي سيد الموقف, وهو سلوك غير منظم ينشأ تلقائيا, ولا تكون له خطة تحكم مساره مما يجعل التنبؤ بتطوراته صعبا, وهو يعتمد بشكل كبير على التأثير المتبادل بين الافراد المشاركين فيه. وهنا تتراجع الشخصية الواعية عن الانخراط في السلوك الجمعي, في حين يتولى اللاوعي الجمعي توجيه سلوك من يفتقرون للوعي لا سيما وأن الاشاعات تشكل مادة دسمة في ظل هيمنة اجواء الاحتقان والتوتر والغموض, بسبب الاعتماد على تناقل الأخبار غير المؤكدة والمتلونة بالعاطفة, وذلك في ظل غياب المصادر الموثوقة للمعلومات, وبالتالي يتحول هنا جموع من الحشود متقبلون للأيحاء وسريعوا التأثر بالقيادة ولا يحتاجون سوى لدفعة صغيرة ليقتفوا أثر قدوتهم ولا يكونوا المبادرين في الغالب, وتشكل هنا العدوى الاجتماعية في خلق سلوكيات متشابهة على خلفية تشابه الجموع في الحاجات والدوافع والاهداف.
ويشكل وباء كورونا وانتقاله من موطنه الأصلي في الصين ليضرب أوربا ومدنها وعواصمها وقراها بتلك السرعة المخيفة, مادة خصبة للواقعين تحت تأثير السلوك الجمعي والمتأثرين بالخطابات السياسية والدينية العاطفية, وقد رأوا في وباء كورونا وهو يهاجم اوربا مادة للتشفع والشماتة والحقد, ولكن حين ضرب الوباء المجتمعات شرقا وغربا ولم يستثني دعاة ” الفرقة الناجية “, ولم يترك الوباء الاماكن المقدسة في اغلب الاديان وخاصة السماوية إلا وضربها, حتى عادوا الى سيمفونية” اختبار صبر المؤمن عندما يبتلى “. وتجري على خلفية اخلاق الشماتة والحقد دعاوى بزوال الغرب ونظامه لكي تكون القيادة بيد الصين “وحلفائهم ” من الأنظمة والحركات المتخلفة والتي لا ترى العالم إلا من خلال مصالحها الآنية الضيقة, وهم لا يعرفون شيئا عن النظام الصيني إلا فقط بجزئية خلافه مع الغرب.
جهلة القوم لا يرغبون ان يفهموا ان الغرب ليس مجرد كيانات عابرة، ليس مجرد حكومات تذهب وتجيء، بل ليس مجرد دول تنشأ وتزول، وأكثر من ذلك؛ الغرب ليس مجرد دورة حضارية سرعان ما تتلاشى، الغرب ليس عرقا يضعف أو يندثر، الغرب ليس تشكلا إرادويا قابلا للتفكك والاضمحلال عند أول أزمة عاصفة، بل إن حضارة الغرب ـ وفي سياق تاريخ الغرب ذاته ـ ليست نتوءا طارئا، ليست صدفة مجانية، الغرب/ حضارة الغرب هي تاريخ طويل من النمو المتعاضد ذي الجذور الراسخة التي يستحيل على العواصف انتزاعها/ اجتثاثها؛ مهما كانت قادرة على مشاكسة الأغصان، بل وعلى تكسير بعضها، إذ البقاء ـ قبل كل شيء، وبعد كل شيء، ـ هو لأصل الشجرة التي لن يضيرها مرور الخريف بها كفصل عابر في دورة حياة تمتد لآلاف السنين. وهذا الرأي هو ليست انتقاص من النموذج الصيني في تقديري الشخصي, بل ان لكل نموذج طريقته في البقاء في عملية الصراع, والحياة تزكي هذا النظام او ذاك على خلفية مخرجاته الاجتماعية والصحية والاقتصادية ومستويات الرفاه الاجتماعي بعيدا عن انحيازتنا العاطفية لهذا النظام او ذاك.
والحقيقة المُرة الغائبة في اسطوانة العقاب الالهي للغرب وشفاء الصين التي تبرز على مواقع التواصل الالكتروني، أنها نوع من التشفي بالآخرين، وجزء من سيكولوجية الشماتة كأحد المكوّنات النفسية للشعوب المأزومة، وأحد ممارسات الأُمم المقهورة، التي تعاني الظلم والاضطهاد، وطال عهدها بالفساد والاستبداد، وضربت عليها حالة العجز والاحباط، وأُصيبت بقلة الحيلة وانعدام الفاعلية، ونزعت منها رسالتها، وانحرفت بوصلتها، فلا زالت تمارس المرواحة في نفس المكان والزمان؛ فانشغلت بالشماتة والتشفي في بعضها البعض: جماعات دينية، وفرق مذهبية، وأحزاب سياسية، وطوائف عرقية. وانهمكت بالشماتة والتشفي بغيرها من الآخرين والمنافسين والخصوم والأعداء، بدلاً من إصلاح حالها، وألتهت بتفسير مصائب الآخرين عوضاً عن تفسير مصائبها، فما أغنى ذلك عنها شيئاً، وهل تُغني الشماتة من تقدم، أم يُسمن التشفي من تطور الضعيف المقهور.
في النهاية، فإن الشماتة جزء من تركيبتنا البشرية الخالصة، في بعض الأحيان تكون طبيعية، لكن في أحيان أخرى تصبح شيطانية بالفعل كما قال شوبنهاور “أن تشعر بالغيرة، فذلك طبيعي، لكن حينما تشمت، فذلك شيطاني” في حالات التنافس الشديد والصراع السياسي والاجتماعي السياسي والاجتماعي -وما أكثرها في عالمنا المعاصر- تظهر الشماتة لتسيطر على الموقف، وفي مرحلة ما رُبما تُنتزع إنسانيتنا ونتعامل مع الآخرين كحيوانات، لا مشكة أن يتم قتلهم أو اغتصابهم أو اعتقالهم لمجرد أننا نختلف معهم في الآراء السياسية، في تلك النقطة نترك أعظم منجزات البشر إلى الآن خلال 300 ألف سنة من وجودهم وتطورهم، وهو تعظيم الإنسان، وندخل بكل ثقة وعنترية إلى عالم من الفوضى. هذا هو ما نراه الآن، هذا هو العالم الذي تعيش فيه بينما تقرأ هذه الكلمات.
لكن على الرغم من كل ذلك، فإننا لم نحقق بعد فهما كاملا لهذا السلوك البشري اللافت للانتباه، تحاول بعض الأبحاث أن تربطه بتقدير لشخص لذاته، فكلما كان تقديرك لذاتك أقل كنت أكثر شماتة في الآخرين، ربما لأجل تحقيق الذات في الشعور بالسعادة تجاه مصائب الآخرين، من جهة أخرى فإنها لا شك ترتبط بالصفات المظلمة للطبيعة البشرية، والتي تضم النرجسية والسادية والسيكوباتية والشعور المتضخم بالذات، إلخ، هذا المجال البحثي ما زال في أوج نشاطه، خاصة لأغراض سياسية.
وفي الختام فأن فيروس كورونا ليست فيروسا منحازا لملة او دين او مذهب او جنس او قومية دون اخرى او مجتمع دون آخر او بقعة جغروسياسية دون اخرى, فيروس كورونا يضرب حيث تتوفر البيئة الصالحة لحضوره وحيث قصور الاجراءات لصده, وبالتالي فأن المجتمعات الانسانية جمعاء وبأختلاف نظمها السياسية وطبيعة توجهاتها معنية بتوحيد جهودها على المستوى الرسمي والشعبي للقضاء على هذا الوباء ولكي تنطلق الانسانية من جديد وتستمر في عطائها في مختلف المجالات المعرفية والعلمية والاقتصادية والسياسية, واما النظم والافكار المتخلفة فمصيرها القاع والزوال.