22 ديسمبر، 2024 9:46 م

فيروز – سيدة الفصول والثلج والبحر ! 

فيروز – سيدة الفصول والثلج والبحر ! 

فيروز ليست وطناً بل بلاد، وليست امرأة بل نساء، وليست قصيدة بل سجادة شعر، وليست معاصرة بل عابرة للتواريخ، وليست صباحية بل ملح بمساحة اليوم، وليست شتوية بل ثلجية بيضاء، وشمس صيف رائقة، وربيع فرح وغناء، وخريف تتراكم أوراقه الصفر تحت شبابيكنا ما دمنا نعيش.

وحين ينجلي الصبح، تُصالح المحطات زوارَها بصوت فيروز، فهي شيوعية موغلة في حب الشغيلة حين تردد شعر بديع خيري العفوي على نغم سيد درويش نادر المثال:
صبّح الصباح فتح يا عليم…والجيب ما فيهش و لا مليم
بس المزاج رايق و سليم…باب الأمل بابك يا رحيم
وهي تغادر سراعاً “وصفنا لها بالشيوعية” حين تصبّر الفقير بالاتكال على الرب الكريم ( دون أن تصادر حقوق الآخرين في ربهم ودون أن تسميه بوصف غير محايد والفضل هنا لبديع خيري الذي عرفناه ممثلا ولم نعرفه شاعرا مرهفا بهذه الحكمة)، لكنها ليست صرخات أسلمة بغيضة ولا تكبيرات الكراهية التي نسمعها في جلّ المساجد اليوم، بل هي لغة جداتنا الرائقة وكلماتهن البريئة وهي تدعو لنا بالتوفيق في كل خطانا وأيامنا:
الصبر طيب عال…أيه غير الأحوال
يا اللي معاك المال…برضه الفقير له رب كريم
وحين ينحرف ميل المحطة الى دمشق صباحا، يشدو صوتها من الحقل حليبا وحنطة وقطنا وياسمين رقيق:
طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة
يللا بنا نملا و نحلب لبن الجاموسة
لكنها لم تكن قط صباحية، بل إنّ الليل معها في كل الثواني يكتب شعرا ويدوزن لحنا يشاغل الساهرين:
سَكَنَ الليلْ وفي ثوب السكونْ.. تَخْتَبِي الأحلامْ
وَسَعَى البدرْ وللبدرِ عُيُونْ .. تَرْصُدُ الأيامْ
وسرعان ما تغادر فيروز الرحبانية لغة جبران العذبة الراقية الى لغة أنعم وأبسط لتعاتب الليل وترجوه بلغة عاشق لا ينتظر:
ليلية بترجع يا ليل… و بتسأل عن ناس
و بتسقيهن يا هالليل… كل واحد من كاس
غبلك شي ليلة يا ليل… و انسانا يا ليل يا ليل
ولا تلبث أن تتحرك دفينة في قلوبنا مخاوف من ظلمات الليالي وفيروز تطلب حبيبها أن يعود سريعاً قبل أن يرخي الظلام ستائره عليها حيث تكون:
أنا خوفي من عتم الليل و الليل و حرامي
يا حبيبي تعا قبل الليل و يا عيني لا تنامي
يا حبيبي لا تغيب كتير تتأخر ليلية
ما بدي هدايا حرير أسوارة عادية
وتعود لتنشد الخلوة آخر العمر مع حبيب لا يجادل ولا يطالب ولا يسأل، بل يحبُّ دون انتظار جزاء:
خلي بواب الليل علينا مسكرين
آه ولا يعطش حدا منا ولا يجوع
وهكا كنّا على مدى العمر عاشقين نتدفأ بأحبتنا قبل أن تلوثنا حروب الساسة واللصوص والدجالين وتُسكتنا مساجد الكراهية ومشاريع الأسلمة السنية والشيعية في بقايا البلدان. وسرعان ما انطلقت مشاريع الوسخ السياسي في لبنان وطن فيروز الذي غنت له :
سألوني شو صاير ببلد العيد
مزروعة عالداير نار و بواريد
قلتلن بلدنا عم يخلق جديد
لبنان الكرامة و الشعب العنيد
لكن هذا عزاء وليس حقيقة، فاحترق لبنان بحرب ما زالت آثارها حتى اليوم، حيث التيار الكهربائي مشروع خصخصة متقطّع رحل جزء منه مع رفيق الحريري الذي أقامه كحل للخروج من الأزمة بعد الحرب، والقمامة مشروع للفاسدين يغرق فيه الفقراء. وفيروز لا تفرّق بين الجميع بل تراه وطنا واحداً خربه اللصوص والفاسدون الذين مولتهم أنظمة العرب كافة، فكان لبنان بوصلة الوجع العربي رغم إرادة أهله:
بحبك يا لبنان يا وطني بحبك
بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك
تسأل شو بني و شو اللي ما بني
بحبك يا لبنان يا وطني
بقيت فيروز “أم زياد” تسمو فوق خلافات السياسة التي مزقتنا، وبقيت تغني للمدن والبلدان والأوطان التي تضم العاشقين والتي تصنع أمهات والتي تنتج رجالا يبنون أوطانهم وأسرهم ولا يقتلون أو يخربون، وهكذا غنت للعواصم دون أن تمدح الزعماء والرؤساء والقادة، فهي مع الناس وليست في رحاب القصور، وفي عام 1976 غنت بقاعة الخلد في بغداد وأسرت قلوب شعب الرافدين فبقى ينصت لها واجماً:
بغداد و الشعراء و الصور
ذهب الزمان و ضوعه العطر
يا ألف ليلة يا مكملة الأعراس
يغسل وجهك القمر
فجاش العراقيون بها طربا وماجوا، ونُسبت القصيدة الى شفيق الكمالي والى سعيد عقل والى أسماء كثيرة، لكن البحث كشف أنها من بيت الرحابنة لم تغادرهم، وكل ما خالف ذلك ادعاءات:
عيناك يا بغداد أغنية
يغنى الوجود بها ويختصر
لم يُذكر الأحرار في وطن
إلا و أهلوك العلى ذكروا
ومع مصر غنت فيروز المحبة بطريقة أخرى، فذهبت الى لؤلؤة المتوسط العريقة وغنت لها:
شطّ اسكندرية .. يا شطّ الهوى
رُحنا اسكندرية .. رمانا الهوى
يا دنيا هنيّة .. وليالي رضيّة
أحملها بعينيّا .. شطّ اسكندرية
وهكذا بقي الروح المصري اللعوب الطيب قريبا من ضمير قلبها وهو يهتز برياح المتوسط على شاطئ اسكندرية الفسيح، فتعاند المياه الشط .
أما الفصول، فهي سيدة الفصول بلا منازع، وهي التي تُهيّج شوق العرب الى الشتاء والثلج والمطر حيث تعزّ هذه المحاسن وتُمسي أمانٍ في قحط صحارى خلفها جفاف أنهرنا المسروقة:
رجعت الشتوية…رجعت الشتوية
ضل افتكر فيه…ضل افتكر فيه
رجعت الشتوية
وسرعان ما يتعثر كلُّ هذا الشوق ويبقى متواريا خلف باب تئن مفاصله بصدأ المدن الندية الناطرة للمحبين:
يا حبيبي الهوى غلاب…عجل و تعال السنة ورا الباب
شتوية و ضجر و ليل…و أنا عم أنطر على الباب
ولو فيه يا عيني… خبيك بعينيّ
رجعت الشتوية.
ولا ينتهي الشتاء هنا، بل يلازمها حتى في تفاصيل المراهقة الدافئة القديمة التي يسرقها العاشقون من بعضهم بلا حياء ولا وجل مادام العشق رايتهم البيضاء المسالمة:
في قهوة عالمفرق في موقد و في نار
نبقى أنا و حبيبي نفرشها بالأسرار
جيت لقيت فيها عشاق اتنين زغار
قعدوا على مقاعدنا سرقوا منا المشوار
وتسير طريق المراهقة حتى آخره بلا وجل شرقي، بل تُحب أن تُعلن عن مشاريع حب وعروض منوعة، فيعاكسها شاب وهي تقف بانتظار القطار أو الحافلة بضاحية بيروتية:
ع الموقف ركاب وليل…وبنية مهيوبة
وشب يقلهاّ صيف وليل…وتقلّه مخطوبة
ودون تصريح بذيء جارح، ينتهي المشهد حين تذهب معه لخلوة حب لا نعلم تفاصيلها لكن المناخ يشي بها:
سيارة صغيرة…والليل والغيرة
والعشاق اتنين اتنين…ماحدا عارف لوين
أما الصيف فهو معها بأنفاسه المرحة وبفساتين الصبايا وهي تتقاصر حاسرة عن أحلى مواطن الحسن، وهو مرح مقيم يعززه نغم رحباني سريع الوقع يفوح عرق صيفه من أحلى البنات:
آخر إيام الصيفية… و الصبية شويه شويه
وصلت عساحة ميس الريم… و إنقطعت فيها العربية
آخر إيام المشاوير… في غيمة زرقا و برد كتير
والخريف، اواه ه ه ه هٍ لخريف تعلنه فيروز بحنين القوافي وحافات النغم الحزين، فهو يبدأ في أيلول، شهر الحزن العراقي الذي أورث شعب اوروك حرباً خلّفت حروبا:
ورقو الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك
ذكرني و ورقو دهب مشغول ذكرني فيك
رجع أيلول وأنت بعيد بغيمة حزينة قمرها وحيد
بيصير يبكيني شتي أيلول و يفيقني عليك يا حبيب
ولم تغن فيروز للربيع إلا مرة واحدة عام 1958 وقد يكون هذا مرتبطاً بكآبة السياسة العربية الخائبة، وللمرء أن يسال ألم تكن فيروز تحب الربيع، أم أنّها نبوءة بظلام “الربيع العربي”؟
لا تنسني عاد الربيع…تلالنا الزواهي لحن هني
و في الربى طير وجيع…يحكي عن الملاهي في موطني
وحين هاجر العاشقون راغمين عن أوطانٍ هدّمها الجاهلون والطغاة والقتلة واستباحها اللصوص والسفلة، بقيت بيوتهم تئن شوقاً للراحلين الى غربة لا حدود لها. بيوت طُرد عنها أهلها، وبيوت تداعت في غياب الغائبين المهملين، بيوت بلا أبواب، أو – وياللغصة- بأبواب موصدة. بيوت أحبتنا التي هجرنا فيها حبيباتنا الرائعات المتعثرات بغدرنا السافل، حبيباتنا اللاتي جعلهن عبثنا القهري مسكينات يثرن العطف، ذهاباّ الى حروب العرب والفرس والسنة والشيعة والمسيحين والكرد، أو هروباً من سكاكين الطغاة .
بيتي أنا بيتك وما الي حدا…من كتر ماناديتك وسع المدى
نطرتك ع بابي وع كل البواب…كتبتلك عذابي ع شمس الغياب
لا تهملني لاتنساني…ما الي غيرك لاتنساني
هذه الاستغاثة الصادرة من قلب حبيبة لا تملك الا أن تخاطب غيباً تعلّق بشمس أو بقمر أو بمدى تائه بلا حدود، فباتت كل الطرق العتيقة الى بيتها موحشة شائكة، ولم يعد يصلها من الحبيب الغادر الهارب طارش ولا طائش:
بلدي صارت منفى طرقاتي غطاها الشوك والأعشاب البرية
ابعتلي بها الليل من عندك حدا يطل عليه
لا تهملني لا تنساني…ياشمس المساكين
من أرض الخوف منندهلك….ياشمس المساكين.
ورحلن الحبيبات المهجورات الى أوطانٍ لا تطرد أهلها، الى بيوت مشرعة أبوابها للنور، ومروج لا تتلفها عجلات الحمقى وقناني السكارى التافهين. وادركن أنّ الغدر سمة لا فكاك منها في ابطالهن التائهين، فزعلن، وزعلت فيروز لتغني:
زعلي طوّل أنا وياك…وسنين بقيت
جرّب فيهن أنا إنساك…ما قدرت نسيت
وفي نهاية الحزن وجدت نفسها على مائدة باريسية في ليل الاليزيه، فاتكأت المنضدة ووجها قرب شمعة ناست بضوء على زجاج مكان يواجه مسرح روبرت حسين، وغنت بلا تردد ولا وجل:
يا ريتك هون حبيبي و ليل…ويكون نبيد وشمع الليل
وأكتبلك عـ ورقة حتى ما قول…ما بقدر قول
يا ريتك مش رايح…يا ريتك تبقى، بتبقى عطول.